Print
ضاهر عيطة

رواية "الغرانيق": محاكاة الضحية لجلادها

11 سبتمبر 2019
عروض
رواية "الغرانيق" لمازن عرفة (دار نوفل) تمعن التفكير والتأمل في المنزلقات التي أدت إلى المأساة السورية، راصدة الكيفية التي حيكت فيها خيوط الدمار والخراب، حتى استحالت الجغرافية السورية بؤرة للجحيم.
واعتمد عرفة في بنيته الروائية على الكوابيس، كأسلوب للتعبير عن ذلك الجحيم، متكئاً على مفهوم الغروتيسك، مازجاً بين الواقعي والفانتازي، وبين المفزع والمضحك، عبر لعبة روائية فجائعية، تحاكي مجتمعاً بات الناس فيه يستهلكون أعمارهم بحثاً عن أمن مفقود، في أرض تحكمها سلطة دموية سحقت عقل وروح الإنسان، وحولته إلى كائن يخشى حك جبينه، لئلا يظن بأنه يمارس جريمة التفكير التي قد تكلفه حياته، مما يجعل مساحة العقل مطابقة لمساحة وحجم الحذاء، بل إن بطل الرواية يتمنى لو أنه حذاء، عساه ينجو من سطوة القهر والرعب.


غياب اسم العلم
هذا الانسلاخ عن الذات، والسعي إلى تدميرها، يولد طاقة عنفية لا تجد متنفساً لها إلا عبر تهيؤات كابوسية، تبعثر وتشظي الكائن الإنساني إلى عدة شخصيات، فالضحية غالباً ما تحاول النجاة من قهرها النفسي، بمحاكاة قاتلها في أحلام اليقظة، كحال بطل "الغرانيق" الذي لا

نعرف له اسماً، فاسم العلم مغيب هنا على نحو قصدي، ربما لتتماهى معه جميع الأسماء، وبغياب اسم العلم، تنفتح الأمور على العموم، وتغدو الشخصية مشاعية، إن صح القول، مما يخولها أن تكون أي آخر، ويمكن لأي آخر أن يكونها، فهي بمثابة مرآة تسلط الضوء على ذوات عديدة، والقارئ واحد منها.
وبعيداً عن الاسم، ما نعرفه أن بطل الرواية قد نشأ في قرية قاحلة، تحدها الصحارى والرمال من كل حدب وصوب، وتطبق عليها الجبال المقفرة، وحُكي له أن قريته كانت في زمن سابق محاطة بالخضرة والسواقي والأنهار، ولكن مع مجيء العسكر تصحر كل شيء فيها، وفي يوم اكفهر فيه وجه السماء، وعصفت فيه الرياح، تنبأت له الجدة، بأنه سيغدو جنرالاً، ليكتشف بعد حين أن النبوءة لم تكن لتنطبق عليه، إنما على من أنهى مرحلة الانقلابات العسكرية، بقتله لمعظم رفاق دربه، ليصير الجنرال الأوحد، وتلك الحكاية كانت واحدة من المقدمات التي أدت إلى  تشظي بطل الرواية، وانشطاره إلى ما يشتهي أن يكون، وما هو  عليه واقعياً، حتى بات شبح الجنرال يقتحم بساديته وعنفه تفاصيل حياته، إلى حد أن زوجته القبيحة المترهلة، وأثناء ممارسته الجنس معها، تهرب منه، لتمارس الجنس مع الجنرال الذي ملأت صوره جدران الغرفة، وحتى ماريلا التي كان يستحضرها في مخيلته، لتعوضه عن قباحة زوجته، استطاع الجنرال مغازلتها وانتزاعها من بين أحضانه، مما حرض البطل على ممارسات سادية سياسية، محاكياً من خلالها شخصية الجنرال، وسادية جنسية يمارسها مع ضحاياه، ثأراً من الجنرال، ومداواة لجرح الذات، سيما وأن الصالات السينمائية كانت قد ساهمت في شحذ مخيلة العنف والقتل لديه، بعرضها لأفلام تكرث لمفهوم البطل الأوحد، الذي ينتصر على جميع المجرمين، ليصير هو المخلص، والمحتفى به، خصوصاً من قبل الحسناوات، في حين أن بطل الرواية يرتعد خوفاً من رجال أمن الجنرال الذين يملؤون الأحياء والأزقة، ويعبثون بمصائر وحياة الناس، بينما كل ما هو متاح لديه، أن يتوارى تحت غطاء النوم، لينفذ عمليات إرهابية، يفجر من خلالها مراكزهم الأمنية، ولكن المرهق في مخيلته أنه كلما قام بقتل عنصر منهم، تكاثروا أمامه في الواقع، مما يستدعي بالضرورة القيام بعمل إرهابي فعلي، تكون ضحيته مجاميع من أسراب النمل ليس إلا.
هكذا هي حال المهزومين إنسانياً واجتماعياً وفكرياً، ينتقون من هم أضعف منهم، لعجزهم على النيل من قاهرهم وقاتلهم. وكما ساهم العسكر وأجهزة الأمن في تأجيج طاقته العنفية وسحق روحه وفكره، كذلك تركت الانتكاسات العاطفية أثرها في نفسه، ضمن أجواء مشحونة بالرؤية المحرمة لنساء في لباسهن الشفاف، بعكس حال البطل المقدم في الأفلام السينمائية، حيث تمنحه

الحسناء قبلة حارة، بعد أن ينقذها من القتلة، أو تتمدد أمامه عارية، امتثالاً  لذكورته وفحولته، مما يساهم في تضخيم رغبة الانتقام من الأنثى لدى بطل الرواية، ثأراً لذكورته المهملة، فيلجأ  إلى القتل والتعذيب، كما فعل مع نادية، الفتاة التي أحبها، والتي لم يجد إزاء عدم اكتراثها  بذكورته إلا أن يغرقها في الماء، وفي مشهد آخر يرمي بها إلى حفرة عميقة، وصادف أن  ترافقت هزائمه العاطفية، مع هزائم الوطن أمام العدو، مما دفع الجميع للسعي إلى حلم يقظة واحد، مفاده انتصارهم على العدو، وحتى الخطب السياسية، التي تمجد دماء الشهداء، أحالت الدماء إلى رمز يحرض الرغبة الجنسية، كما حدث مع ناهد حينما جرح شفتها وهو يحاول تقبيلها، فكان لمرأى الدماء أثر في تحفيز شهوته وساديته، مما دفعه في أحلام اليقظة إلى قطع ثديها، وكذلك قطع عضو حبيبها ياسين النجار.


مشاهد القسوة والعنف
والجنس والسادية
رواية "الغرانيق" مليئة بمشاهد القسوة والعنف والجنس والسادية، وفي جميعها يكون البطل حاضراً، إما بوصفه ضحية، وإما بوصفه جنرالاً قاتلاً، أو ثائراً مناهضاً للجنرال. فمشاهد المجزرة التي تحدث في المقبرة، ورمي المساجين وهم أحياء في حفرة ترابية، كان كفيلاً لوحده بأن يتماهى بطل الرواية مع شخصية الجنرال، لئلا يهلكه الرعب والخوف، وعندما تتعاظم المذابح والمآسي، وتشتعل الثورة، يحاول أن ينأى بنفسه عن مجريات الثورة، متخلياً عن حلم الخلاص من قمع الجنرال، هارباً إلى مخيلته التعويضية، وقد غدا شاباً يملك بيتاً طينياً يجعله مقراً لثوار يجتمعون ويخططون فيه، مستمعين لنصائح الأستاذ فارس الذي يختار السلمية، بينما يختار هو السلاح، ولكن مخيلته تهزم أمام قسوة وفداحة المشاهد التي يراقبها خلسة من شرفة منزله، حيث الرصاص يطال صدور الشباب والشابات على يد رجال الأمن، فيهرب من هذه

المشهدية، متحولاً  إلى جنرال، وشرفته تغدو شرفة قصر، والمتظاهرون ما هم إلا جماهير  يهتفون بحياته، فينقلب عجزه وخوفه إلى قوة ساحقة، وتصبح مصائر  الجماهير رهينة إشارة من يده، فتستيقظ فحولته الذكرية، وتنتقل العدوى إلى المحتشدين لمجرد أن أطل عليهم من شرفة قصره بعضوه المنتصب، وكي يلبي هياجهم وشبقهم، يستدعي ماريلا ويمارس الجنس معها على مرأى من أبصارهم الهائمة بفحولته، ولكن حتى حينما يلجأ إلى الكوابيس، سعياً لنصر مفقود في الواقع، وتحرراً من خوف مميت، تصر هزائمه على أن تلاحقه إلى هناك، فتتحول الجماهير التي كانت مفتونة به، إلى حشود تتظاهر ضده، مهددة سلطته، ولا تعود ماريلا خاضعة لرغباته وشبقه، إنما تخونه مع حارسه الشخصي، بعد أن ذبل عضوه من تكرار الهزائم التي طالت سلطته، فلا يجد إلا أن ينتقم من هذه الجماهير، ويأمر بقصفها وسحقها، ليستفيق على مشاهد اجتياح قريته، متخلياً هنا عن كوابيسه وتهيؤاته، لهول وفظاعة الجريمة، حتى نخال وكأننا معه في قلب الحدث الدامي، وقد تشظينا إلى عدة أشلاء، لنكتشف هذه المرة أن من أدخلنا في لعبته المميتة هذه، ما هو إلا المؤلف مازن عرفة.