Print
عارف حمزة

"باص أخضر يُغادر حلب": تفاصيل كثيرة لزمن قصير

8 سبتمبر 2019
عروض
يستغرق الزمن الواضح في الرواية الجديدة للكاتب الكرديّ السوري جان دوست (1965) ربّما بين نصف ساعة وساعة فقط، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ الحافلة استغرقت في رحلتها، من "حيّ السكّري" في حلب حتى تصل إلى "معبر الراموسة"، عشر دقائق، وهناك سيتمّ تفتيش الحافلة والركاب من قبل عناصر الحاجز الخاص بالجيش السوري، ويطلب الجنديّ من الرجل الجالس في المقعد الأوّل هويّته الشخصيّة- رجل "يرتدي معطفاً فوق دشداشته، وفي حضنه فستان عرس أبيض، تناثرت فوقه صور عديدة"- ليكتشف الجندي أنّ الرجل ميّت. وهكذا يموت أحد الأبطال الرئيسييّن في الصفحة الثانية من رواية "باص أخضر يُغادر حلب".
مع موت العجوز "عبود العجيلي" في الخطوات الأولى من السرد، سيعني ذلك أنّ دوست سيستعيد ذلك الشخص وحياته، وكان اختيار دوست صائباً في اختيار ذلك الشخص؛ إذ بدا أكثر شخصيّة اشتغل عليها بشكل متقن، ولكن كذلك مع "تأليف" الكثير من القصص المتعلّقة بأفراد عائلته الصغيرة، حيث يذهب كل منهم إلى موته المرسوم بدقة، ولكن بطريقة مختلفة، ناسبت طرق موت السورييّن في المقتلة المستمرّة منذ ربيع عام 2011.
الباص الأخضر الذي جاء إلى حيّ السكري لكي يُخرج المُحاصرين من الأحياء الشرقيّة لمدينة حلب، سينضم إلى باقي الباصات التي جاءت في يوم 16 كانون الأول/ديسمبر من عام 2016، بعد اتفاق الهدنة الموقع بين الفصائل المعارضة وجيش النظام السوري، ولن يحمل فقط أولئك المُحاصرين؛ ففي خطوات النهاية، والعجيلي يموت على مهل، سينضم إلى الحافلة ابنه الذي مات منتصف الثمانينات خلال حرب المخيّمات في بيروت، وزوجته التي ماتت في مستشفى ميدانيّ بعد قصفه من النظام، وابنه الذي قُتل بعد انضمامه لإحدى الفصائل المعارضة للنظام قبل أن تصبح من الفصائل الإسلاميّة المتشدّدة، وابنه الآخر الذي مات غرقاً وهو يُحاول الوصول إلى أوروبا، وكذلك زوج ابنته الطبيب الذي ذبحته "داعش"، وابنته، حفيدة العجيلي، التي شطرها برميل متفجّر بعد احتفالها بعيد ميلادها السادس.
كل هذه القصص تحدث خلال تلك الدقائق القليلة التي يحتضر فيها العجيلي مستحضراً أمواته لكي يحكوا له حكايا موتهم التي جرت بعيداً عنه، لذلك يبدو الأمرُ تأليفاً من دوست الذي ينقل آلام كلّ الأطراف الذين نكّلت بهم سنوات الثورة/ الحرب الأهليّة/ المؤامرة الكونيّة ... المستمرّة.
خرج المدنيّون المُحاصرون من بين الأنقاض، يجرّون حقائب أو أكياساً وضعوا فيها صوراً عائليّة، ومتاعاً لا لزوم له، لكي يصعدوا إلى الباصات الخضراء ويغادروا. "استرجعَ كلّ واحد منهم في مقعده ما مضى من الذكريات التي تسابقت وهي ترتاد بحيرة الخيال، فسبقتها الأقرب فالأقرب. ذكريات الحرب والحصار والثورة والفصائل المتصارعة على المال والنفوذ، قصص الخطف والاختفاء القسريّ، حكايا الأرامل اللاتي وجدن أنفسهنّ فجأة فرائس بين أنياب مجتمع لم يهتمّ بضحايا الحرب، آهات الأمهات الثكالى ونحيبهنّ في الأزقة وراء النعوش، الأيتام، المفجوعين، المعتقلين وروايات التعذيب التي لا يمكن تصديقها لهولها. قصص الاغتصاب التي تكتّم عليها المجتمع، وتكتّم عليها ضحاياها قبل الكلّ. النزوح وعبور الحدود، ثم تجشّم مخاطر البحر وأهواله، والموت غرقاً أو الاستعصاء في مخيّمات متناثرة في أقسى البقاع وأقصاها، وفرة السلاح وشحّ الغذاء، وكثير من الأمور ضاقت بها ذاكرات أولئك المسافرين الصامتين" (ص 31). ويظنّ القارئ بأنّه سيعثر على قصص للعديد من تلك الشخصيّات المُحاصرة وهي تصعد باص النجاة، ولكنّ دوست يقتصر على سرد حكايات العجيلي وحده، وهو الراكب الوحيد الذي أقلع به الباص ميّتاً.
يعتمد جان دوست في هذه الرواية، الصادرة حديثاً عن دار المتوسط، على الراوي الغائب، أو العالم، ولا تتدخل الشخصيّات سوى من خلال الحوارات القليلة على أيّة حال، وهي إجدى الجوانب التي لا يُمكن تبريرها بأنّ الرواية قصيرة، ما يقارب 140 صفحة، خاصّة أنّ دوست يبدع في الدخول إلى دواخل شخصياته من خلال الحوارات وطبقاتها اللغويّة المختلفة، بحسب الشخصيّات، كما في روايتيه "عشيق المترجم" و "نواقيس روما".



صوت شخصيّ
ثمة شيء آخر يُلفت الانتباه في هذا العمل الجديد؛ وهو كثرة وحياديّة المعلومات التي يُقدّمها دوست في هذا العمل، وكأنّه يُريد أن يُوصل صوته الشخصيّ، سواء من خلال التوصيف العام، أو كلام الراوي الذي يخصّ الأحداث العامة، والتي لا تتعلّق مباشرة بشخصيّة محدّدة. "ماتَ أطفال كثيرون، وسحقتهم كتل إسمنت سقوف بيوتهم وجدران مدارسهم التي انهارت، فهشّمت عظامهم الهشّة الطرية. ماتوا مختنقين بالهواء الذي سمّمته طائرات، يقودها طيّارون من بلادهم ذاتها قبل أن ينضمّ إليهم طيارون من بلاد الفيتو أيضاً، ماتوا بقصف الفصائل المسلّحة العشوائيّ، سمّوها مناطق النظام، كانت الصواريخ عمياء، لم تُفرّق بين جنديّ من جنود النظام أو طفل هناك يعود من مدرسته، ماتوا ذبحاً بسكاكين الحقد الطائفيّ وحراب ميليشيات مستوردة للدفاع عن أمن البلاد وعزّتها، ماتوا أيضاً بصواريخ، أطلقتها طائرات العم أوباما الذي اتخذ رسم الخطوط الحمراء على خارطة الوجع السوري هواية له، قبل أن يسارع إلى مسحها دون أن تهتز في البيت الأبيض ستارة من الستائر التي تستر عورات سياسة قاطبة" (ص 38). وهذه اللغة هنا، وفي مقاطع أخرى، لا تستغرق كلّ الرواية؛ ولكنها تلمعُ وتشيرُ

وتشرح، فيشعر المرء بأنّ هناك لغتين تسردان هذا العمل. إنهما لغتان منفصلتان وتحاولان الاتصال طوال الوقت من خلال البساطة والعاطفة الشخصيّتين للكاتب، وهما اللغة الصحافيّة الإخباريّة والتحليليّة واللغة الحكائيّة، ولكن تطغى في كثير من الأحيان اللغة الصحافيّة والتي تجعل الأمور تذهب إلى المباشرة والتقريريّة، وهذا ما يجعل النص يذهب إلى جعل الشخصيّات الميّتة، الزوجة والأولاد والصهر، تسرد حكاياتها في الباص الذي يحمل العجيلي إلى الموت، بينما حمل الركاب الآخرين إلى النجاة. هذه الحكايا، المنفصلة عن بعضها زمنيّاً ومكانيّاً، تضخّ حركة جديدة في جسد النص، الذي بدأ من نهايته، وهي حكايات قسم جيّد منها لم يكن مسروداً من قبل، فجاءت، مع لا واقعيّة المشهد، مثل مشهد سينمائيّ كابوسيّ لصالح العمل.
لا يريد جان دوست، الذي غادر سوريّة ومسقط رأسه "كوباني" التابع لحلب منذ عام 2000 إلى ألمانيا، أن يكون خارج الجو الكابوسيّ لشخصيّاته التي عاشت لحد الآن في عدّة روايات تخصّ ما يجري في سوريّة منذ عام 2011، وهي "دم على المئذنة" و"ممر آمن" وهذه الرواية التي بين أيدينا. كأنّه يُريد أن لا تبقى شخصيّاته ميّتة على الدوام، والتي ماتت على أرض الواقع، لذلك يكتب عنها وبلسانها كشهادة سرديّة. خاصّة أنّه "لم يبق أمام المقاتلين والمدنييّن المتبقين في الأحياء الأخرى من خيار سوى الصعود إلى الحافلات الخضراء التي صارت رمزاً لانتصار قوّات الحكومة" (ص 99). هو إعادة الحياة والأنفاس لكلّ شيء ضاع هناك وزال، ليس بمعنى الواجب الذي قد يُبعد أيّة رواية عن فنّيتها، بل الشاهد الذي بقي في المكان بعد أن غادره الجميع؛ إذ "لم يكن قد بقي أحد هناك سوى الصمت والركام. بدت المنطقة مثل مقبرة مهجورة".