Print
تغريد عبد العال

"حذاءٌ لكِ": عندما يصير الحبُّ مخبراً للعينات

9 سبتمبر 2019
عروض

نبحث عن الشعر أحيانا في الروايات فنجده في جملة نتلذذ في قراءتها أكثر من مرة، ولكن في روايات الكاتبة اليابانية يوكو أوغاوا نجد الشعر في القصة نفسها، في تلك التفاصيل التي نتأملها والأحداث التي نفكر في علاقتها ببعضها وكأن الكاتبة تترك تلك الفجوات الصامتة بين الأحداث لنتخيل أكثر ونبحث عن المعنى.
الصمت له مكانه المهم في روايات أوغاوا، ففي كل حادثة نتساءل: ما الذي تريد أن تقوله الكاتبة ولم تقله بعد؟ فنضيف احتمالاتنا الخاصة وتأويلاتنا الشخصية، كما يحدث عندما نقرأ الشعر.
في روايتها الحديثة المترجمة عن دار الآداب (2019) "حذاء لكِ" (ترجمة معن عاقل)، تكتب أوغاوا قصة فتاة تترك العمل في مصنع للمشروبات الغازية بسبب جرح في طرف بنصر يدها اليسرى وتتجه إلى المدينة حيث رأت إعلانا على أحد المباني عن حاجتهم إلى فتاة تعمل في مخبر للعينات، فتنضم للعمل هناك لتكتشف فيما بعد أنه مخبر لوضع العينات التي يريد الناس أن يحتفظوا بها وبقايا أشياء يريدون أن يحنطوها، ربما تشكل جزءا هاما من ذاكرتهم فيريدون أن ينسوها. نقرأ عن المخبر ونتخيل أنه الذاكرة أو الماضي أو الحب الذي يشكل جزءا من تفاصيلنا وندوبنا الشخصية. وهناك في المخبر تتعلق الفتاة بالسيد ديشمارو، صاحب المخبر، وتتكون علاقة بينهما، فيهديها حذاء ملائما لقدميها ويطلب منها أن لا تخلعه أبدا، وبالفعل تصبح العلاقة بينها وبين السيد ديشمارو كعلاقتها بالحذاء، وهنا نتساءل ما علاقة الحذاء بالعينات وبالمخبر وبالحب؟، وعندما نتابع نكتشف السر العميق، حيث تتعرف الفتاة إلى صاحب عينة عصفور جاوة وهو ماسح أحذية فيخبرها أن عليها أن تتخلص من الحذاء إذا كانت تريد أن تكون حرة، فالحذاء سيتعبها وأخبرها بأنه يمكنها أن تحوله إلى عينة في المخبر، فرفضت واختارت في النهاية أن تضع الجرح في بنصرها كعينة في المخبر.
نتأمل القصة ونفكر، هل الحب هو بذاته مخبرا لعينات جروحنا وذكرياتنا؟ نفكر ونحن نقرأ أن اختيار الكاتبة أن تضع جرح بنصرها في المخبر هو اختيار للحب، وأن تعطي له أغلى ما لديها، ولكنها لم تخلع الحذاء، لأنه مثل بيتها ومكانها. ونفكر أيضا عندما سردت الكاتبة قصة الفتاة صاحبة عينة الفطور وغيرتها منها حين حولت مشهد الغيرة إلى مشهد بحثها عن عينة الحرق التي تركتها هناك، هنا تحول الحب إلى مكان نضع فيه جراحنا وندوبنا الصغيرة وعلاقتنا بهذه الندوب تصبح مثل علاقتنا بالآخر.
لا تغرق الكاتبة في وصف المشاعر ولا تتحدث عن حب، تغيب كل الكلمات التي تذكرنا بالحب، فنعثر على علاقات جديدة بالأشياء وتعريفات مختلفة للمشاعر، فعندما سردت الكاتبة مشهد الغيرة  بين الفتاتين، لم تكن هناك أي مفردة توحي بالغيرة ولكننا شعرنا بالحب عندما كانت الفتاة تحاول البحث عن عينة للفتاة الأخرى في المخبر، وعندما تحدثت الفتاة عن علاقتها بالسيد ديشمارو، كانت تصف الذهاب إلى الحمامات والجلوس معا في قاع المغطس كأنه فعل الحب، وخلعها لحذائها القديم ولبس الحذاء الجديد كأنه فعل استقبال هذه التجربة الجديدة في حياتها.
تكتب يوكو أوغاوا بشعرية وإيجاز، لا تشرح شيئا ولا تفسره، نمرّ على الأحداث ونعيش معها بتفاصيلها الصغيرة التي تحمل مدلولات كبيرة، تضع يدها على الأشياء، تشير إليها ولا تقولها، وأحيانا نعثر على جمل مباغتة فنشعر بقوة المعنى الذي يختفي خلف القصة حيث تقول الكاتبة: لعل الماضي الذي نريد حفظه يتجمد هو أيضا في الشتاء ولذلك تتضاءل حاجتنا إلى تحنيطه.
يظهر الصمت في تلك العلاقة المبهمة بين الحذاء والمخبر والجرح، فنتساءل في بداية الرواية، لماذا جعلها الجرح تترك عملها؟ وما علاقة الجرح بالمخبر؟، لنكتشف أن الجرح مكانه المخبر الذي هو أيضا مكان الحب، وأيضا نتساءل ما علاقة الحذاء بالحب؟، فتجيبنا الكاتبة بتلميحات بسيطة أنها قررت اختيار الحذاء ووضع جرحها في المخبر ككناية عن اختيار الحب والتجربة الجديدة في حياتها.
تتركنا يوكو أوغاوا الحائزة على جوائز مهمة في اليابان، نربط الأمور ببعضها ونحن نشعر بعوالمها الطفولية الخاصة التي تغيب عن عوالم الروايات العربية وحتى العالمية أيضاً.
النهاية أيضا مفتوحة وكأنها بداية القصة، وكأنها النقطة التي بدأت منها الأشياء وليس مهما مصير العلاقة أو الحب الذي جمع الفتاة والسيد ديشمارو، فليس هذا هو ما تريد قوله الكاتبة في هذه الرواية، وبهذا يحتار القارئ، هل هي رواية عن الماضي أم الحب أم عن كل ذلك؟، وهذه الحيرة هي جزء من عوالم أوغاوا الروائية والشعرية فلا تترك عند القارئ أي انطباع عن موضوع الرواية، بل تعطيه أجمل ما لديها، الإحساس بعمق ما يقرأ وبنهايات غير متوقعة لسير الأحداث.