Print
مليحة مسلماني

"غسان كنفاني إلى الأبد": سيرةٌ تنتصر للحياة

11 سبتمبر 2023
عروض


كان غسان مُكرَّسًا للحياة لا للموت، لكنهم قتلوه، وحين ظنوا أن قصته انتهت فقد كانت تبدأ من جديد...

(محمود شقير)

بالموازاة مع روايته للفتيات والفتيان "بيت من ألوان... إسماعيل وتمام" (2022) حول سيرة الفنانيْن الرائديْن إسماعيل شمّوط، وتمام الأكحل، أصدر الكاتب الفلسطيني محمود شقير كذلك، العام الماضي، كتابه "غسان كنفاني إلى الأبد"، كسيرة أخرى مخصّصة للفتيات والفتيان، ليتسع بذلك رصيده من الأدب الموجّه لهذه الفئة العمرية من القرّاء، والذي يلقي الضوء على شخصيات فلسطينية بارزة تعد رموزًا في الهوية الوطنية ـ الثقافية الفلسطينية، لما لعبته من أدوار محورية في صياغة تلك الهوية وخطابها.
تقع سيرة "غسان إلى الأبد" ضمن أربعة أجزاء، يضيء كل منها مرحلة وجوانب محددة من شخصية غسان كنفاني، المتراوحة بين الوطني والذاتي، أو بين الخاص الإنساني والجمعي العام. وما يجمع هذه الأجزاء هو احتواء كل منها على عرض ونقاش لمختلف قصص وروايات كنفاني، بأسلوب يشجّع الفتيات والفتيان على العودة إلى إرث كنفاني وقراءته. إضافة إلى شخصية الطفل الذي يشارك في النقاش حول سيرة كنفاني وشخصيته وأعماله. والطفل هو الكاتب نفسه الذي احتفظ بالطفولة التي في داخله، ليشير بها عبر السرد إلى دلالات متعددة؛ من بينها الرغبة المستمرة في الكتابة، والاحتفاظ بحسّ الدهشة، وحب الحياة والرغبة في اكتشافها. كما ساهم وجود شخصية الطفل في اقتراب النص، المتمحور حول شخصية أدبية ثورية كغسان، من عالم القرّاء من الفتيان والفتيات.

"الأطفال هم مستقبلنا"
يعنون الكاتب كل جزء من السيرة بمقولة لكنفاني، وفي الجزء الأول الذي عنوانه "الأطفال هم مستقبلنا" يسرد شقير تفاصيل زيارته لبيروت في صيف عام 1965، حيث يلتقي بغسان كنفاني، وذلك قبل اغتياله وابنة شقيقته لميس بسبع سنوات. وفي طريقه إلى بيت غسان يُبدي الطفل الذي في داخل الكاتب فرحته باللقاء المنتظَر، ويتطلع إلى لقاء لميس التي أهدى إليها كنفاني قصة "القنديل الصغير". يصف الكاتب مدينة بيروت في الستينيات، حيث "البنايات الجميلة المتجاورة على نحو حميم، ومن شرفاتها تتدلّى ورود وأزهار مزروعة في آنية من فخار، وينتشر غسيل ملوّن على الحبال، والأشجار الموزّعة بانتظامٍ على الأرصفة...".
ثم يعود الكاتب بالزمن إلى ما قبل موعد سفره بأيام، حيث يلتقي، في شارع صلاح الدين بالقدس، بصديقه محمد، الذي يعمل مدققًا للحسابات في شركة كبيرة، ويكتب المقالات النقدية في الأدب؛ يجلسان في كافتيريا على مائدة قريبة من الواجهة الزجاجية، ما يتيح لهما تأمل المارّة، وتلك هواية يحبها كلاهما، وكان صديقه هذا يقول له دائمًا: "لا يمكنك أن تكتب القصص إذا لم تتأمّل الناس وتدقق في ملامحهم". كما أن كليهما معجبان برواية "رجال في الشمس"، التي صنعت شهرة غسان، ويقول محمد إن الرواية انتهت بالتساؤل "الذي ظلّ صداه يتردد في الصحراء ثم في القلوب وفي الأذهان منذ صدورها عام 1963: لماذا لم تدّقوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟". يقول "في ذلك السؤال الحارق دعوة إلى عدم الاستكانة والخضوع للإذلال".




يطلب محمد من صديقه الكاتب أن يبلّغ سلامه الحار، حين يصل بيروت، إلى كنفاني، الذي كان قد أقام معه في الكويت في بيت واحد. ومحمد كان مطاردًا من قبل الحكومات منذ أواخر الخمسينيات مع مئات من رفاقه اليساريين، حيث نظرت الحكومات العربية إلى الفكر اليساري على أنه فكر هدام. ويوضح الكاتب لقرائه من الفتيان أن الفكر اليساري يدعو الى احترام الرأي والرأي الآخر، وإلى المساواة بين الرجل والمرأة وتحقيق العدالة الاجتماعية، وعدم احتكار الثروات في أيدي قلة من الاغنياء. وبسبب المطاردة، أخفى صديقه اسمه الحقيقي، وسافر بجواز سفر مزيف إلى الكويت للعمل فيها. ويصف محمد حياة كنفاني خلال الفترة التي عرفه فيه، قائلًا إنه كان بعد عودته من دوامه المدرسي يعتكف في البيت ولا يغادره إلا للضرورة، ثم ينهمك في قراء الكتب، أو الكتابة والرسم.

غسان بكامل بهائه
يصف الكاتب كنفاني في لقائهما الأول فيقول: "ظهر غسان بكامل بهائه، وله وجه مضاء، وعينان يشعّ منهما ذكاء حاد، وشارباه الأسودان مفرودان فوق شفته العليا، وشعر رأسه أسود ممشّط بإتقان... كان على قدرٍ غير قليل من دماثة الخلق، بحيث يألفه المرء كما لو أنه يعرفه منذ زمن". يأخذهما الحديث عن الأدب وعن القدس وأحوالها ومشكلات الناس الناجمة عن الاحتلال. بينما تدخل لميس التي يحبها خالها غسان ويكتب لها كلما حلّ عيد ميلادها قصة ويهديها إليها. كانت تحمل في يدها نسخة من قصة "القنديل الصغير"، وتقول إنها كلما قرأت القصة تحبها أكثر، ليسألها خالها عن سبب هذ الحب فتقول: "سببه أننا كلما فكرنا بحل لأي مشكلة فلا بد من العثور على الحل... ظلت الأميرة تفكر بطريقة لإدخال الشمس إلى القصر، ثم اهتدت إلى الحل، وهو هدم أسوار القصر".
يتناول الجزء الأول من السيرة كذلك النشاط التنظيمي لكنفاني الذي انتمى في سن مبكرة لحركة القوميين العرب، بعد أن أقنعه قائدها الأول الدكتور جورج حبش بذلك. كما يسرد الكاتب رحلة كنفاني في المنافي؛ إذ بعد ولادته في عكا انتقل مع عائلته إلى يافا ليقيم فيها حتى النكبة، فتعود العائلة إلى عكا التي سرعان ما يصلها العدوان الصهيوني، ليتم تهجيرهم إلى لبنان، تقيم العائلة في صيدا بعض الوقت، ثم تنتقل إلى دمشق التي أنهى فيها غسان دراسته الثانوية، وعمل مدرسًا في مدارس وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، كما التحق بجامعة دمشق لدراسة الأدب، إلا أنه فُصل منها في السنة الثانية لأسباب سياسية. وفي عام 1955 يسافر إلى الكويت، ومن ثم ينتقل عام 1960 إلى بيروت للعمل في الصحافة، وذلك بناء على اقتراح من الدكتور حبش.

"لا تمت قبل أن تكون ندًّا"



يفتتح الكاتب الجزء الثاني من السيرة بالمقولة الشهيرة لغسان "لا تمت قبل أن تكون ندًّا"، وفي هذا الجزء يقترب من سيرة كنفاني الشخصية الإنسانية، إذ يتحدث عن لقائه بالفتاة الدنماركية آني، القادمة الى بيروت والمتعاطفة مع الشعب الفلسطيني، فسرعان ما يُعجب بها ويعرض عليها الزواج. ويقتبس الكاتب من إحدى رسائل كنفاني التي كتبها بعد خمس سنوات من زواجه بآني ليصف مقدار حبه لها؛ يقول غسان "كانت وما زالت امرأة رائعة، ربما الشيء الوحيد في هذا الكون الذي أستطيع برضى لا حدود له أن أقدم حياتي إذا ما تعرضتْ لخطر الغياب".
كما يخبرنا الكاتب عن يوميات كنفاني التي كان يكتبها في دفتر خاص، والتي يبوح فيها بإصابته بمرض السكري، ويعبر فيها عما يفرحه ويؤلمه، وعن قلقه وآماله وخيبات أمله أحيانًا. ويصف الكاتب هذه اليوميات بقوله: "إنها يوميات جميلة مكتوبة بصدق وببوح حميم لا يعرف التكلّف ولا المراوغة أو الادّعاء". يقتبس الكاتب من هذه اليوميات واحدة كتبها كنفاني في 24 أغسطس/ آب عام 1962، ونشرت في مجلة الكرمل الفلسطينية في يوليو/ تموز عام 1981، وذلك بعد ولادة ابنه فايز، ليروي فيها بحسٍّ مرهف وجدان زوج وأبٍ لحظة تلقّيه خبر ولادة طفله.
يقدم شقير، عبر هذا الاقتباس، للفتيان والفتيات، نموذجًا من أعمال غسان مختلفًا عن قصصه ورواياته التي عُرفت بالالتزام بالقضية الفلسطينية وبمأساة الشعب الفلسطيني في اللجوء؛ فاليومية الخاصة بولادة ابنه هي نص إنساني حميمي بامتياز، يصف مشاعر الحبّ غير المشروط، ويتعمق في معاني الولادة والحب والحياة والشعور بالمسؤولية. ومع ذلك، يتحدث غسان في هذه اليومية حول الفروقات الاقتصادية بين الطبقات الاجتماعية والتي تحضر في المستشفيات أيضًا، فزوجته مسجلة في غرفة في الدرجة الثالثة؛ يقول غسان مخاطبًا ابنه: "عندها فقط جعلوني أحسّ بأنني فقير... وبأنني لن أعطيكَ الحياة التي يستطيع غيري أن يعطوها لأبنائهم".




ينتقل السرد من الخاص إلى العام عبر توصيف الكاتب لموقف غسان من الأدب، ودفاعه عن الأدب الملتزم أمام المثقفين والنقاد الذين يرون أن الالتزام في الأدب يقيد حرية التعبير لدى الأدباء. وكان نتيجة التزام كنفاني إنجازه دراسة وافية وشاملة عن ثورة (1936 ـ 1939). كما كان يكتب، بالاسم المستعار "فارس فارس"، مقالات أسبوعية ساخرة يتناول فيها بالنقد الصريح ما يُنشر من قصص وشعر وروايات، كما كان ينتقد عبرها قضايا اجتماعية وسياسية. ويرى الكاتب أن هذه المقالات، التي كُتبت قبل خمسين عامًا، تبدو محتفظة بقيمتها كما لو أنها كُتبت قبل أسبوع، أو أسبوعين. يقتبس الكاتب من هذه المقالات الساخرة قول كنفاني "الأدب الملتزم يستطيع أن يكون جميلًا ورائعًا، وإن المشكلة ليست في أدب ملتزم وأدب غير ملتزم، ولكن في أديب جيد، وأديب بزرميطي".

"تُقبل التعازي في أي منفى"
يفتتح شقير الجزء الثالث من السيرة بوصف عبقرية غسان كنفاني ومواهبه المتعددة، وقدرته على كتابة عدد كبير من الكتب خلال عمر قصير، إضافة إلى قراءاته الواسعة والمتعمّقة في مختلف التخصصات، وتعدّد قدراته في الكتابة في صنوف مختلفة ضمّت القصة والرواية والنصوص المسرحية والمقالات والدراسات الأدبية والسياسية. يضاف إلى ذلك نشاطه الثوري والتنظيمي كقائد في تنظيم سياسي، وقدرته أيضًا على تكوين حياة اجتماعية بوصفه صديقًا وزوجًا وأبًا مُحبًّا ومعطاءً، كل ذلك في ظل إصابته بالسكري، وبالنقرس الذي يصف معاناته منه في إحدى رسائله لغادة السمان قائلًا: "إن النقرس يفتك بي مثل ملايين الإبر الشيطانية".
كما لا ينسى الكاتب إنجازات كنفاني في الفن التشكيلي، ويقدم قراءة سريعة لها، فيرى أن في لوحاته اختيارًا موفقًا للألوان التي تعبر عن الرسالة التي يريد إيصالها، وأن بعض أعماله تعتمد على الخطوط الصارمة بالأبيض والأسود. كما نهل كنفاني من تشكيلات الخط العربي، ومن الرموز التراثية والوطنية؛ كقبّة الصخرة المشرّفة، والحصان، والبندقية، والعلم، والخيمة، وغيرها.
يصف الكاتب مشاعر الصدمة عقب اغتيال كنفاني في الثامن من يوليو/ تموز عام 1972، حيث وضعت المخابرات الإسرائيلية عبوة ناسفة تحت سيارته، ليتجه إليها غسان برفقة لميس التي أصبحت في السابعة عشرة من عمرها، ويقع الانفجار مع فتحه باب السيارة. وكانت غولدا مئير، رئيسة وزراء دولة الاحتلال آنذاك، قد وضعت قائمة بأسماء عدد من الفلسطينيين بهدف اغتيالهم، وكان اسم غسان في رأس القائمة بسبب نشاطه الثوري. يتعرض الكاتب إلى سياسة الاغتيالات الإسرائيلية التي طاولت عددًا من الفلسطينيين من القادة والمبدعين، ومن بينهم كمال ناصر، وكمال عدوان، ومحمود يوسف النجار.
يقتبس الكاتب من رثاء محمود درويش لكنفاني: "الآن نعرف: أن تكون فلسطينيًا معناه أن تعتاد الموت، أن تتعامل مع الموت... أن تقدّم طلب انتسابٍ إلى دم غسان كنفاني...". أما الشاعر عز الدين المناصرة فقد كتب قصيدة رثاء بعنوان "تُقبل التعازي في أي منفى" رثى فيها كنفاني، وظلت القصيدة تتردد على ألسنة محبي الشهيد.


حيٌّ في الذاكرة
يواصل الجزء الأخير من السيرة ما اتبعه الكاتب في الأجزاء السابقة، وهو التعرض لأعمال كنفاني ونقاشها مع طفله الداخلي، فقد تعرّض الجزء الأول، على سبيل المثال، إلى قصة "كعك على الرصيف"، وبطلها طفل فلسطيني اسمه حميد، في الحادية عشرة من عمره، يعيش في المخيم ويعمل بعد المدرسة بائعًا للكعك، أو ماسح أحذية. ويرى الكاتب أن القصة مستوحاة من حياة كنفاني، حين كان يعمل مدرسًا في مدارس وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين في سورية.
يفتتح الكاتب الجزء الأخير بحديث مع طفله الداخلي حول قصة بعنوان "كان يومذاك طفلًا"، كتبها كنفاني عام 1969، وهي عن عدد من الفلسطينيين، من النساء والرجال، كانوا يركبون الباص عائدين إلى مدنهم وقراهم، ليوقفهم حاجز لجنود الاحتلال، ثم يأمرهم القائد الإسرائيلي بالاصطفاف، ويعطي مجندة في مقتبل العمر أمرًا بإطلاق النار عليهم. بينما يبقى طفل فلسطيني يأمره القائد الإسرائيلي بالهرب لينجو، وإلا فسوف يقتله الجنود، يركض الطفل بينما تنطلق وراءه ضحكات الجنود. يتوقف الطفل ويدير وجهه ويمشي ببطء نحو الجنود غير عابئ بالرصاص.
ثم ينتقل الكاتب إلى كتاب "رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان" الذي أصدرته غادة عام 1992، وهو يرى أن الرسائل كشفت عن جوانب إنسانية في شخصية غسان، وأنها تعدّ وثيقة أدبية جديرة بالاهتمام. ويختم الكاتب بنص بعنوان "باقٍ على الدوام"، يقول فيه إنه يتذكر غسان كلما وقعت عملية اغتيال، وإنه وعلى الرغم من أنهم قد مزّقوا جسده ليسكتوا صوته إلا أن "صوته يتردّد الآن في مدن البلاد وفي القرى والمخيمات، وفي كل أنحاء المعمورة، ممهّدًا الطريق نحو الحلم الذي لن تنساه الأجيال، حلم العودة والتحرير".
كتاب "غسان كنفاني إلى الأبد" هو بلا شك وثيقة أدبية هامة، لما ينطوي عليه من سرديةٍ لسيرةِ شخصيةٍ تمركزت في الذاكرة الفلسطينية والوعي الجمعي. وتكمن أهمية هذه السيرة في نقاط عدة أولها: أنها موجهة لفئة الفتيان؛ حيث تساهم هذه السردية بلا شك في صياغة وعيهم تجاه التاريخ النضالي والأدبي والثقافي الفلسطيني، وتشجعهم على العودة لإرث كنفاني. كما احتوت السيرة، وهذه نقطة قوة ثانية فيها، على عرض كثير من قصص وروايات غسان، إضافة الى رسائله ومقالاته ودراساته. وهذه صيغت بأسلوب بسيط بعيد عن التكلف، اقترب فيه الكاتب، أسلوبًا ومضمونًا، من صدق تجربة غسان ونقائها الثوريّ. يضاف إلى ما سبق ما تخلّل هذه السيرة من مقاطع من سيرة الكاتب ذاته، محمود شقير، بين الاعتقال والمنفى والحياة القاسية في القدس تحت الاحتلال، ما يجعلها تقترب من كونها سيرة عامة للمبدع الفلسطيني في ظل المطاردة والملاحقة والتهديد المستمر للوجود والحياة.