Print
يحيى بن الوليد

دراسات "الجندر"، في ذاكرة المصطلح

12 أكتوبر 2016
اجتماع

تمكَّنت "دراسات الجندر" (Gender Studies)، من حيث هي حقل معرفيّ "متضافر التخصّصات" (Interdisciplinary)، من أن تفرض نفسها في معارف وعلوم اجتماعية وإنسانية متعدّدة ومتباعدة. وكل ذلك في المدار الذي أفضى بهذه الدراسات إلى إحداث "منعطف" غير مسبوق، في النظرية النسوية في العالم ككل، بالنظر إلى الطابع الأكاديمي والسند الثقافي لهذه الدراسات؛ وممّا جعل هذه الأخيرة، ومنذ بدايات تشكّلها وتأسيسها، موضع دراسات تحليلية هادئة من ناحية وموضع نقاشات حادّة وساخنة من ناحية موازية (وغالبة).

 مصطلح " "الجندر"، الذي على أساس من مركزيته تنهض وتنشط دراسات الجندر سواء في مجالاتها المعرفية المخصوصة أم في غير مجالاتها المعرفية المخصوصة، كباقي المصطلحات التي تنطوي على تاريخ قائم بذاته، وقبل ذلك تنطوي على ذاكرة هي "ذاكرة المصطلح" كما يصطلح عليها. ومن وجهة نظر "سوسيولوجيا المعرفة" فإن المصطلح تمكّن من أن يفرض نفسه في أشكال من المقاربة، وعلى نطاق واسع، وفي إيران كما في باكستان ولبنان والأردن وسنغافورة. أي في جغرافيات متباعدة وثقافات متغايرة، فضلًا عن الغرب الرأسمالي (الأمريكي، ابتداءً، والأوروبي ثانيًا) الذي ظهر في سياقاته المصطلح الإنجليزي.

 ومع أنه ما يزال هناك اختلاف، متزايد، على مستوى التأريخ لبدايات تداول المصطلح، فإن ذلك لا يعني عدم ربط هذا الأخير بأسماء محدّدة "نسوية" (في الأغلب الأعم) وكما في حال التمهيد التحليلي والمثير للموضوع من قبل الفيلسوفة والكاتبة الفرنسية سيمون دوبوفوار Simone de Beauvoir، في كتابها الشهير "الجنس الثاني" (1949) الذي سيشدّ الانتباه إليه، على وجه الخصوص، من خلال مقولة "المرأة لا تولد امرأة، بل تصير امرأة" في دلالة على تأثير عامل المجتمع والثقافة في تحديد "هوية المرأة" ومن خلال فكرة ثانية عادة ما لا تناقش بالقدر نفسه الذي تناقش به المقولة أو الفكرة الأولى. والفكرة الثانية ذات الصلة بـ"الموازاة بين النساء الغربيات التابعات والخاضعات وبين الأعراق المضطَهدة والثقافات المقهورة والأمم الخاضعة". وهي الفكرة التي ستعمّق الكاتبة والناشطة الأمريكية الشهيرة بيتي فريدان (Betty Freidan)، وفي وضوح منهجي وتصوّري، النقاش فيها، وفي حال النساء الأمريكيات تعيينا، في كتابها الشهير "الغموض الأنثوي"(1963). وهناك كذلك، ودائمًا في سياق التمهيد، وبعد ما يزيد على عقدين  من الزمن على نشر كتاب سيمون دوبوفوار السالف، السوسيولوجية البريطانية آن أوكلي (Ann Oakley) في كتابها "الجنس، الجندر والمجتمع" (1972) الذي سيلفت الانتباه أكثر إلى المصطلح وهذه المرة من ناحية التمييز بين كلمة "جنس" التي تحيل على الفوارق البيولوجية بين الذكور والإناث وبين كلمة "النوع الاجتماعي/ الجندر" التي تحيل إلى المعطى الثقافي والاجتماعي في التصنيف بين المرأة والرجل.

وتزامن الكتاب الأخير، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، مع الإعلان عن مرحلة جديدة على مستوى الشروع والمساهمة في التنظير المعرفي والتقعيد المفاهيمي، جنبًا إلى جنبٍ مع التصعيد الثقافي والإيديولوجي، للمصطلح. وحصل ذلك في سياق معرفي أهمّ ما ميّزه هجرة "النظرية الفرنسية" (La French Theory) إلى الولايات المتحدة ونقاشات "ما بعد الحداثة" (Postmodernism). وهذا ما تجسّد، وبشكل راجح، في حال أسماء محدّدة في مقدّمها الأكاديمية والنسوية الأمريكية جوديت باتلر (Judith Butler) ومواطنتها الأنثروبولوجية والمُنظِرة والناشطة النسوية غايل روبان (Gayle Rubin) وفي أكثر من كتاب لهما.

 واللافت، في السياق الأخير، هو ربط مصطلح الجندر بسياقات معرفية "نسوية" و"ذكورية" معا (هذه المرّة) ومحدّدة بدورها؛ لأنه، وحتّى في العالم ككل، وعلى مدار فترة طويلة، وحتى منتصف القرن العشرين، كان مصطلح الجندر يستخدم كمصطلح لغوي فقط وللدلالة على "التصنيف النحوي" للأسماء ما بين مؤنث ومذكّر وما ليس بمؤنث أو مذكّر (Genre Grammatical) أو للتميّيز ما بين الأشياء الحيّة وتلك الجامدة.

 ولذلك لم نأخذ نسمع عن بداية "عهد جديد"، من تدفّق البحث، في مجال "الدراسات الجندرية"، باعتبارها فرعًا تخصّصيًا في مجال العلوم الاجتماعية، وباعتبارها كذلك فرعًا معرفيًّا تخصّصيًا ستمتد تأثيراته داخل مجالات أخرى في العلوم الاجتماعية ومن غير الانغلاق في مجال المرأة فقط، إلا في أواخر الثمانينيات من القرن المنصرم وعلى وجه الخصوص تحت التأثير المتزايد لأبحاث الفيلسوف الفرنسي الأشهر ميشيل فوكو Michel Foucault حول الجنسانية والجسدانية والمعرفة والسلطة والمعايير المجتمعية... إلخ. وهذا على الرغم من أن "النظرية النسوية" (Feminism) يؤرّخ لها بما يزيد عن مائتي سنة إذا ما راعينا، هنا، بدايات الوعي بالنظام الاجتماعي الذي يرسِّخ النسق الذكوري الذي هو قرين "التمايز الجنسي" الذي بموجبه يحصل الذكر على امتيازات ومكاسب، وكل ذلك في المدار الذي أفضى إلى الوعي ببدايات النظرية النسوية وفي ما بعد الانتقال والتحوّل ــ في النظرية ذاتها ــ من الموجة الأولى إلى الموجة الثانية إلى الموجة الثالثة، وصولًا إلى "ما بعد النسوية" الحالية بتياراتها وتفريعاته اللغوية والماركسية والتفكيكية والثقافية والثالثية (من العالم الثالث) وما بعد الكولونيالية. وهي مدّة جديرة بأن تعكس تاريخًا من الاستمرارية والانقطاعات والانقلابات. وسواء في تاريخ النظرية النسوية ذاتها أو في تاريخ الحركة النسوية التي ظلّت ــ وبأكثر من معنى ــ موجِّهة للنظرية في سياقات "التأثّر المتبادَل" بين مدار النظرية ومدار الممارسة.

واللافت أن الدراسات الجندرية ما كان لها أن تبرز، بالشكل الذي برزت فيه، ومنذ منتصف الثمانينيات سالفة الذكر، وفي المدار ذاته الذي جعل منها "باراديغمًا" جديدًا (Paradigm)،  إلا نتيجة "المنعطف الثقافي" (Cultural Turn) الذي طبع العلوم الاجتماعية ككل منذ نهاية السبعينيات من القرن المنصرم حتى الآن. وهو المنعطف الذي ستبرز في إثره، أكثر، الدراسات الثقافية وتيارات النقد الثقافي ودراسات ما بعد الاستعمار، وبكل ما سيترتّب عن ذلك من تنظير معرفي محكم، ومن نقاش إيديولوجي متفاوت، على نحو سيتمّ بموجبه الإعلاء من مشكلات جديدة/ قديمة مثل الهوية والسرد والأمة والتراث. وقبل ذلك مشكلات الثقافة نفسها ومشكلات النزوع الثقافي و"الثقافوية" (Culturalism) على وجه الخصوص.

ويبقى أن نؤكد أن التحوّل، الذي أحدثته دراسات الجندر في النظرية النسوية، ما كان له أن يتضح إلا بعد عقد المرأة (1975 ــ 1985)، على نحو ما كرّسته هيئة الأمم المتحدّة، وعلى نحو ما ميّز هذا العقد من حركة نشر نشطة وغير مسبوقة لأعمال إشكالية ومهمة في مجالات مختلفة للنظرية النسوية وصلت ما بين الفلسفة والنقد الأدبي وعلم اللاهوت والتاريخ والتحليل النفسي وعلم الاجتماع. وعلى أساس من البحث في آليات السلطة وتفكيك مقولات تقسيم العمل التي ترسّخ التمييز على أساس من الجنس الذي يفضي، ومن باب علاقة العلة بالمعلول، إلى أشكال من اضطهاد المرأة وقمعها. وبحلول نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، صار من الممكن القول بشكل معقول إن الحركة النسوية ودراسات المرأة أحدثت تأثيرًا كبيرًا داخل الحقل الأكاديمي الأمريكي وخارجه على نحو ما يمكن قراءته في كتاب "النظرية النسوية ــ مقتطفات مختارة" (ترجمة: عماد إبراهيم، الأهلية للنشر والتوزيع، المملكة الأردنية، 2009). الكتاب يفيد على مستوى معرفة أهم أفكار تيارات النظرية النسوية وتفريعاتها.

 فالجندر حوّل النظر، في التعامل مع الأنوثة أو الذكورة أو الثنائية الجنسية، من مجال الجنس (ذكر/ أنثى)، أو من مجال الفوارق البيولوجية والتشريحية والطبيعية، إلى مجال المعايير وآليات البناء وإعادة الإنتاج الاجتماعية. فـ"الهوية الجندرية" صارت تتحدّد بناءً على الهياكل الاجتماعية والأدوار الاجتماعية، وعلى أساس من تدّخل عوامل الاقتصاد والسياسة والثقافة، وليس على أساس من البيولوجيا التي بموجبها كثيرًا ما تحقّق التنقيص من إمكانات المرأة ومن قدراتها بعد اختزالها وتنميطها في "أنثى" أو حتى في "أنثى ضد الأنثى"، على النحو الذي شرعن لـ"الهيمنة الذكورية" في مجالات إنتاج متعدّدة كان من المفروض أن تقاسم المرأة الرجل فيها أدوارًا وعلاقات ووظائف.  بكلام جامع، فالهوية الجندرية صارت تتحدّد من خلال "الثقافة" وليس من خلال "الطبيعة" إذا جاز أن نأخذ بالثنائية الشهيرة للأنثروبولوجي الفرنسي الشهير كلود ليفي ستراوس (C.L.Strauss) التي تمّ اعتمادها في التنظير للجندر. ومن ثم منشأ الانتقال من ثوابت علاقات الجنس (أو القوة)، المتّسمة بالجبرية والتسلطية والاستاتيكية، إلى متغيّرات علاقات الجندر المتسمة بالاختيار والمرونة والدينامية في سياق اختلاف الثقافات والمجتمعات والجغرافيات والعصور.

واللافت أنه حتى في أفعال Gender وEngender في القواميس الانجليزية، وEngendrer في القواميس الفرنسية، ما يفيد معاني التوليد والتشييد والخلق والإحداث. ولذا فإن طرح مفهوم الجندر، ومن منظور العلوم الاجتماعية، كـ"بديل" لمفهوم الجنس، الغاية منه هي التأكيد على أن الفروق بين النساء والرجال ــ عدا في حال وظائف جسدية معدودة كوظيفتي الحمل والإنجاب ــ مرهونة كليًّا بالمعايير والقيم التي على أساس منها ينتظم النسق الاجتماعي وــ من ثم ــ الفعل الاجتماعي، ممّا يجعل منها، وبالكلية، "فروقًا مشيَّدة" وليست "فروقًا طبيعية". ولذلك تظل هذه الفروق متغيّرة بمرور الزمن وبتغيّر العوامل الاجتماعية وتنوّع المعايير الثقافية وتفاوت الروابط الحضارية.

فالهوية الجندرية، إذن، لا تتعلق بالمرأة فقط؛ وإنما تشمل الرجل كذلك. فهذا الأخير، بدوره، ينطبق عليه ــ تبعًا للمصطلح الأنثروبولوجي الرائج ــ "طقس العبور" إلى "الهوية الجندرية". والشيء نفسه يقال عن "النظام الجندري"، وفي الحالين معًا أيضًا، وعلى ما يستتبع هذا النظام من أشكال من "التمثيلات"، ومن حروب "التمثيلات" أيضًا، وفي الإنتاج الرمزي والتوزيع المادي، ومن مواقع "هوياتية" مختلفة من اندماج ومسايرة أو تمنّع ومقاومة أو من خلال التموقع بين طرفي الثنائية. والملاحظ، أو بالأحرى المفارق، أن الجندر، وحتى إن كان يشير إلى المرأة والرجل معًا، فإنه استخدم ــ وعلى نحو غالب ــ لدراسة قضايا المرأة.

الجندر، كذلك، وفي ضوء ما سلف من أفكار، هو نتيجة الحركة النسوية بميراثها الثري، وهو نتيجة متن كامل من أبحاث ودراسات أنتجتها باحثات وكاتبات وأكاديميات من بلدان الشمال ــ والجنوب أيضًا ــ خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، على النحو الذي أفضى إلى تدشين حقل معرفي جديد، بخلفية أكاديمية مغايرة متفتِّحة وجديدة، ومنتظِم ضمن سياق الدراسات الثقافية بخلفيتها الأكاديمية والإيديولوجية معًا. ولعل هذا ما لفت، وما لا يزال يلفت الأنظار، للمصطلح وعلى وجه الخصوص من ناحية المقاربة التي يوفِّرها هذا الأخير. إضافة إلى ما يتيحه المصطلح ذاته من إمكانات متنوِّعة للتوظيف والاستعمال، في مجالات الأدب واللسانيات والفلسفة والتاريخ والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس والإبستيمولوجيا، وبخاصّة في ظل سياقات الحاضر المتدافعة نتيجة مخرجات الانفجار الثقافي و"التحوّل الهوياتي" وتزايد "العمل الذاكراتي"، وعلى النحو الذي أفسح للمرأة، ابتداءً، ارتياد مجالات غير مسبوقة لكي تساهم فيها ومن مواقع شتى، تمتد من التدريس الجامعي إلى المشاركة السياسية مرورًا بأشكال من المساهمة والحضور في مجالات كثيرة ومتنوّعة... إلخ.