Print
سارة شهيد

ابن رشد كعزاء في فقدان المكتبات خلال الحرب

9 فبراير 2017
أمكنة
يقال إنه أثناء نقل رفات ابن رشد إلى قرطبة، حُمل نعشه على طرف من الدابة، ووضعت حزمة من كتبه قبالته على الطرف الآخر لتوازن جثته. لقد كانت تلك الصورة حاضرة في ذهني دائماً كمعضلة لا حل لها، هل يساوي الإنسان في قيمته سوى حزمة من الكتب توازن جثته؟ هل على الإنسان أن يدفع الثمن ويتقبل نصيبه من العدم لينجو العلم، أم علينا أن نقدم الكتب قرباناً لإنقاذ الإنسان؟

عندما وقفت أمام المكتبة الوقفية بحلب، وهي كنز حلب الثقافي، أعاد منظرها إلى ذهني صورة ابن رشد وكتبه كما أعاد لي جميع تلك التساؤلات التي بقيت من دون إجابة.

تعتبر المدرسة الوقفية منارة حلب إلى العالم، وقد كانت تحتوي على كامل المخطوطات التي بقيت في سائر المكتبات القديمة في المدينة، وقد تأسست عام 1926 في مكان المدرسة الشرفية سابقاً وهي أول مدرسة في حلب، بجانب الجامع الأموي الكبير.

تضم المكتبة الآلاف من الكتب والمخطوطات التي تم جمعها من مختلف المدارس والمساجد والتكايا في حلب ومنها المدرسة الشرفية، المدرسة العثمانية، المدرسة الأحمدية، المدرسة المنصورية، المدرسة الخسروية، التكية الإخلاصية، التكية المولوية، الزاوية الهلالية، المكتبة الصديقية، مع ما تبقى من كتب في الخزانتين الموجودتين في التربة الوفائية والزاوية الوفائية، بقايا خزانة آل الكواكبي، وخزانة مدرسة الشيخ أبي يحيى الكواكبي، وبالطبع خزانة الجامع الأموي الكبير بما فيها من كتب كانت موجودة في خزانة آل الجزار، بالإضافة إلى الكتب التي تم التبرع بها مثل كتب محمد مرعي باشا الملاح أحد أهم وجهاء حلب.


لم تكن المكتبة مجرد مكان لحفظ الكتب بل كانت أشبه بمتحف للمخطوطات واللوحات والأدوات القديمة بالإضافة إلى قيامها بأعمال أخرى أهمها ترميم المخطوطات القديمة وغير ذلك.


أدرك في قرارة نفسي أن للمكتبات دائماً المصير والقدر ذاته، فجميع المكتبات الأثرية بشكل عام وفي حلب كانت عرضة للدمار لأسباب عديدة منها: الحروب أو الكوارث مثل المكتبة الخسروية التي تضررت إثر الزلزال الكبير "الزلزلة العظمى" في حلب حيث تحولت إلى ما يشبه مركز إيواء لعدد من الفقراء والدراويش الذين عاثوا فيها فساداً، استهتار الورثة مثلاً، أخذ الكتب من دون رادع مثل الكتب التي حملها معه صلاح الدين، عدم إدراك قيمتها والمتاجرة بها، السرقات، المصادرة، الحرق، النهب مثل الكتب التي نهبها تيمورلنك، عدم وجود إشراف كاف لملاحقة الكتب التي يتم استعارتها مثل الكتب التي قام باستعارتها العديد من الأشخاص أو الدراويش قديماً من دون إعادتها، عدم وجود بيئة مناسبة لحفظ الكتب، مثل الكتب التي كانت موجودة في الجامع الأموي والتي تعرضت للعفن لكونها مكشوفة من دون اهتمام كاف.

اليوم وإثر ما تعرضت له المكتبة مع الجامع الأموي من قذائف وغيرها يقال إن المكتبة قد احترقت بأكملها باستثناء قاعة المحاضرات ومستودع المخطوطات والأدوات الفلكية وبعض الوثائق والسندات المكتوبة باللغة العثمانية مع قليل من اللوحات القماشية الأثرية. وقد تم سرقة ما تبقى منها بعد أن تم نقلها سابقاً في عام 2014 مع منبر الجامع الأموي وباب الوالي الأثري، لتختفي الآن مع عدد كبير من مقتنيات المتاحف وغيرها وتصبح في مكان لا يعلمه إلا الله.


خلال زيارتي لها منذ عدة أيام كانت قاعاتها مشوهة وسوداء، ويبدو أنها قد تحولت إلى مقر ما، رفوفها أشبه بخردة بائسة من الحديد المحروق، وما تبقى من الرفوف التي ما زالت راسخة مكانها كانت تحمل فوقها كتلاً من الرماد الأبيض، اقتربت منه لأرى آثاراً وأشكالاً لأشياء كانت كتباً فيما مضى، ألمسها بيدي فتستحيل غباراً لا أكثر. لم يكن هذا المشهد غريباً عليّ، فمكتبة جدّي قد شهدت المصير ذاته أيضاً تلك المكتبة التي كانت فيها بداياتي الأولى في القراءة. العديد من الأصدقاء فقدوا مكتباتهم أيضاً بطرق مشابهة، لم يسرقها أحد بالطبع لأنهم لا يرون فيها أي قيمة، بعضها احترق، البعض تم حرقه بغرض التدفئة، وهناك من وجد كتبه وقد فرشت أرض المنزل مع ما تبقى من حطام وهناك غيرها الكثير من القصص.


يقال أيضاً إن كتب ابن رشد التي حفظها لنا التاريخ، تم حفظها بسبب ترجمتها أو نقلها للعبرية، حيث عمد عدد من الحاخامات في إسبانيا -وعلى إثر ملاحقة الموحدين للفلاسفة وآثارهم الفلسفية بحجة إفسادها الدين- إلى نقل بعض المخطوطات العربية وبعدها قاموا بترجمتها إلى العبرية.

التاريخ يعيد نفسه كما يقال، وها نحن نفقد مكتباتنا - والمكتبة الوقفية أهمها - كما فقدناها عشرات المرات بل ربما المئات قبل ذلك، وليس لنا إلا أن نتمنى لها مصيراً مشابهاً لكتب ابن رشد التي يجب أن نجعل منها عزاءً لنا في فقداننا أحد أهم الكنوز التراثية في المدينة، لربما سنجدها بعد فترة من الزمن وقد توزعت في مختلف أصقاع الأرض كغيرها من المكتبات التي تشتت كتبها سابقاً، أو أننا قد نكتشف بأن مشروع تحويل تلك المخطوطات إلى نسخ رقمية قد تم إنجازه بالكامل ليصبح لدينا نسخة وإن كانت وهمية عن ذلك التراث، لا أحد يعلم، وحده التاريخ من يقف ضاحكاً مفاجئاً الجميع.