Print
إيهاب محمود

فلسفة الشاي وطقوسه وحكاياته

23 أغسطس 2019
عروض
في مستهل ثلاثينيات القرن الماضي، وبالتزامن مع اختراع كيس الشاي في ألمانيا، ظهر كهربائي غريب اسمه "Teasmade" أو "صانع الشاي" حظي ببعض الشعبية في إنكلترا، حيث كان يضم منبهاً، وغلاية ماء، وإبريق شاي، لتوفير بعض الدقائق على أحدهم وهو يعد كوب الشاي الصباحي قبل أن يبدأ يومه، غير أن الجهاز لم يفلح ولم يحقق استمرارية أو نجاحاً واسعاً، على عكس ماكينات صنع القهوة، ولعل السبب في ذلك هو أن الشاي يرمز إلى الانطواء والتأمل الذاتي، حيث يرافق من يشربه، وذلك وفق تفسير الكاتب الألماني كريستوف بيترز.
"الشاي هو مشروب الساعة"، هكذا يرى الكاتب الألماني كريستوف بيترز في كتابه اللافت "الشاي: ثقافات.. طقوس.. حكايات" الصادر مؤخراً عن دار العربي للنشر بالقاهرة، بترجمة الدكتورة سمر منير، معتبراً الشاي مشروباً له خصوصية لا تحفل بها بقية المشروبات.
ومن تجليات خصوصية الشاي أنه مشروب يحتاج إلى مجهود فردي كي يتم إتقانه بمزاج عالٍ، بمعنى أنه من غير المتعارف أن تجد أحدهم يلجأ لماكينة لعمل الشاي، خلاف القهوة أو النسكافيه مثلاً، على الرغم من محاولات قام بها المسؤولون عن تطوير الشاي لمواكبة التقدم
وإنتاج ماكينة لتحضير الشاي، لكنها فشلت. ويقول بيترز: "إن الأجهزة الحديثة باهظة الثمن لا تعد فقط عديمة الجدوى عند إعداد شاي جيد، بل إنها تعوق إعداده بمعنى الكلمة، فقد أثبتت بعض أنواع الشاي أنها أنواع لا تضاهى بنوع آخر، فتأبى أن يصبح لها مذاق جيد، عند إعدادها دون تدخل بشري ودون حس إنساني".
حاول بيترز في كتابه تأصيل نشأة الشاي، محيلاً القارئ إلى دراسة "تشا تشينغ" وهي أقدم دراسة مكتوبة تداولها الناس عن الشاي، وألفها لو يو في القرن الثامن للميلاد، عندما كان الشاي يتحول من ثمَّ إلى طوب ويتم تحميصه وسحقه في المهراس وغليه بماء مالح، وخلطه بالكرات والزنجبيل وقشور اليوسفي والنعناع والقرانيا الأوروبية. في الوقت نفسه ترى الهند أنها منشأ الشاي في العالم، وفي الطبعة العشرين من موسوعة "بروكهاوس" الصادرة عام 1998، يرد ذكر ولاية آسام الهندية بوصفها الموطن الأصلي للشاي، ولكن يتفق أغلب الخبراء، وفق بيترز، على أن أصل نشأة الشاي يرجع إلى الصين بسبب شجر الشاي الصينية المعروفة باسم الكاميليا الصينية، التي تنتشر من مرتفعات سيتشوان بامتداد نهر يانغستي نحو الجنوب، ومن الدلائل الأخرى اللافتة العريضة التي تطالعها وتلفت نظرك لا محالة حيث تحتل مساحة كبيرة في مطار بكين وهي "الصين، موطن نشأة الشاي" في اعتزاز كبير للصين باعتبارها الدولة التي عرَّفت العالم على مشروب الشاي.
وبامتداد صفحات الكتاب البالغ عددها 239 صفحة، يحكي بيترز عن ولعه بالشاي، وفنون
إعداده المختلفة، حيث يقضي الساعات للتعرف على طريقة جديدة، أو قراءة دراسة قد يخرج منها بمعلومة تضاف إلى ما يعرف عن مشروبه الأثير، الذي بسببه سافر حول العالم لاكتشاف ثقافاته وحكاياته وطقوسه الغريبة واللافتة.
وفي رحلاته حول العالم للكتابة عن ثقافات الشاي وحكاياته المتعددة والمختلفة، لفت نظر كريستوف بيترز أن الشاي في مصر ربما امتلك قوة جذب سحرية تجبر الشاربين على التعامل مع مشكلاتهم بسلام غريب، حيث رأى الناس يسهرون لساعات متأخرة في حلقات حول الشاي، يشربون ويضحكون، ويتناقشون في أمور حياتية واجتماعية مهمة وغير عابرة، وكأن للشاي مزاجاً خاصاً يفرضه على هؤلاء الذين يستجيبون لسحره الغامض.
في اليابان، شاهد بيترز طقوس الشاي، وعرف شاي السادو، الذي يحفل بطقوس متعددة، كما يحكي في كتابه عن من عرفوا بأنهم "معلمو الشاي اليابانيون" وهم: موراتا جووكو، تاكينو جو، وسين نو ريكيو، الذين ارتقت طقوس الشاي على أيديهم لتصبح بمثابة طقس ياباني في عهد أبرز قادة الجيش في اليابان قبل أربعة قرون من الآن. ومن أبرز دلالات التقديس الغريب لليابانيين للشاي، وانشغالهم بطقوسه، تم تصوير فيلم وثائقي عن حياة معلم الشاي الشهير سين نو ريكيو (1522- 1591) وأخرجه كاي كوماي، والفيلم بعنوان "موت معلم الشاي"، ومن أبرز التعاليم التي وردت فيه: "الشاي، إنه طريق القتال دون حمل سلاح" في إشارة إلى أن التدريب الروحي والسحر
الغامض الذي يفرضه الشاي بإمكانه أن يلعب أدواراً متعددة.
ويؤكد بيترز أن المصادر التاريخية لم تتفق بشكل تام على بداية انتشار الشاي في أوروبا، مرجحاً أن يكون البحارة البرتغاليون هم من أحضروه للمرة الأولى من اليابان إلى البرتغال بسبب علاقاتهم التجارية مع اليابانيين عام 1580، في عهد معلم الشاي الياباني سين نو ريكيو، وفي 1610 انتقل احتكار الشاي من البرتغاليين إلى الهولنديين، حيث وصلت إلى أمستردام سفن شركة الهند الشرقية الهولندية بعد مرورها بـ"باتافيا" وعلى متنها صناديق شاي قادمة من الصين واليابان، وبذلك تطورت ثقافة الشاي في أوروبا، خاصة عندما تزوجت الأميرة البرتغالية كاثرين أوف براجانزا من الأمير الإنكليزي تشارلز الثاني عام 1662، وكان من ضمن تجهيزات العروس صندوقان من أجود أنواع الشاي، وفي وقت لاحق نجحت كاثرين في إثارة شغف طبقة الأرستقراطيين الإنكليز في بداية الأمر، ثم شغفت بريطانيا كلها بشرب الشاي في وقت لاحق.
وبعد سبع سنوات فقط من الزواج البرتغالي الإنكليزي، وتحديداً في عام 1669، انتقل الحق الحصري في مزاولة تجارة الشاي مع الصين من الهولنديين إلى الإنكليز، ليحتفظوا بذلك الحق إلى العام 1833.