Print
ياسر صاروط

العمارة في الخليج العربي: سعي محموم للانتماء "العالمي"

17 أكتوبر 2016
عمارة

"العمارة موجودة لتجعلنا ندرك ونتذكّر من نحن".

جيفري جيليكو، معماري وناقد بريطاني.


لا يختلف اثنان حول الطفرة المعمارية الهائلة في مدن الخليج. ظاهرة بناء أبنية عالية، ناطحات سحاب، مراكز تسوّق فاخرة، متاحف ومؤسسات ثقافية وتعليمية وغيرها من المشاريع الكبيرة، بكل المقاييس، تُغيّر وجه تلك المدن من الكويت إلى مسقط مروراً بالدوحة، المنامة، أبوظبي وبالطبع دبيّ، إضافةً إلى المدن السعودية الكبرى. كلُّ هذه المدن بنى، أو يحاول أن يبني، "الأعلى" و"الأكبر" و"الأحدث" وفي بعض الأحيان "الأغرب"! المنافسة المحمومة لاجتذاب المصممين المعماريين العالميين والمستثمرين، واستقطاب شركات البناء وشركات التشغيل والتسويق العقاري لا تخفى على عين مراقب. كما المنافسة على اجتذاب المؤسسات، الشركات والأفراد الذين سيستخدمون هذه العمارة ويدفعون ثمنها، مما يُفترَض به أن يساهم في نموّ اقتصاد تلك المدن وفي تحسين حياة ساكنيها. 
لا يقتصر هذا التطور على الأبنية العالية، الكبيرة أو الغريبة، بل يجري التخطيط لمُدُن كاملة، أو هي قيد الإنشاء، مثل مدينة الحرير في الكويت، جزيرة السعديّات ومدينة مصدر في أبو ظبي، مدينة الملك عبدالله الاقتصادية في السعودية، والمدينة الزرقاء في مسقط. ويمكن القول إن التركيز قد انتقل لدى صانعي القرار في الآونة الأخيرة من مستوى مشاريع الأبنية المنفردة إلى مستوى التخطيط المديني، كما ازداد التركيز على الاستدامة البيئية والعمرانية في الكثير من الحالات. 

محلية لم تصمد

انطلق هذا الازدهار العمراني في سبعينيات وثمانينيات القرن الفائت، وتعاظم وتوسّع في غضون العقد ونصف العقد الماضيين. في بدايات هذه الظاهرة كانت مسألة الهوية المحليّة، التقاليد والتراث المعماري، لا تزال تشغل حيّزاً مهمّاً من تفكير وعمل المساهمين في تلك النهضة من مصممين معماريين ومسؤولين. إلا أن هذا الاهتمام ما لبث أن فتر بعد بضع سنوات، وتحوّل التيّار شيئاً فشيئاً نحو الأساليب الغربية الرائجة في العمارة. وكان أن نجحت السياسة العمرانية في دبيّ في وضع هذه الإمارة الصغيرة على خرائط العالم السياحية، التجارية والاستثمارية. وبعدما تبيّن أن نجاح هذه السياسة، في جزء كبير منه، يعود إلى اعتماد أساليب في العمارة أرادت التعبير عن إحساس بالانتماء "العالمي"، عن محاولة الاندماج في تطورات عالمية، مبتعدة بذلك عن محاولة التعبير عن انتماء محلي أو إقليمي. المبالغة في رغبة الاندماج هذه عبّرت عن نفسها بفرادة المشاريع وضخامتها وارتفاعها، خصائص يبدو أنها ساهمت إلى حد كبير في استقطاب المؤسسات والأفراد المطلوب استقطابهم. قامت بقية المدن الخليجية، مع استثناءات قليلة، بتقليد نموذج دبي في تشجيع أساليب العمارة اﻟحديثة، المتلائمة مع، والمندمجة في، تيّار عالمي جارف. لم تكتفِ محاولات الاندماج هذه بمحاكاة ما هو موجود في مدن وعواصم العالم، بل سعت إلى تجاوزه في كثير من الأحيان في الشطح الشكلي والإنشائي. "فأيّ قارئ لمجلات العمارة العالمية لا بد أن يلاحظ أن الأبنية التي صُمّمت لمدن الخليج تحوز قصب السبق في الغرابة والمبالغة عند الكلام عمّا يُصمَّم اليوم في العالم. وأي متتبع للعمارة اليوم لا بد أن يلاحظ أن كل المصمّمين العالميين الكبار أو "نجوم العمارة" كما أصبح يطلق عليهم اليوم – وليس دائماً من باب التحبّب - بنوا في مدن الخليج، أو هم على وشك أن يبنوا مباني قلّما بنوا مثلها في أي مكان آخر في العالم. 



الطابع الطاغي على الأساليب المعمارية للأبنية هو "الأسلوب العالمي" من جهة و"عمارة ما بعد الحداثة" بتنويعاتها المختلفة من جهة أخرى. ووجود بعض المشاريع التي حاولت اعتماد أسلوب يجمع ما بين التراث والمعاصرة، وغيرها التي حاولت الانطلاق من المعطيات المحلية، اجتماعية-ثقافية كانت أم بيئية-مناخية، لا يخفي حقيقة أن الغالبية العظمى من الأبنية ليس لها علاقة بالمكان الذي بُنيَت فيه. "العمارة المعولمة"، كما يمكن أن نطلق عليها، لا تراعي الظروف والحاجات المحليّة. فالتصميم نفسه أو ما يشبهه يمكن أن يُبنى مثلاً في أوروبا الشمالية، في الصين أو في الخليج، رغم الفروقات الكبيرة بين المجتمعات الثلاثة وبين مناخ وطبيعة وتاريخ كل من هذه المناطق. والعمارة المعولمة اليوم تخفي خلف جانبها التصميمي الشكلي والفني، والذي غالباً ما يجري الحديث عنه ويدور النقاش حوله، وجهاً آخر، قلّما يُذكَر، هو برأينا السبب العميق في جعلها "معولمة"، ألا وهي وظيفتها كغَرَض استثماري، تمويلي وتجاري. المميز في العمارة الخليجية المعولمة هو أنها تُظهِر بوضوح كلا الجانبين: التصميمي-الهندسي والاستثماري-التجاري. 

حرق المراحل

بالطبع لم تكن هذه الظاهرة لتكون ممكنة لولا وجود الثروات النفطية والغازيّة الهائلة في الخليج، ولولا العوائد المالية الكبيرة التي تنتجها تلك الثروات. إلا أن توافر الإمكانات المادية لا يكفي للإجابة على السؤال: لماذا اعتمدت مدن الخليج هذه الأساليب في العمارة وهذه الخيارات في العمران؟ في محاولة البحث عن إجابة على هذا السؤال يبدو لنا أن السبب الأساسي في اعتماد تلك الخيارات هي الرغبة الخليجية في اللحاق بالمسار الغربي للتقدّم والتطوّر بأسرع ما يمكن. أراد المسؤولون الخليجيون اختصار الزمن و"حرق مراحل" التقدّم العلمي والتقني والصناعي والاجتماعي التي مرّت بها المجتمعات الغربية خلال آماد زمنية طويلة. وكانت العمارة أفضل ما يمثّل التطوّر المنشود وأكثر ما يعكس الصورة المرغوبة لذلك التقدم، حيث إنها الأكثر ظهوراً والأبرز لِنظر الرائي، زائراً كان أم مقيماً، أو حتى مجرّد متابع من بعيد للتطورات. واللحاق بنموذج التقدّم الغربي لا يمكن أن يتم بطبيعة الحال باعتماد عمارة مختلفة عن العمارة الغربيّة الرائجة، بل إن المبالغة في الارتفاع والضخامة والغرابة هي في أحد وجوهها بمثابة توكيد على الانتماء إلى هذه العمارة وتبنيها بالمطلق. من ناحية أخرى فإن البدايات الناجحة تجارياً وسياحياً شجعت على انتشار ثقافة الاستثمار العقاري، الذي أصبح أحد أهم وسائل تدوير الثروات الجديدة وأقصر الطرق لتحقيق أرباح مجزية. وانعكست المنافسة المتنامية في السوق العقارية، على مشاريع المستثمرين المحليين والأجانب، فأصبحوا يتنافسون في الفرادة والتميّز، محاولين بذلك تحقيق سمعة استثنائية لمشاريعهم، تساعدهم على تسويقها. 
وسرعان ما أصبحت الأساليب الجديدة في العمارة تمثّل بالنسبة لغالبية المواطنين الازدهار والغنى والنجاح، في مقابل ارتباط العمارة التقليدية بالفقر والتخلّف. ولو أن العمارة الحديثة، بحسب المعماري والناقد ناصر الربّاط، "ما زالت على الغالب الأعمّ بعيدة عن قلوب وعقول المواطنين [...] وهم يقابلون العمارة الجديدة بمزيج من اللامبالاة والاندهاش من غرابتها، وأحياناً بالفخر بها كمنجز من منجزات نهضتهم العمرانية، ولكنهم نادراً ما يتبنونها". 

بصمة الكربون

وبِغَضّ النظر عن موقف المواطنين من هذه العمارة، فإن انتشارها، وبالسرعة المذهلة التي تم بها، لم يكن له أن يمر دون أن يؤثّر عميقاً في المجتمع وفي الثقافة المجتمعية. أحد التأثيرات المهمة كان حلول الطبقة الاجتماعية أو مستوى الدخل المادي كقاسم مشترك بين سكان الجوار مكان صلات القربى العائلية أو العشائرية. والتأثير الآخر، الذي لا يقل أهمية، يرتبط بالدور الذي تلعبه هذه العمارة في ترسيخ وانتشار ثقافة الاستهلاك المسيطرة على نمط الحياة في مدن الخليج. فغالبية هذه العمارة، بأشكالها المبهرة والمغرية، هي في النهاية عمارة استهلاك من حيث وظائفها: سياحة، فنادق، ترفيه، تَسوّق، وإلى ما هنالك من أغراض وخدمات استهلاكية. 
كان لهذه الطفرة آثارها السلبية على البيئة أيضاً. فتحقيق ذاك التطور العمراني والاقتصادي في دول الخليج لم يكن ممكناً، بالطريقة التي تم بها، دون أن تكبر "بصمة الكربون" لهذه الدول. فترتيبها يأتي ضمن المراكز العشر أو الخمسة عشر الأولى، ومنذ تسعينيات القرن الماضي، على اللائحة العالمية للبصمة الكربونية للفرد. مما يعني أن انبعاثات الغازات الملوِّثة للجوّ في دول الخليج هي من الأعلى في العالم نسبة إلى عدد السكان. هذه وغيرها من التطورات السلبية بيئياً دفعت دول الخليج في النهاية إلى إعادة النظر ببعض جوانب السياسة العمرانية، فضلاً عن زيادة التركيز على الاهتمام بالبيئة بشكل عام. فقد أصدرت حكومة دبيّ مثلاً عام 2008 توجيهات باعتماد معايير الأبنية الخضراء في كل مشاريع البناء الجديدة. وبهذا تكون دبيّ المدينة الأولى في المنطقة ومن الأوائل في العالم التي اعتمدت تلك المعايير. الكويت أيضاً سارت في هذا الاتجاه، فأصدرت قانون العمارة الخضراء. أبو ظبي بدورها وضعت مشروعاً لبناء مدينة مستدامة بأكملها، وبدأت بتنفيذه، هي مدينة "مصدر". كذلك فعلت مسقط عبر مشروع "المدينة الزرقاء"، وأقامت قطر مجلساً وطنياً للأبنية الخضراء والمشاريع المستدامة، وقد بدأنا نرى في مدن الخليج أبنية تنتج الطاقة التي تحتاجها من مصادر طاقة نظيفة (شمس، رياح...)، وتوفّر في استهلاك المياه والموارد الأخرى إلى أقصى حد. ويمكننا بثقة توقّع استمرار هذا الاتجاه، توسّعه وترسّخه في المستقبل، لأن الاستدامة البيئية طريق ذو اتجاه واحد: إلى الأمام.


من هم "نجوم العمارة" الخليجية؟

لن يتّسع المقام هنا لتعداد جميع المعماريين الذين ساهموا في الطفرة المعمارية الخليجية، سوف نكتفي بذكر أبرزهم، بمن فيهم الشركات والمكاتب الهندسية الكبرى، مع بعض المشاريع التي خططها أو شارك في تصميمها كل منهم.
- شركة أتكينز (توم رايت) ATKINS (Tom Wright): برج العرب، برج كونراد – دبيّ.
- شركة أيدَس (كيث جريفيتس) AEDAS (Keith Griffiths): برج المملكة – جدّة، محطات مترو دبيّ.
- تاداو أندو Tadao Ando: المتحف البحري – أبوظبي.
- محمد الأعسم: جامعة الملك فيصل – الهفوف، برج المينا – أبوظبي. 
- إ. م. باي Ieoh Ming Pei (I.M. Pei): متحف الفن الإسلامي – الدوحة.
- سيزار بيللي Cesar Pelli: برج “The Landmark” - أبوظبي.
- جميل جادالله (شركة NEB): برج المشعل – دبيّ، والعديد من المشاريع السكنية في دبي.
- فرانك جيهري Frank Gehry: متحف جوجنهايم – أبوظبي.
- برايَن جونسون Brian Johnson: نادي غولف خور دبيّ ونادي غولف جبل علي – دبيّ.
- زها حديد: مركز الفنون المسرحية – أبوظبي.
- شركة خطيب وعَلَمي: برج روز ريحانة وأبراج DAMAC - دبي، مشروع جبل عمر- مكة المكرّمة.
- شركة دار الهندسة (شاعر ومشاركوه): أبراج البيت – مكّة المكرّمة، مشروع اللؤلؤة ومشروع المرفأ القديم – الدوحة
- DBI Design: أبراج الاتحاد – أبوظبي.
- سكيدمور أوينجز & ميريل Skidmore Owings & Merrill: برج الحمراء – الكويت.
- عدنان سفاريني: برج آل يعقوب، برج الأميرة، برج العطّار – دبيّ.
- أدريان سميث Adrian Smith: برج خليفة – دبيّ، برج جدّة.
- رالف شتاينهاوزر Ralf Steinhauser: نخيل مول وديرة مول – دبيّ.
- نورمان فوستَر Norman Foster: مدينة مصدر وبرج محمد بن راشد ومتحف الشيخ زايد – أبوظبي، برج The Index – دبيّ، مركز الفيصلية – الرياض.
- ريم كوولهاس Rem Koolhaas: المباني التعليمية في جامعة قطر – الدوحة.
- شركة كيو إنترناشونال KEO International: جامعة الخليج – الكويت، المدينة الترفيهية والمدينة التعليمية – قطر، برج المدينة – دبيّ.
- سايمون مون Simon Moon: دار الأوبرا – دبيّ.
- شمس الدين نجا: منتجع شاطئ السعديات – أبوظبي، برج المارينا والمركز الرئيسي لشركة DAMAC- دبيّ.
- جان نوفيل Jean Nouvel: متحف اللوفر – أبو ظبي، المتحف الوطني – الدوحة.
- مجموعة هازل و.س. ونج Hazel W.S. Wong Nor Group: أبراج الإمارات وفندق أبراج جميرا – دبيّ.
- كِن يينج Ken Yeang: أبراج جبل عمر – مكّة المكرّمة، برج أولمبيا – الكويت.



* معماري من لبنان مختص بالعمارة البيئية