Print
محمود عبد الغني

"مديح الترجمة: تعقيد الكوني": في الحاجة إلى التفكير بالألسن

20 أغسطس 2019
عروض
اغتنى حقل الترجمة بمفاهيم ومصطلحات كثيرة، من حقول متعدّدة. فهو من بين الحقول الذي يمكنه الاستفادة من علوم عدّة، في مقدمتها اللسانيات وعلم الدلالة، وعلم النفس، والفلسفة، والكتابة، وتاريخ اللغات. ولتقديم الدليل على ذلك، نقدّم هنا قراءة في كتاب "مديح الترجمة: تعقيد الكوني"، الذي تُرجم هذه السنة إلى اللغة العربية، ونشرته دار توبقال بالمغرب، للباحثة باربارا كاسّان، المتخصّصة في الفلسفة اليونانية، ومديرة البحوث في المركز الوطني للبحوث العلمية بباريس.
تكمن أهمية هذا الكتاب في القيمة التأملية التي أضفتها على الترجمة، وعلى اللغات، وعلى كيفية تدبير الاختلاف بينها.
إن هناك نزعة لغوية غريبة، ومنذ القدم، بموجبها يقوم كل لسان بتجريم لسان آخر: "هذا اللسان إغريقي... هذا اللسان عبري... هذا اللسان صيني". وذلك باختصار أمر غامض لا يمكن فهمه ولا تفسيره. كل لغة تعتبر اللغة الأخرى غريبة: "بالعربية يقال هذه فارسية أو
هندية. وبالهندية يُقال هذه تاميلية. بالعربية يُقال هذه صينية. بالصينية يُقال هذه كتابة من السماء".
تضع كاسّان أمام أعيننا هذا التجريم الجذري للغة تجاه الأخرى (يات). وهو أمر قديم تعوذ جذوره إلى اليونانيين الذين كانوا يعتبرون اليونانية هي لغة الخطاب، وأن كل لغة أخرى غيرها هي بربرية، وكل متحدّث بغير اليونانية بربري.
تحدّث بول ريكور عن الاختلاف الجذري بين اللغات، وهو ما شكّل الاستحالة الأولية للترجمة، لكن ب. كاسّان تضيف مسألة التجريم اللغوي. إذا كان الاختلاف اللغوي يؤدّي إلى استحالة الترجمة، فإلى أين يؤدّي التجريم اللغوي يا تُرى (رغم المديح الذي تصرّح به المؤلّفة للترجمة)؟


مديح الترجمة، مديح اليونانية
عند اليونانيين، من لم يكن يتكلّم اليونانية هو بربري: بْلا بْلا بْلا. هو متكلّمٌ غير مفهوم: "نحن

لا نفهمهم، ربّما لا يتكلّمون حقّاً، إنهم ليسوا "بشراً مثلنا"".
إن من واجب كل شخص أن يمتدح اللغة التي ساعدته على امتلاك معرفة أصلية ومتكاملة. وهنا تصرّح ب. كاسّان بأن كتابها يمكن أن يكون بعنوان آخر "مديح اليونانية": "من أجل كتابة مديح للترجمة كما أفهمه، عليّ أولا أن أكتب مديحاً لليونانية". وطبعاً مديح اليونانية لا يتمّ إلا بواسطة مديح للإنسانيات، لأن كلّ ما تعلّمته كان قد تمّ بالإغريقية وعن الإغريقية. كما يمكن لمترجم آخر بلا شكّ أن يمتدح ما تعلّمه بالعربية أو الصينية أو العبرية أو الفرنسية أو الإنكليزية. مديح الترجمة هو إذاً، بطريقة ضمنية، مديح للمعارف التي تحصلنا عليها بهذه اللغة أو تلك. لكن تقف كاسّان متأسّفة بكل حزن عند انعدام أي وسيلة (في فرنسا) لتعلّم اللغة اليونانية. وهذا، تحديداً، ما تدعو إلى تقاسمه على نحو متكامل وأفضل.

ألا نفهم من هذا الموقف: اليونانية مهدّدة، الإنسانيات مهدّدة؟ إن الإنسانيات كانت دوماً مهدّدة، وبدت نخبوية وعديمة الجدوى، على طريقة بيير بورديو. واليمين واليسار يحذران منها، لصالح الدعوة إلى مسايرة الثقافة الديمقراطية لعصرنا.


مديح الإنسانيات والمعارف الأصلية
إن الرهان الكبير في جميع الأصعدة الهامة والجدّية، هو تكامل المعرفة وتشاركها. هذا ما تخطط له الدولة، كل دولة. هذا تحديداً ما يفسّر رهانات إصلاح المدارس، التي تتفق مع

رهانات ذوي النيات الحسنة، ومع رهانات اليونسكو تحديداً. لكن تكامل المعارف وتقاسمها لا

يتمّ إلا عن طريق العودة إلى المعارف الأصلية، وهذا أمر يمكن قوله، وبقوّة، عن رهانات الترجمة وتكاملها: "كفى من سلالم السوربون التي لا يتمّ تخطيها، كفى من أولئك الذين يترجمون بارمينيدس أو أفلاطون دون أن يعرفوا هوميروس، وليحْيا من يدعون عن استحقاق بالكلاسيكيين، ذوي المعارف المتعدّدة في العالم الأنجلوسكسوني".
هنا تعطي المؤلّفة أرقاماً مشجعة فيما يخص اللاتينية في الفترة الممتدّة بين 2015-2016، كون 156 ألف طالب يدرسون اللاتينية في القسم الخامس، و550 ألفاً كان من المتوقع أن يدرسوها في تخصصات "اللغات وثقافات العصور القديمة". هكذا تدعو ب. كاسان إلى مديح الترجمة، الذي هو في الأخير مديح اللاتينية واليونانية وكل اللغات القديمة.


ما لا يمكن ترجمته
إن مديح الترجمة هو في نفس الآن مديح لـ"ما لا يمكن ترجمته" (باللغة الإنكليزية). إنها عبارة شهيرة ومألوفة عن المترجمين وقراء الترجمات عبر العالم. هنا تذكر كتاباً صدر منذ أكثر من عشر سنوات وعنوانه "ما لا يمكن ترجمته". ورغم أن هذا الكتاب غير محتمل، حسب المؤلفة، إلا أنه ساهم، وبقوة، في تغيير مجموعة من الأمور بالنسبة لمكانة

الترجمة في الفلسفة، بل وبالنسبة لفكرة الترجمة وممارستها. إنها تجربة كاملة، يمكن أن تُحكى بتشويق كما تُحكى القصص المشوّقة.
لقد بيع من هذا الكتاب، في فرنسا وإنكلترا وفي كامل أوروبا، ملايين النسخ، مما كان له دلالة أنه لم يكن عملاً مغلقاً. وهذا في حدّ ذاته مصدر فخر واعتزاز للمترجمين في كل العصور واللغات والثقافات. إن مثل هذه الكتب تضع نهاية لأي دجل. لكن هناك سؤال لا يمكن تجاوزه: هل الكلمة الواحدة تعني الكثير من الأشياء المختلفة؟. هذا أمر مهم للمترجمين ومصنّفي المعاجم. تعود كاسّان إلى جيل دولوز الذي استشهد برواية "أليس في بلاد العجائب" للويس كارول: "عندما أستعمل كلمة، يقول القزم الصغير بنبرة احتقار واضحة، فإنها تعني بالضبط ما أريدها أنا أن تعنيه. لا أقل، ولا أكثر، كما يجيب أليسْ، هو هل من الممكن أن نجعل الكلمة نفسها تعني الكثير من الأشياء المختلفة، والسؤال كما يجيب هامبتي دمبتي، هو معرفة من سيكون السيّد. نقطة هذا كل شيء".


في الحاجة إلى التفكير بالألسن من خلال الألسن
"لم ألتق باللغة، لقد التقيت بالألسن فقط". واللغة تتجلّى في الواحد باعتباره تنوعاً حسب تعبير ويلهلم هومبولدت. إننا نخاف من اللغة لأنها واحد يتفرّع، مثلما نخاف من تحولات الكلب الكبرى: حين يصبح للبولدوغ. إن جمع "لغة" هو "لغات"، لكن الإنجيل هو وحده من يسمح لنفسه بـ"التحدث بالألسن"، كما جاء في "المعجم الأوروبي للفلاسفة". أما اليوم، فنحن جميعاً مدعوون "إلى التفكير من خلال الألسن، ومحاولة التفكير بالألسن". هذه هي خلاصة هذا الكتاب المفكّر، المليء بالتأملات القديمة والعصرية.