Print
رزان إبراهيم

"الغجر يحبون أيضاً".. لغة الحرية وصوتها

18 سبتمبر 2019
قراءات
أول ما يصدفنا في رواية "الغجر يحبون أيضاً" لواسيني الأعرج افتتاحية من شأنها أن تكون في النهايات من حيث الترتيب الزمني والمكاني، إلا أن الروائي يختار أن يدرجها في الصفحات الأولى منها تاركا لإزميرالدا فسحة التقديم لحكاية مكتوبة بالغياب بطلاها رجل وامرأة التقيا بالصدفة عند بوابات كوريدا وهران؛ الرجل كان خوسي والد إزميرالدا، الذي مات في لحظة استهان فيها بالثور أثناء مصارعته له وظن أنه قد انتصر عليه، أما المرأة فكانت أنجلينا أمها التي قتلها زوجها السابق غارسيا يوم احتفال الناس بعيد الاستقلال عند عتبات فندق المارتيناز، وهو ما يأتي محققا غاية الروائي في إدخال القارئ في عالم الرواية التخييلي بخلفياتها وأجوائها العامة التي تسيطر عليها.

تقع أحداث الرواية في وهران التي شكل الإسبان فيها والقادمون من أصول أندلسية  (عام 1956) خمسين بالمائة من سكانها، وهي السنة التي تشهد عودة ابنها خوسي إليها من إشبيليا حيث كان يتدرب، يعود إليها وفي ذهنه تجديد علاقته بمدينته من خلال إعادة ممارسة رياضة مصارعة الثيران التي يعدها الإسبان ميراثا عريقا على الأرض، بكل ما تحمله من طقوس حول الرقص والألبسة والموسيقى، وبكل ما تجسده من مواجهة بطولية أو منازلة قاسية مفتوحة على آفاق مجهولة من خلال لعبة رهانها حياة وموت يتقرران في إطار وقت محدد ومساحة معينة تتحرك فيها الأحداث على نحو متسارع، بما يضمن إدخال القارئ في محطات نفسية تتراوح بين الخوف والمتعة اللذين يتجاوران وعنصري الإثارة والترقب. 


البعد التراجيدي للحياة والموت
وإذ جرت العادة أن تنتهي أغلب المواجهات بموت الثور إلا فيما ندر، فإن هذه الرواية تنزاح عن هذا المعتاد وتضعنا وجها لوجه أمام موت تراجيدي لبطل له مكانته الخاصة في وهران، بما يكشف جانبا مأساويا مباشرا له أبعاده التأثيرية على جمهور ساحة الكوريدا كما على القراء، ولكن الرواية تحمل من العلامات ما يدفعنا إلى التفكر بما هو أبعد من موت على ساحة الكوريدا، كما حين تستحثنا على تأمل حياة يفوتنا في كثير من الأحيان أنها قد تنتهي من حيث لا نحتسب لأتفه الأسباب وأصغرها، أو لربما بسبب خديعة تشبه تلك التي تصدر عن ثيران مدربة لها حيلها وضرباتها السرية، وقد تتظاهر في الموت في وقت تكون فيه تستعد للحظة الانتقام الأخيرة كما يحصل في مباراة خوسي الأخيرة التي تظهر أن"لا أخطر من ضربة الخديعة، فهي شديدة الخطورة، لأنها غير منتظرة". 
الرواية في عمومها تدخلنا في العمق من حس تراجيدي له أدواته التي أحسن الروائي استخدامها والتعبير عنها من خلال طقوس وحركات غير اعتباطية لها قواعدها ودلالاتها الرمزية التي عرفت بها، بما في ذلك موسيقى رافقت ساحة الكوريدا ورفعت من علامات التوتر المصاحبة للحدث، فكان من شأنها بالتآلف مع غيرها من العناصر إثراء عنصري التعالي والتفوق في الاحتفال التراجيدي وفقا لخطة معد لها، مما منحنا إحساسا قويا بأنها "موسيقى الانتصار للحياة، والموت، والنهايات التي لا أحد يعرفها كيف ستكون، كما في الحروب التراجيدية الكبرى التي تصنع الأبطال، كما تصنع اليتامى". ومن ثم السماح بإعادة إدراك العالم والتحديق في وجود مرعب ينبه الإنسان إلى ضرورة أن يستعد لمواجهة مصيره المؤلم الأخير، وهو ما يفتح الباب واسعا لأسئلة فلسفية عديدة حول الوجود ومآلاته الحزينة.


الانحياز للحياة
مع هذه الشجاعة والتحدي اللذين امتلكهما المتادور خوسي، فإن الرواية تأخذنا في صفحاتها الأخيرة باتجاه استبطان أعماقه وسبر أغوار مشاعره أثناء مواجهته قدرا حقيقيا يقوده للموت، ندرك خلالها أن اقترابه من الموت جعله يحس أكثر بقيمة حياة بدأت بالهروب منه، وهو ما دللت عليه إشارات متنوعة منها إلحاح صورة ابنته عليه وهي جنين في بطن أمها، مقرونة بصوت حبيبته آنجي تلح عليه بالتمسك بالحياة كما حين أخبرته "كلما غبتَ، أشعر بها تتحرك بعنف وكأنها منزعجة من شيء ما، أو خائفة". كما عاوده صوت الابنة تلح عليه أيضا بعدم الرضوخ لفكرة التنازل عن حياة تنتظرهما معا، فكان يسمعها تناديه قائلة: "بابا احسم المعركة بسرعة ودعنا نستمتع بالحياة. فيها ما يستحق أن نعيش من أجله". يحدث هذا بعد مشاهد بطولية استعراضية عاش معها خوسي انتصارا ومتعة مؤجلاً قدره الصعب، فكان كمن يرقص على حبل الموت في رقصة الفلامنكو، ليدرك في النهاية جمالية حياة تركها تفلت من يديه، وأنه كان واقعا تحت سيطرة جمهور أغراه بالمضي نحو حتفه، ليصدق على هذه المصارعة ما قاله همنغواي يوما حول ساحة مصارعة الثيران من أنها "هي المكان الوحيد الذي تستطيع أن ترى فيه الحياة والموت معا، طالما أن الحروب قد انتهت".


التوتر الدرامي
مع مشهد الموت النهائي تحديدا يحضر الروائي واسيني الأعرج أستاذا في صناعة التوتر الدرامي حين يقوم بتوزيع الصور تباعا بالتناوب ما بين واقع حسي مؤلم يفرض نفسه على خوسي، وبين تخييل ذهني يحضر بالتوازي مع لغة شعرية سردية تتنوع إيحاءاتها، وتسهم في تصاعد بنية متوترة فرضت نفسها بعد أن أدخل خوسي الشفرة في النقطة التي حددها بدقة بين مقدمة الكتفين والرقبة، وهو التوتر الذي جسدته حالة خوسي الموزعة بين حزنه على الثور من جهة وبين شعوره بزهو تجاه ما ظنه انتصارا، وهو ما دفعه للانصراف باتجاه الجمهور، حيث آنجي التي ينتابها شعور بالراحة تخيلت معه نفسها تركض مع صغيرتها بينما تلمس هي سماء وهران بجسدها. يبدأ إبان ذلك التفكير بعربة تدخل لانتشال الثور من الساحة علامة على انتهاء كل شيء. لكن ما إن تجتمع أسباب الفرح بالانتصار حتى تحدث المفاجأة الكبرى، فنرى الثور مويرتي وقد عاود الاستقامة من جديد على قوائمه تحت دهشة الجميع، مانحا نفسه القوة الاندفاعية الأخيرة، ليصبح خوسي الذي كان منشغلا بتحية الناس وتبادل الورود معهم في مرماه.

يأخذنا الروائي نحو مزيد من الدهشة المغلفة بتراجيدية قاسية حين يأخذنا إلى صورة خوسي في لحظاته الأخيرة وقد فتح عينيه بصعوبة متمنيا "أن يزحف نحو الثور ويضع رأسه بالقرب من رأسه".  كناية عن لحظة التساوي بالموت التي يعززها بمشهد آخر نرقب فيه بركة الدم من تحت خوسي وقد اتسعت وامتزجت ببركة دم مويرتي في مشهد درامي تتجلى معه غرابة حياة "بينها وبين الموت مسافة إصبع صغير، مسافة اللاشيء". لنكون قبالة موت هو موت الفرجة، وموت الدهشة، وموت الألم المتوقع على النحو الذي صوره لوركا حين تراءى له الإنسان في منازلة مع ثور الزمن الذي ينتصر عليه في آخر المطاف، كما هي الحال حين انتصر على المناضل أحمد زبانا الذي تراءى لخوسي لحظة إعدامه وقد تلقى "الشفرة الثقيلة بسرعة، محدثة صوتا جافا، طار على إثره كل الحمام النائم في فجوات ساحة الإعدام".
تتزامن أحداث الرواية وفترة استعمارية حساسة في تاريخ الجزائر، وهو التزامن الذي يفتح الباب لتوسيع دلالة مصارعة الثيران، لتشمل فعل النضال والمقاومة المحتدمة التي شهدتها الجزائر آنئذ، وهو ما تبرزه الرواية عبر صور إليغورية تتراءى كما الطوابق التي يحيل أحدها للآخر عبر خطة استراتيجية تبدأ أولا بالاحتفاء بالحرية، ومن ثم طرح سؤال يتعلق بمشروعية مصارعة الثيران التي يتراءى فيها طرفان؛ أحدهما ظالم والثاني مظلوم يستخدم كل ما هو متاح له كي يقاوم رغم الموت الحتمي الذي ينتظره.

الاحتفاء بالحرية
ولهذا الاحتفاء تمثلاته المتنوعة التي تتجلى من خلال استحضار الرواية مرارا أسماء عرف عنها نضالها من أجل حرية آمنت بها وعدها الفرنسيون إرهابا؛ فالجد زباطا مات منتحرا في حبسه لأنه "لم يتحمل السجن والصمت، وهو الحر دوما". وهو من أنجب أنجلينا التي كانت الحرية رهانها الأوحد حتى نهاية الحياة، وهي الحرية التي يتغنى بها الغجر جميعهم وانتقلت إلى إزميرالدا التي اختارت أن تستعيد والديها بالطريقة التي تفضلها هي وكانت تقول: "ألم أولد غجرية، من حرية الجنون، وماء البحر، ومن دم هو خليط من نار جهنم، ورعشة الموج؟" والرواية إذ تحتفي بالحرية فإنها عمدت إلى مقاطع غنائية شعرية ظلت تخترق النص بين الفينة والأخرى كما حين غنت أنجلينا مع مجموعتها:

"نحن الغجر لا نملك أحذية، ننتعل الريح والغيوم،

نطير حيث نشاء، ونبيت حيث القلب يريد".

 


المشروعية الأخلاقية لمصارعة الثيران

إن كلا من المتادور والثور تبقى حياتهما رهانا محفوفا بأقدار الموت، لذلك فإن اللعبة وإن كانت تسعد الجمهور، إلا أنها تدخل الحزن في قلب كثيرين بسبب الثيران التي تسقط ضحية هذه اللعبة على الأغلب، أو بسبب سقوط المتادور ميتا فيما ندر. هنا تقع هذه اللعبة في مغالطة إذ تعلن هدفها السامي في تقريب الناس من بعضهم حين يأتون حبا في المنازلة وفي المتادور إذ "لا منافسة إلا بين الثور وغريمه". في وقت تكون فيه هذه اللعبة الشاهد على ظلم يقع على ثور يعرف جيدا أنه فور دخوله ساحة الكوريدا "لن يخرج حيا مهما كانت نتائج المعركة، على عكس المتادور الذي يدرك جيدا أن حياته بين يديه، ورشاقته، وحذره أيضا". وإذ تطرح الرواية سؤال الظالم والمظلوم في ساحة الكوريدا فإن السؤال يمتد ليندرج على ما هو أبعد متخذا طابعا سياسيا بل وإنسانيا كما سؤال الحياة والموت الذي ناقشناه سابقا.   
عموما الروائي يناقش المشروعية الأخلاقية لهذه المصارعة على مدى واسع يظهر تباينا بين بشر يدافعون عنها وآخرين يدينونها، كل حسب رؤيته وحسب مشاعره وظروفه المحيطة به وتجربته، وبالتالي نجد أنجلينا تحتج على حالة يوضع فيها المظلوم في وضعية غير عادلة يجد نفسه فيها مضطرا للقتل قبل أن يقتل لأنه لا يملك حلا آخر إلا المقاومة بشجاعة اليائس وتقول: "لماذا تأتون بثور، تقتلونه سرا، قبل قتله المعلن، ثم تثقبون ظهره طويلا قبل تقديمه لقمة سائغة للمتادور؟" وهو ما يحضر بالتوازي مع موقفها المساند لمقاومة المحتل الفرنسي، بما يمكن ربطه بظروفها وتجربتها، فهي المرأة الموزعة بين أم غرناطية وأب من أهالي وهران، وشاء لها قدرها أن تنتمي لقوم كانوا ضحية للإبادة الجماعية التي قام بها النازيون، يضاف إلى ذلك تربيتها في وهران مع والدها الذي عرفها بفظاعات لا حصر لها تقع على الثور قبيل تحضيره لحتفه، بما يمكن عده هزيمة مسبقة سببها "النرفزة والغضب والإهانة، فالكائن عندما يهان يرمي بنفسه في قلب النار".
لا غرابة إذاً في أن يحتدم النقاش بينها وبين خوسي مرارا بصفته (المتادور) الذي يخوض حربا تراها هي ظالمة، وهو ما يشكل صراعا رئيسيا تعرضه الرواية في إطار سلسلة من الأحداث والمشاهد التي تتنقل بين ساحة الكوريدا وخارجها بوعي انتقائي يوحي بمستوى عال من التنظيم السردي الفني المنظم لكل الأحداث الرئيسية، ويساهم إلى حد كبير في رفع حالة من التوتر بين عدة أطراف (خوسي/ آنجي)، (المتادور/ الثور)، (الاحتلال/ المناضل)، في إطار علاقات متناسقة على مستوى الفعل وردة الفعل، يظهر خوسي معها عاجزا عن التفرقة بين معتد ومعتدى عليه يدافع عن نفسه، كما حال الثور الذي وجد نفسه موضوعا في دائرة مغلقة أمام جمهور من المتفرجين كانوا كلهم ضده، فكان من الطبيعي أن يستخدم قرنين لم يجد غيرهما وسيلة للدفاع عن نفسه والحفاظ عن وجوده.

 

العنف المتوالد عن اللامساواة

حري بنا التذكير هنا بأن ثورا يجابه العنف الممارس ضده بعنف يوازيه يُعدّ حالة نموذجية تمثل ما بات يتكرر في حياتنا من عنف إرهابي هو مسألة شديدة التأثر بدرجة اللامساواة الموجودة في مجتمع معين. وهو ما تعرضه الرواية من خلال ما تطرحه حول حالة اللامساواة المحكومة بالهويات. من هذا الباب تلفتنا الرواية إلى انقسام مواطنة المواطنين في وهران إلى ثلاثة أقسام؛ فهناك المواطنة الفرنسية الخالصة، ومواطنة فقراء أوروبا واليهود، وفي نهاية السلم مواطنة المسلمين. حتى الإسبان والمالطيون، والفقراء من الأوروبيين فمواطنتهم ظلت على المحك، مع أن الإسبان كانوا في وهران منذ القرن السادس عشر.
وإذ تتوزع هويات العديد من الشخصيات بين أكثر من جنسية، فلكي تقول لنا إن الشق الفرنسي لأي من هذه الشخصيات ما كان ليردع عنها نزعة عنصرية لاحقتها، أو حتى صورة نمطية من شأنها ممارسة المحو بسبب أفكار مسبقة صفتها التعنت، وعلى الأخص صورة مسبقة جاهزة حول الغجر الذين تفضح الرواية منذ البدايات نظرة دونية تلاحقهم، كما حين أبدى الشرطي حيرة إذ كيف يسافر الفرنسيون مع غجر "لا نظام يضبطهم، فوضى وروائح وأوساخ". بل ونجده يستكثر عليهم السكن في الحي الأوروبي. وهي الدونية التي تعلن عنها الرواية عن طريق العنوان (الغجر يحبون أيضاً) ردا على من يتعامل مع الغجر باعتبارهم غير قادرين على الحب مثل بقية البشر، لتكون رسالة الرواية واضحة في أن اللامساواة تولد العنف، والتطرف يخلق تطرفات، وحين يرفض الإنسان فإنه يعود إلى هويته الأولى، والتاريخ يثبت معادلة في غاية البساطة تقول: "أزيلوا الأسباب تزل النتائج".