Print
مها حسن

"جنازة جديدة لعماد حمدي": انتصار الفن على ضابط الأمن

7 سبتمبر 2019
عروض
إلى المسجلين خطراً: تصحبكم السلامة.
منذ هذا الإهداء، يشعر القارئ أنه أمام عالم جديد من شخصيات غير مألوفة.
في سرد متأنٍ هادئ، يقدم وحيد الطويلة روايته الجديدة "جنازة جديدة لعماد حمدي" الصادرة عن دار الشروق هذا العام.
لولا أنني قرأت اسم الروائي على الغلاف، لما توصلت إلى معرفة هوية صاحب الكتاب، حيث يشتغل الطويلة على روايته بنَفَس نادر في الرواية المصرية؛ سرد متأمل، يطغى عليه الوصف والتحليل، مبطئاً تقديم الحكاية.
رغم أسماء الشخوص وألقابهم الموغلة في المصرية، وأسماء الشوارع، والمحلات والمقاهي، لكن الطويلة يمنح قارئه الانطباع، بأنه يستعير شخصية روائي خارج المكان، لتبدو الرواية مقاربةً لتقنية سردية تخرج من المحلية، وتحلّق في فضاءات أوسع، لتكاد تقترب، من وجهة نظر شخصية، من عوالم عرّاب ماريو بوزو، إنما في نسخة عربية.

مفتتح الرواية
(إلى أين أنت ذاهب؟
عِشْتَ أياماً خطرة في حياتك، لكنك الآن أمام خطر من نوع جديد).
بهذه الجمل، يفتتح وحيد الطويلة روايته الجديدة.
عبر سرد يغلب عليه التأمل والشرح، يقابله بطء في الأحداث الحالية، لصالح تقديم أحداث

الذاكرة، وفي خط موازٍ لحركة قيادة البطل الرئيسي للرواية، لسيارته في شوارع القاهرة: الزحام ـ بطء تقدم السيارة ـ العودة إلى الفلاش باك كتقنية لهروب السائق من مواجهة بطء الزمن ـ التأمل وتقديم الدروس المُستخلصة من التجارب الهامة التي عاشها البطل.
(إلى أين أنت ذاهب؟)، يفتتح الراوي الحكاية إذاً، عبر هذا السؤال، ليأتي في المشهد التالي، محذّراً القارئ بوضوح شديد، قائلاً:

(احترس.
احترس أيها القارئ.
قف مكانك).

يولّد الروائي حالة القلق لدى القارئ، حين يخاطبه على هذا النحو، كأنه ينبّهه من احتمال سقوطه في حفرة، أو تعرضه لأذى.
كلمة "احترس" تحمل التخويف والتهديد، أكثر مما قد تتضمن الحماية. هذا ما تعلمناه من القصص البوليسية غالباً: لا ترهب ضحيتك، فتفقد سيطرتها على أفعالها.
بهذه الجملة الموحية بالحماية، يخلق الكاتب الإحساس بالخطر، لدى القارئ، في لعبة سردية، يشرك الكاتب فيها قارئه طيلة الرواية، وكأنه يمسك به من كتفه، ليُشهده على مسار الأحداث، ويعرّفه على الشخصيات.
بين سؤال: إلى أين أنت ذاهب؟ في مفتتح الرواية، والتحذير الموجّه للقارئ، في جملة: احترس أيها القارئ، ينوس السرد، خلال ثلاثين مشهداً روائياً، أو ثلاثين مقطعاً ارتأى الطويلة تقطيع روايته وفقها، ليتصدر غالباً ضمير المخاطب، صفحات الرواية الثلاثمئة.

آلية السرد
بمهارة وتواضع، يمتلك الطويلة حكايته، واضعاً مسافة أمان صعبة التحقق، بينه، كسارد يمسك نفسه عن الانجراف في الحكاية، وبين شخوصه المتدفقين بالحياة.
لأنه يتحدث عن شخوص مثيرين للقلق، وللقلاقل، المسجلين خطراً، الحشاشين والمجرمين والمخبرين السريين، البلطجية ومُسجّلات الآداب وعُشاق البذلة الرسمية، هذا العالم السفلي المليء بالقصص المروعة، والتحايل على القانون، ارتأى الطويلة تقديم روايته بقلم تفكيكي، ليدمج بين دقة تحليل الشخصية، بطريقة معاصرة، وبين ما قد يراه البعض انحطاطاً في الشخصيات، لينجو كروائي من مطب الأحكام الأخلاقية من جهة، ومن التعاطف المجاني من جهة أخرى.
لهذا جاء السرد بطيئاً تأملياً، على طريقة الفنان ذاته، الشخصية الرئيسية للرواية: "فجنون"، الذي يحمل لقبه حالتي: الفن والجنون، وهو ضابط في الشرطة، أُجبر على الانخراط في هذه المهنة، بينما شغفه الأصلي، هو الرسم.
بروح الرسام، ينقل الضابط عالم المجرمين، وبمبضع النحات المحايد، يحاول الطويلة رسم شخوصه، واضعاً مشاعره وتعاطفه أو أحكامه على جنب.
بسرد مرادف لحركة سير السيارة في شوارع القاهرة، يقدم "فجنون" حكايته، مُجلساً القارئ في المقعد المجاور، ليوقظه، كلما مال إلى إغفاءة الملل من زحام الطريق، ليقول له: (ربما تكون الآن أيها القارئ أمام باب السرادق، وإذا كان ناجح قادراً على أن يبيع رفاقه وحلفاءه بهذه البساطة، مثلما فعلَ مع تاجر السلاح، دون أن يخشى القتل أو التهديد، فماذا تتوقع أن يكون؟ ولا تَقُل لي إن بيع الرفاق والتخلص منهم طبيعي ومتوقع في عالم الإجرام، هذه فكرة غير صحيحة عنهم، على الأقل ليس بهذه السهولة) أو: (أخذ قراره، مضى وحده بسيارته وسلاحه، نعم سلاحه، لا تسألني عزيزي القارئ كيف! فقط تخيل معي لمعة بياض عينيه، لمعة غزيرة تضيء حين كنا نعثر على أول خيط، تعرف ساعتها أنه دخل دائرة الإثارة وأنه ليس ذاهباً للقبض على متهم أو حل لغز قضية..)، أو: (ربما قلت لك أيها القارئ إن صلاح جاهين كان يستغرق ليلة بكاملها في رسم أنف سعاد حسني، أعرف هذه اللحظة التي أجد فيها حلاً لتلك اللمسة البسيطة والتي تعني أنني أنهيت لوحتي..).

تشابك الرواة
بسرد تعاقبي، وفي عدة أمكنة تحدث فيها الرواية في وقت واحد، يتعاقب الرواة:
ـ الضابط فجنون: الذي غالبا يروي الأحداث وهو داخل سيارته، في الطريق إلى عزاء ابن

الدكتور ناجح "رئيس جمهورية المسجلين خطراً" يقول مثلاً: (أَنقِلُ عينيَ بين المقاهي على جانبي الشارع، أبحث عن فنجان من القهوة، أو فنجانين، عادة أدمنتها منذ بداية العمل بالمباحث، لا أستطيع أن أفتح عينيَ قبل أن أشرب اثنين).
ـ الراوي العليم الذي يرى ما يحدث داخل سرادق العزاء، ويغوص في أعماق شخوصه، يظهر في ضمير المخاطب: (صدقني، لو أنه يوم عادي في حياة صاحب السرادق، وليس عزاء ابنه، ما استطاع ذلك الوغد الروسي أن يقترب من مرابضه وإلا قتله، يكره أصحاب البودرة لكن للظروف أحكام).
ـ الراوي المتخفّي، الذي يلعب دور المتأمل البعيد، الجالس في المقعد الخلفي، محاولاً التنصّل من الظهور.
يشتبك الرواة، ويختبئ الراوي الحقيقي، وحيد الطويلة، خلف الساردين الأساسيين، محاولاً التنحّي عن الانحياز المباشر صوب شخوصه. حيث يتجنب الوقوع في صفّ المسجلين خطراً، وهو يسرد تفاصيل حيواتهم ويحلل تركيباتهم النفسية، على لسان الضابط مرة، والسارد العليم مرة أخرى، لينتصر في النهاية، إلى الرواية ذاتها، حين يكشف عن نواياه في الفصل الأخير مواجهاً القارئ: (انتبه معي أيها القارئ، هذا الضابط ربما كان يضحك علينا، أو أن خياله هو الذي رسم هذه الحكاية؟ خذ مني الكلام الصحيح، أنا الراوي، أنا من يعرف، وإذا كنتُ قد تركت هذا الضابط يتكلم طويلاً، فالسبب أنني أردت أن أعرف خبيئته. صدقني، وأنت حر طبعاً، ربما لم يحدث كل ما سبق، وربما حدث).

انتصار "فجنون" على البدلة العسكرية
في صراعه المرير، بين شغفه للفن، ومهنته الصارمة كضابط مباحث، يُمضي " فجنون" ثلاثين صفحة، ليصل أخيراً إلى السرادق. حيث يواجه ذلك العالم الذي قضى على مستقبله

المهني، وتسبب بإقالته من العمل.
منذ جملة: متهم بإقامة علاقة، التي تظهر في المشهد الأول، وهو يسأل: إلى أين ذاهب: (أنت متهم بإقامة علاقة، سؤال يَطِنُّ داخل رأسك، وأنت في طريقك إلى المُسَجَّل الخطر. إلى أين أنت ذاهب!. أنت الآن ذاهب للرجل الذي تَسبَّبَ في خروجك من المباحث، بل وخروجك على المعاش، المُسَجَّل خطر، الذي قطع علاقتك بحياة وظيفية لم تحبها يوماً، لكنك غُصْتَ فيها، وقضَيْتَ ما يزيد على نصف عمرك)، حتى الجملة الأخيرة في المشهد الأخير: في اتجاه باب السرادق يمضي، وحيداً، يسرع نحو سيارته بقدمين غير مترددتين، كأنه يخشى أن يقول له أحد: أنت متهم بإقامة علاقة. بقيت جملة لم أسمعها من الضابط جيداً، ربما كان يهمس لنفسه ويقول: إلى أين أنا ذاهب؟ ربما يعرف الآن جيداً إلى أين هو ذاهب)، حيث يغلق الطويلة روايته، بعد أن خلّص بطله الفنان، من سطوة الضابط الذي يرتدي البدلة الرسمية، ويخنق الرسام. لينحاز الروائي للفن، وللإنسان، محرراً أبطاله، لا فجنون فقط، بل جميع المسجلين خطراً، من النظرة المسبقة المجتمعية لهؤلاء البشر، الذين لا يعرف أحد كيف سارت بهم حيواتهم إلى طريق الإجرام.
هل هي رواية الدفاع عن المسجلين خطراً؟ هل هي رواية التعاطف معهم؟ أم هي محاولة فقط لفهمهم، لتقديم قراءة موازية، فنية، للطريقة الرسمية، السائدة، القاسية، وربما الظالمة؟
أسئلة تُترك مفتوحة أمام القارئ، الشريك في السرد، الذي يترك له الروائي في نهاية المطاف، حرية اختيار عنوان آخر للرواية، في طبعتها القادمة.. فهل سيخضع الطويلة فعلاً لاختيار القارئ، وهل سيأخذ بوجهات نظره في شخوصه الذين يشكلون خطراً على المجتمع؟
رواية "جنازة جديدة لعماد حمدي" هي الرواية الخامسة لوحيد الطويلة، بعد: ألعاب الهوى، أحمر خفيف، باب الليل، حذاء فيلليني.

(فرنسا).