Print
يحيى بن الوليد

سؤال الهندسة المعمارية... يعيينا

19 أكتوبر 2016
عمارة

إذا كانت هندسة المدينة قد شكّـلت اهتماما قديما بالنسبة للشعوب، والثقافات، فإن التخطيط الحضري وتهيئة المجال الحضري حديث نسبيا. ثم إن كلمة تمدين (Urbanisme)، التي تصل ما بين الهندسة المعمارية والتخطيط الحضري وتهيئة المجال والتمدّن، مصدرها حديث أيضا... إذ لم يتمّ استعمالها إلا حوالي عام 1910، وعلى وجه الخصوص من قبل المؤرخ والتعميري الفرنسي بيير لافيدان (P.Lavedan) حين سيعطيها تعريفا جامعا سيأخذ في التكامل شيئا فشيئا وبخاصة في ظل تداعيات الحربين العالميتين اللتين خربتا المدن الأوروبية.

ويفيد التعريف أن التمدين هو "دراسة مجمل شروط وتجليات وجود وتطوّر المدن". ولذلك قيل بأن "القرن العشرين هو قرن المدن"، مثلما قيل إن "المدينة ترمز إلى مشاكل العالم الحديث" وعلى نحو ما نقرأ في كتاب جان بيير بولي (J.P.Paulet) "جغرافية التمدين" (Géographie urbaine) (2000). والكتاب الأخير، وإذا جاز التقييم، وعلاوة على السلسلة التي صدر عنها (Coll. U Géographie) وضمن دار النشر الفرنسية الشهيرة (Armand Colin)، واحد من أهم الدراسات التحليلية في مجال التمدين. ولعل ما سلف جدير بأن يحفّز على التفكير والبحث في أنماط التمدّن (Urbanité) التي تكسب المدن هوياتها المختلفة في إطار من اختلاف المجتمعات والثقافات والجغرافيات... وغيرها.

ومناسبة هذا الكلام هو "التجريف المعماري"، كما نسميه، أو "التمدين المنفلت"، كما يسميه آخرون، وكلاهما يفرض ذاته بإلحاح بخصوص المدينة العربية بصفة عامة وسواء في سياق فهم تطوّر هذه الأخيرة أو في سياق محاولة إعطاء تعريف (مقبول) لها. وقد بدا لنا، وبعد اطلاع على عدد وافر من الدراسات والأبحاث والمصنفات والحوارات... في مجال التمدين بعامة والمعمار بصفة خاصة، وفي إطار من اهتماماتنا المنتظمة في "خرائط النقد الثقافي"، أن نستقّر، وحتى الآن، على خلاصة عريضة صغناها على النحو التالي: "بدون تخطيط حضري محكم ومدروس، يؤدّي إلى مجال (مبني) منضبط، فإن الحصيلة الثقيلة هي "تمدين منفلت" يسهم ـــ بدوره ــ وبثقل ــ في تكريس مخاطر المجتمع المفتّـت والمسحوق".

ويبدو، لنا، جليا، أن نركّز على الهندسة المعمارية في سياق تصوّر محدّد للتمدين؛ ذلك أن الهندسة هي العلم الأنسب لقياس درجات التحضّر، وهي المجلى المرئي والمشهدي للمدينة وتحوّلات التمدين، وهي ــ تاليا ــ المجال الأكثر عرضة لأشكال من النقد والنقد العام. و"إذا كان خطأ الطبيب يفضي بالإنسان إلى تحت الأرض فإن خطأ المهندس المعماري يظل شاخصا فوق الأرض" كما قيل. ولا يبدو غريبا أن يكون التجريف المعماري من بين الأسباب الرئيسية التي أدّت إلى ما اصطلح عليه بـ"الربيع العربي" بالنظر للمجموعات الآدمية المعلقة في أعشاش فوق السطوح اللاهبة صيفا والباردة شتاءً أو المكدّسة في أكواخ وصناديق مظلمة في عشوائيات أرضية ملتصقة بمزابل دائمة ومفتوحة. فما الذي يمكن انتظاره غير السخط (الاجتماعي) المنتشر في أي اتجاه والفاغر فاه باستمرار؟

ليس موضوعنا، في هذا المقال، هو هذا السخط الناجم عن التفتّت المعماري، وإنما موضوعنا هو الهندسة المعمارية والأطراف التي بإمكانها المساهمة في النقاش فيها. أجل إن دراسة التمدين، وبالتعريف، "متعدّدة الاختصاصات". ومن الجلي أن لا يتمّ التقوقع ضمن وجهة نظر علم الهندسة بمفردها (وعلى أهميتها طبعا)، ممّا يستلزم مقاربات متعدّدة ومتنوّعة تصل ــ وتفصل في الوقت نفسه ــ ما بين القانون والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والجغرافيا والرسم والأدب... وغيرها. ومعنى ذلك أن التمدين أوسع من أن يختزل في الهندسة المعمارية، غير أن ذلك لا يحول دون التشديد على المهندس المعماري الذي يظل العامل المركزي في صناعة المدن، ولكن مع جعل الهندسة المعمارية موجَّـهة من قبل التمدين والتصميم البيئي أيضا. ويبرز هذا التوجيه، أكثر، في حال المخاطر التي تبرز مع الانفجار الحضري وأمراض التمدين ومستقبل البيئة والتطوّر السيّئ للضواحي الفقيرة وأحياء العمّال ودخول البروليتاريا (الحضرية) (Prolétarisation)... وغير ذلك من المشاكل التي تدخل في نطاق ما يصطلح عليه بـ"معاداة التعمير" (Périurbanisme).

وأعتقد أن حضور المهندس المعماري لازم وضروري بخصوص موضوع التحديات والديناميات والتعقيدات والمتغيرات... وغير ذلك من التحديات الحضرية والإكراهات المجتمعية التي يفرضها موضوع التمدين. إلا أن صوت الباحث المعماري بمفرده غير كافٍ، ولا يسمح بالنظر إلى الموضوع من زوايا أخرى. وليس هناك أخطر من ترك المجال للمهندس المعماري بمفرده في مجالات تحرّكه وبخاصة في المنظور الذي يقرن المدينة بمشاكل السلطة. وهو ما ينطبق على مجالات أخرى كأن نقول ليس هناك ما هو أخطر من ترك السياسة أو الاقتصاد للسياسيين أو الاقتصاديين بمفردهم.

ولقد لفت انتباهي، وطيلة ثلاثة أشهر من البحث في المشروع الفكري لعبد الله العروي، ما ركز عليه، وفي أكثر من حوار، من هموم، أو من "ألغام" (إذا جاز أن نستعير مفردة علي حرب)، حصرها في ثلاثة مواضيع، هي: إصلاح كتابة اللغة العربية، وتحرير المرأة، وتخطيط المدن. وطبعا فهو يقصد المدينة العربية أو المغربية. والإحالة، هنا، على المؤرخ المفكر الألمعي عبد الله العروي جديرة بالتأكيد على دور أو أداء المثقف المعماري الذي لا يمكن لدلالته أن تتضح إلا بنزول المفكرين والأكاديميين والكتّاب والروائيين... للإسهام في الإجابات (غير المزيفة) عن "سؤال" الهندسة المعمارية ومن مواقع مختلفة وبمرجعيات مختلفة أيضا. والأكيد أننا سنكون بإزاء تحليلات وكتابات وانطباعات... لا تخلو من تشخيص وتحليل وتقييم... وبكلام آخر: سنكون أمام "تدخّل" يخدم المدينة العربية وعلى وجه الخصوص من ناحية "هوياتها" المهدّدة بأشكال من التمزيق... والنحر.

الأمر يتعلق بـ"تقليد فكري محمود"، ولا أعتقد أننا ارتقينا إلى التفكير فيه بطرق جدّية في ثقافتنا المعاصرة؟