Print
ياسر صاروط

"ساحة الشهداء": من مشانق "السفاح" إلى الحراك الشبابي

31 ديسمبر 2016
أمكنة

كنت في التاسعة عشرة من عمري عندما اندلع طوفان الدم والدمار الذي سُميّ الحرب الأهلية اللبنانية. أي أنني أنتمي إلى الجيل المحظوظ الذي عاصر العصر الذهبي ﻟﻟ"بلد"، كما كنا نسمّي الوسط التجاري لمدينة بيروت، قبل أن تقضي عليه قنابل الحرب وجرّافات السلام، وبالطبع قبل أن يأخذ ﺑ"اللبنانية الحديثة" اسم "الداون تاون" أو اختصاراً "دي تي"، أو اﻟ"سوليدير" كما يطلق عليه بعضهم نسبةً إلى الشركة التي تولّت أموره منذ منتصف التسعينيات.


كتب، أعياد ومظاهرات

كنّا أطفالاً وكانت البلد، وخاصةً ساحتها الكبرى، ساحة الشهداء، وجهتنا المفضّلة، أو بالأحرى مقصدنا الإلزامي في كثير من المناسبات. "ننزل" إليها مع أمهاتنا لشراء الثياب "الجديدة" من سوق "البالة" قبل الأعياد. ونفترش، في مطلع موسم المدرسة كما المئات من التلاميذ، مساحة صغيرة من باحة مبنى العازارية على كتف الساحة لنبيع كتب السنة المنصرمة ونشتري، بلهفة وزهو، كتب السنة الموشكة على الانطلاق. ثم نقصد إحدى المكتبات الكثيرة المنتشرة في أطراف الساحة لشراء الدفاتر والأقلام (ربما يعود غرامي برائحة الورق والحبر إلى تلك الأيام). في بعض المناسبات الوطنية، كعيد الشجرة مثلاً، كنا نسير من المدرسة إلى الساحة بخطى موقّعة على موسيقى الطبول والصنوج ضمن تشكيلاتنا الكشفية، لنشارك، إلى جانب الكثير من المنظّمات المماثلة، بفعاليات الاحتفال. غير أن الفرحة الكبرى لِشلّة الأولاد التي كنّا عليها، كانت الذهاب إلى البلد في الأعياد. حين تكون جيوبنا قد امتلأت بالنقود من "العيديّات" التي تكرّم الأهل والأقارب علينا بها، ويكون تبديدها على ملذّاتنا البريئة مسموحاً ومقبولاً (التبذير خارج أيام الأعياد كان خطيئة لا نملك ارتكابها). ولكني الآن، مع محاولتي استرجاع ذلك الشعور الذي كنت أحس به تلك الأيام، لا أعتقد أن سندويش الفلافل من عند "فريحة" أو مقانق "القبرصلي"، ولا كأس عصير القصب عند "الزين" أو شراب عرق السوس عند "السوّاس"، ولا مشاهدة أفلام المغامرات و"الكوي بوي" في صالات "الأمبير"، "دنيا"، "الأوبرا" أو "الريفولي" هي وحدها ما كانت تملأ قلوبنا الصغيرة بالحبور والجذل. كان الانعتاق، ولو مؤقتاً، من سلطة الأهل من ناحية، والشعور بالانتماء إلى العالم الواسع، عالم "الكبار" الصاخب بالألوان والروائح والأصوات من ناحية أخرى، هو ما كان يعطينا ذاك المزيج العصيّ على الوصف من مشاعر الفرح، الفخر والاعتزاز.

كبرنا قليلاً وبقيت الساحة وجهتنا الإلزامية أيضاً من أجل تنقلاتنا داخل وخارج بيروت، فقد كانت الساحة نقطة انطلاق غالبية سيارات الأجرة والباصات إلى مختلف أحياء العاصمة، كما إلى معظم الأنحاء في الجبل، البقاع، الشمال والجنوب. كبرنا قليلاً وبدأت جذوة التوق إلى العدالة تضطرم في أفئدتنا. وبدأنا نشارك في الإضرابات والمظاهرات السياسية والمطلبية. وهنا أيضاً كان "البلد" وساحته الكبرى مسرح النضال وسدرة المنتهى لكلّ تحرّك، سواء أكان احتجاجاً على تخاذل الدولة إزاء الاعتداءات الإسرائيلية، أم تأييداً للمقاومة الفلسطينية، أم مطالبة بتعريب المناهج وإصلاح النظام التعليمي.

 مدينة فقدت قلبها

لم ننتبه نحن، ولم تنتبه الساحة عندما بدأ الموت يطلّ برأسه من صيدا مع اغتيال معروف سعد في مظاهرة من أجل حقوق الصيادين في شباط/ فبراير 1975، فاستمرت بنشاطها كالمعتاد. وتغافلت أيضاً عن تداعيات مجزرة "عين الرمانة" في 13 نيسان/ أبريل من العام نفسه، فتابعت حياتها، ولو بشيء من الحذر. ولكن عندما انتصبت حواجز الخطف والقتل على الهوية فيها ومن حولها في اليوم الذي عُرف بالسبت الأسود (6.12.1975) كان لا مناص من انخراطها، مع البلد بأكمله، في أتون الموت والدمار. يقول عبده وازن في مقال نشره عام 2001 في صحيفة النهار: "كان لا بد من القضاء على ساحة البرج كي يتم القضاء على لبنان". إلى هذه الدرجة قدّر،عن حق، وزن الساحة وأهميتها بالنسبة للبنان واللبنانيين. فهي "... دخلت وجدان اللبنانيين قبل أن تدخل ذاكرتهم. إنها جزء من تاريخهم العاطفي العام مثلما هي جزء من تاريخهم السياسي والاجتماعي".

مع تحوّل الساحة إلى خط تماس بين المتحاربين هجرها زوارها في البدء، ثم لحق بهم تجارها وموظفوها وعمالها بعد أن سطت عصابات مسلّحة تابعة للمليشيات على المتاجر، المكاتب والمحلّات. وأصبح مجرّد المرور في  بعض شوارع الوسط مخاطرة قد تنتهي بالموت. وصارت الساحة مرتعاً للرصاص والقنابل، وميداناً للخواء والخراب طوال خمسة عشر عاماً. ومع فقدان الساحة فقدت بيروت قلبها بالمعنيين:المجازي والواقعي.


من "سهلة" خارج البلد إلى ساحته الأولى

بدأت الساحة تأخذ مكانها في النسيج المديني لبيروت، ومكانتها في وجدان أهلها وحياتهم في أربعينيات القرن التاسع عشر. قبل ذلك التاريخ كانت "سهلة البرج"، كما كان يطلَق عليها نسبةً إلى برج مراقبة كان قائماً في إحدى زواياها، عبارة عن قطعة أرض واسعة مهملة، محاذية من الخارج للضلع الشرقي من سور بيروت. هُدمت بقايا السور آنذاك بعد أن قصفته السفن الحربية البريطانية والعثمانية والنمساوية سنة 1840، في إطار الحرب التي دارت بين هذه القوى والجيش المصري تحت قيادة إبراهيم باشا. فتمدد العمران بسرعة إلى المناطق التي كانت خارج السور. وما هي إلا عقود قليلة حتى أصبحت ساحة البرج في وسط المدينة بعد أن كانت في طرفها. وتعاظم دورها مع تشييد العديد من الأبنية المهمة على محيطها مثل "السراي" (مركز حكم ولاية بيروت)، ثكنة الجيش العثماني، مبنى البورصة، زاوية أبو النصر اليافي وجامع محمد الأمين (وهو غير الجامع المشيّد حديثاً في نفس المكان)، كنيسة مار جرجس المارونية، فضلاً عن الفنادق، المطاعم، المقاهي، المطابع، المكتبات والمؤسسات التجارية المختلفة. كما أن مداخل عدد من الأسواق (سوق النورية، سوق الصاغة، سوق أبو النصر وغيرها) كانت تقع في الساحة. وفي سبعينيات القرن التاسع عشر قامت بلدية بيروت بإنشاء حديقة في وسط الساحة، كانت في "غاية الحسن والإتقان" بحسب جريدة "ثمرات الفنون" الصادرة آنذاك، أطلق عليها اسم "منتزه الحميدية"، نسبةً الى السلطان عبد الحميد. مرّت الأيام وخُلِع عبد الحميد عن العرش بانقلاب عام 1908. شهدت ساحة البرج يومها تجمّعاً حاشداً لأهالي بيروت تأييداً للانقلاب الذي نادى بالحرية والمساواة. وبهذه المناسبة تغيّر اسم الساحة ورُفعت فيها لافتة تحمل اسم "ساحة الحرية". إلا أن هذا الاسم لم يعمّر طويلاً، واستُبدل بعد وقت قصير ﺑ"ساحة الاتّحاد"، ربما تيمناً باسم "جمعية الإتّحاد والترقّي" التي سيطرت في عاصمة السلطنة آنذاك. التطور الكبير الذي شهدته الساحة في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لم يكن سوى انعكاس وتكثيف لما كان يحصل في المدينة على غير صعيد. ففي تلك الفترة تضاعف عدد سكان بيروت من حوالي 15 ألف نسمة في الأربعينيات إلى أكثر من 120 ألف نسمة عام 1911. وتم توسيع المرفأ وتحديثه، وشقّ طريق مرصوفة للعربات (محطته الأولى في الساحة) بين بيروت ودمشق عام 1863، وخط للقطار عام 1907. تأسست الجامعتان الأميركية واليسوعية والمدارس الحكومية والأهلية إضافة الى الكثير من مدارس الإرساليات الأجنبية. وتم تأسيس عدد من المستشفيات الحديثة، التي لا يزال بعضها يعمل حتى اليوم. وانتشرت المطابع بكثرة، فيما يبدو أنه تأسيس لدور بيروت اللاحق ﻛ"مطبعة العرب". كما صدر عدد كبير من الصحف، غالباً ما كانت منابر لأفكار التنوير، التجديد والتحرّر. باختصار، تحولت بيروت في تلك الحقبة من إسكلة صغيرة الى حاضرة تعجّ بالحركة والحياة ويصل إشعاعها إلى أبعد بكثير من حدود ما سوف يُعرَف ﺑ"لبنان الكبير" ابتداءً من عام 1920. ولكن قبل ذلك التاريخ أتى اندلاع الحرب العالمية الأولى ليكبح، مؤقتاً، تلك التطورات. وعندما قرر الحاكم العسكري التركي جمال باشا، المعروف عربياً ﺑ"السفّاح"، في خضمّ تلك الحرب إعدام ثلة من المطالبين بالاستقلال عام 1916 كانت ساحة البرج هي المكان الذي وقع اختياره عليه لنصب المشانق. ولكن بعد انتهاء الحرب بهزيمة العثمانيين وخروجهم من لبنان، وحلول الاحتلال الفرنسي محلهم، أمر الجنرال "غورو" بتغيير اسم الساحة إلى "ساحة الشهداء". كما أمر ببناء نصب تذكاري في وسط الساحة تخليداً لذكراهم. تكرّس وتعاظم دور الساحة الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في عهد الانتداب الفرنسي، ثم في عهد الاستقلال، الذي، بالمناسبة، أُعلن من سراي الساحة عام 1943. إلى أن توقف كل شيء بعد اندلاع العنف الأهلي عام 1975.

العودة الأولى

تحت سماء رمادية وزخّات متقطّعة من المطر كانت المرة الأولى التي عُدتُ فيها إلى الساحة بعد سنوات الغياب الطويلة. كان الجو يمهّد للكآبة التي سوف تتملكني لدى وصولي إليها. لم تخفّف معرفتي المسبقة بما حل بالساحة، عبر وسائل الإعلام، من وقع الصدمة. التناقض بين صُوَر الساحة في ذاكرتي وما كنت أشاهده كان ماحقاً. كانت أرض الساحة مفروشة بِبُرك وحل انتشرت بين بقايا الأسفلت وأكوام الركام. أشجار النخيل التي كانت تطوّق وسط الساحة اختفت من جذورها. البنايات حول الساحة كانت لا تزال قائمة، مع أن جدرانها منخورة بآلاف الطلقات، وفتحاتها خالية تماماً من أي أثر لنافذة أو باب. الأعشاب والنباتات البرية تزاحمت على شقوق الجدران والمساحات الفارغة بين الأبنية. تمثال الشهداء بدوره كان لا يزال صامداً، رغم الثقوب الكثيرة التي تركتها الطلقات فيه. كان كل ما أراه يؤكد لي أن أيام الساحة كما عشتها ولّت إلى غير رجعة. ولكن الاعتقاد بإمكانية ترميم الأبنية وإعادة تأهيل الساحة، على صعوبة ذلك، كان اعتقاداً واقعياً. هذا ما أكّده تكراراً، وفي مناسبات لا تحصى، نخبة من المهندسين ومصممي المدن في لبنان. غير أن السلطة التي انبثقت بعد نهاية الحرب ارتأت غير ذلك. أسست السلطة، المؤلفة من تحالف أمراء الحرب مع أمراء المال، شركة عقارية قامت باستملاك قسري لكامل القلب التاريخي لبيروت بحجة أنها الوسيلة الوحيدة لإعادة إعماره. للمفارقة، فإن إعادة الإعمار هذه اقتضت، بحسب مخطط تلك الشركة، هدم حوالي 80% من المباني في وسط بيروت، ومن ضمنها جميع مباني ساحة الشهداء باستثناء مبنيين.  

"سهلة" خارج السور مجدداً

أهملت الشركة الساحة الأهم في المدينة، التي كان من المفترض أن تحظى بأولوية الإعمار، وتركتها تنتظر أكثر من عقدين حتى الآن. فتحولت إلى ميدان هائل من اللاشيء، مساحة خاوية ضائعة الحدود، يخترقها طريقان متوازيان، تعبرها السيارات مسرعة، ويحتلّ جهتها الشرقية موقف كبير للسيارات. السلطة، ممثلة هنا بالشركة العقارية، لم تستطع، أو لم ترِد، التعامل مع الساحة كما تعاملت مع أجزاء أخرى من وسط بيروت، حيث قامت بترميم الكثير من الأبنية، وفي بعض المواقع بناء أبنية جديدة. وعلى الرغم من تصميم مشاريع عديدة للساحة، فإن أياً منها لم يوضع موضع التنفيذ. وكأنّ الهدف هو تأخير إعادة تأهيل الساحة إلى ما لا نهاية. كأنّ المطلوب هو أن ينسى اللبنانيون ما كان يوحّدهم فعلاً في اليومي والملموس كما في الرمزي والوجداني. كأنّ المقصود هو إجراء بتر لا شفاء منه للذاكرة الجمعية اللبنانية. حتى لو أُعيد تأهيل الساحة يوماً ما، حتى لو عادت "أجمل مما كانت" في مستقبل قريب أو بعيد، فإن السنوات الطويلة التي مرّت على موت الساحة كفيلة بتكريس ذاك البتر في الذاكرة، وخاصة في ذاكرة الأجيال التي لم تعرف الساحة والبلد في "الزمن الجميل"، وكفيل بتسطيح علاقتهم مع مكان كان ذات يوم مثقلاً بالمعاني، عابقاً بالتاريخ.

عادت ساحة الشهداء كما كانت قبل ما يقرب من قرن وثلاثة أرباع القرن: "قطعة أرض واسعة مهملة، محاذية من الخارج للضلع الشرقي من سور بيروت". الفرق الوحيد اليوم هو أن السور أصبح غير مرئيّ. المناطق التي أُعيد تأهيلها إلى الغرب من الساحة هي بحكم الواقع محرّمة على شرائح واسعة من المواطنين (بسبب الأسعار الفاحشة مثلاً)، حتى من قبل أن تطوّقها القوى الأمنية وتمنع الناس من دخولها، بقوة السلاح، بذريعة أن المحتجّين السلميين على فساد السلطة يمكن أن يخرّبوها.

قطب جاذب

منذ منتصف التسعينيات، أي منذ استلام تلك الشركة مقدّرات وسط بيروت، وأنا أتجنب المرور فيه قدر الإمكان. المرّات النادرة التي قصدته فيها كانت نزولاً عند إصرار بعض الأصدقاء فحسب. كنت (وما أزال) لا أشعر بالراحة في الشوارع المرمّمة بتلك الطريقة المعقّمة، الخالية من الروح. ولا في الأسواق الجديدة التي لا تمتّ للمكان بأية صلة، والتي مجرّد النظر إلى واجهات متاجرها يكاد يُفرغ جيوبك. وأشعر بشيء من الكآبة لدى مروري في ساحة الشهداء، أو في الموضع الذي كان يُدعى ساحة الدبّاس، والتي اندثرت ولم يعد لها وجود.

ولكن في صيف عام 2015 عدتُ، مرّات عديدة، إلى "بلدي"، إلى ساحتي المفضّلة بِإرادتي وكامل قواي العاطفية. كان ذلك مشاركة في مظاهرات الاحتجاج على فساد السلطة الذي تخطّى كلّ حد. في تلك المظاهرات، كما في تحركات سبقتها، أثبتت الساحة أنها لا تزال المكان الأول لالتقاء اللبنانيين بمختلف أطيافهم، ولا تزال القطب الجاذب لآمالهم بغدٍ أفضل.

خلال إحدى تلك المظاهرات، تقدّم مني شاب لا أعرفه، وسألني مبتسماً: "رأيتك في عدة مظاهرات، ولاحظت أن وجهك يفيض سعادة دائماً، فما هو سر انشراحك وسرورك؟"     

 

 *مهندس معماري لبناني متخصص بالعمارة البيئية