Print

"امتحان الحرية" للقمان محمود

15 سبتمبر 2019
صدر حديثا
صدر حديثاً عن دار الدراويش للنشر والترجمة في بلغاريا كتاب الشاعر والناقد الكردي السوري لقمان محمود المقيم في السويد "امتحان الحرية- سيرة شعرية" في 158 صفحة.

يقول محمود: "كل ما أعرفه أنّ الكتابة الأولى لي قد تشكّلت في محيط شفوي، ثم تكررت هذه الكتابات بشكل يومي، كي تكون أكثر عرضةً للنسيان. فأغلب كتاباتي الأولية بلغتي الأم، ضاعت من النسيان. وهذا ما جعل المكانُ الأبقى لهذه اللغة مكاناً لا نذهب إليه إلا بالذاكرة. فبالذاكرة تزداد الحاجة إلى الشعر، كلما ازداد العالم قسوة ووحشية. فالصبر الذي خسر أسنانه، ترك خلفه أنياباً. هكذا تقول الكتابة الأولى وهي تُصغي إلى زمنها في اللغة الكردية التي هي لغة أبي وطفولتي".
الشعر عند لقمان أداة سحرية لتوسيع العالم عبر رفع سقف المخيلة. بهذا المعنى، يقول: "كلّما رأيتُ صياداً يتربص بالسماء عرفتُ أن هناك أغنية ستسقط. وكلما رأيتُ طائرة تتربص بالأرض أيقنتُ أن هناك روحاً ستغيب".
ويضيف: في عالم كهذا كتبتُ ديواني الأول "أفراح حزينة" عام 1990، للاقتراب من عالم

"ازدواجي"، عالم يدّعي الجميع فيه أن سلاحه نظيف، وأن أهدافه نظيفة. كان "الحزن" في ذلك الوقت قريباً من "الفرح" الرومانسي. فالجميع كانوا يتحدثون عن السلام الحزين، بينما أيديهم كانت تضغط بفرح على الزناد. حينها كانت مرتزقة حزب البعث المتمثلة في صدام حسين قد دمّرت مدينة حلبجة الكردية (بناسها وأحجارها وأنهارها وحيواناتها) بالقنابل الكيماوية، كما دمّر معظم القرى الكردية تحت اسم "عمليات الأنفال"، فساق إلى الموت أكثر من 200 ألف طفل وامرأة وشيخ.. ليتم دفنهم وهم أحياء في مقابر جماعية. وأمام هذه الكارثة الكبيرة جاء ديواني الثاني "خطوات تستنشق المسافة: عندما كانت لآدم أقدام" عام 1996، كتعبير عن الحياة والحرية في واقع الموت والاستبداد والقسوة والألم من النظام البعثي في سورية. في هذا الديوان كان يتداخل الحياة مع الموت، والحرية مع الاستبداد، والخطوات مع يوم جديد بلا موت. وبما أن الكتابة تحيينا بشكل دائم، فقد خصصتُ ديواني الثالث "دلشاستان" للمرأة، باعتبارها ضد الألم والفقدان ونقص الهواء والجمال على الأرض.. وهكذا جاء ديواني الأخير "وسيلة لفهم المنافي" عام 2014، كنتيجة للتراكمات التي اعتملت في داخل اللاوعي والوعي معاً (منذ أن تركت الوطن قسراً) من غربة ونفي وحنين وشوق. إنّ ذاكرتي الأدبية سوداء دائماً، وهي بحاجة إلى نقاهة طويلة. وكأنّ ديوان "دلشاستان" كانت البداية الحقيقية لرحلة الاعتقال والاستجواب. الآن كل شيء واضح وجلي، وكأن الحرية قد أصبحت أصغر. أتوق أحياناً إلى ذاك الكتاب المتعفن في الأمن السياسي. الآن كل شيء سهل وبسيط وفي متناول اليد. ومع ذلك لكل كتاب خصوصيته في الحرية وفي القمع. في الفرح وفي الحزن. تبدو تجربتي الآن وكأنني عاشقٌ مقتول في أغنية كردية. أحاول دائماً إيقاظ ألم دفين غير نائم بطبيعة الحال.
ويضيف لقمان محمود: عندما تبدع يكون الإبداع هو هوية المبدع الحقيقي. فالكتابة باللغة العربية ليست انفصالاً عن الهوية الكردية بقدر ما هو واقع فرض عليك بالقوة أمام منع اللغة الكردية. ورغم ذلك تبقى الكتابة باللغة العربية بمثابة ترميم للوجع الكردي. فالكردي المحروم

من لغته الأم يجد نفسه في لغة غريبة (فرضت عليه) لا يعرف منها والداه سوى الفاتحة والدعاء، فيصر تحت ضغط التهميش والحرمان والضرورة أن يتعلم هذه اللغة الطارئة على تفكيره وأحاسيسه ووعيه بكل السبل. هكذا تطرأ لغة أخرى مسموحة بها إلى جانب لغة الأم الممنوعة.. ومهما كبرت هذه اللغة فإنها لا تصير لغة للحلم الذي يحلم به أي كردي. بهذا المعنى لا أعتبر الكتابة باللغة العربية انفصالاً عن الأصل أو انفصالاً عن الهوية الكردية.
ويتابع: إذا كانت مجموعة "القمر البعيد من حريتي" ملخصاً لهاجسٍ كبير وهو الحياة، فإن "وسيلة لفهم المنافي"، ملخص لهاجسٍ آخر هو الوطن. فبعد احتلال "داعش" لشنكال، واحتلالها لكوباني، تأكد أنّ من يولد بلا وطن سيموت أيضاً بلا وطن.
ويبيّن محمود أنّ "وسيلة لفهم المنافي"، عبارة عن بوح مع الذات والوطن والذكريات، كوسيلة للبحث عن معنى أوسع للحياة في ظل المنافي، بذاكرة حية تنهض على ملاحقة الماضي والحاضر بكل همومها اليومية عبر تفاصيل طافحة بالقسوة الموحشة على مدى عمرٍ من المنفى والقهر. فـ"الشعر في هذه المجموعة ينطوي على مفهوم "الوطن" لكن بأفق "المنافي"، كوسيلة إنسانية تتوسل التعبير عن عوالم داخلية لحظة ارتطامها بالواقع والحياة. فالمنفى مظهر من مظاهر الوطن، والوطن مظهر من مظاهر المنفى. لذلك سيبقى المنفى- دائماً- هاجسي الكبير".
ويختم: ما أريده من القصيدة الكردية هو ما أريده من الكتابة بشكل عام.. أي أن تكون القصيدة وطناً وبنفس الوقت منفى. أن تكون القصيدة سفراً وبنفس الوقت عزلة. أن تكون القصيدة كردية وبنفس الوقت عالمية الإبداع. الوطن هو الذي قادني إلى المنفى، بعدما أجبرني على ترك جثتي المقتولة ورائي، وبعدما أجبرني على ترك رأسي المقطوع في غير مسقط رأسي. هكذا شاعر ملاذه الأول والأخير كان وما زال هو الشعر. أكتب لأحقق حلمي في تفاعل الثقافات، ولأخفف عن قلبي وقلب العالم بعض الألم والصقيع.