Print
مها حسن

"صورة مفقودة": بحث في الخلاص الفردي

14 يوليه 2019
عروض
بسعيها لتكون ذاتها فقط، محاولة التخلص من كل الصفات الفائضة التي يضيفها الآخر عليها، تكتب أسمى العطاونة، محاولة صناعة نص خاص بها، لا يشبه أمثالها أو مثيلاتها.
في روايتها الأولى الصادرة عن دار الساقي، بالتعاون مع الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق)، تنحت أسمى صورتها في مئة وستين صفحة حملت عنوان "صورة مفقودة".
تنقسم الرواية إلى جزأين: ارحل ـ عد.
يتفاوت السرد بين الجزأين، حيث تسرد أسمى تفاصيل دقيقة في الجزء الثاني، الذي يكاد يشكّل ثلثي الرواية، بينما يأتي الجزء الأول سريعاً ومبتسراً، وكأنها لم تهضم حياتها الجديدة بعد، والتي بدأت بعد مغادرة فلسطين، عام 2001. وكأن تسعة عشر عاماً غير كافية بعد، لتشكيل حياة جديدة يحتويها السرد، حيث لا تزال حياتها الأكثر تأثيراً، هي الأعوام التي أمضتها هناك، في غزة، التي رحلت منها إلى الغرب، حيث بلاد الهدوء والخضرة.

خارج السياق
لا تُشبع أسمى العطاونة تعطّش القارئ التقليدي الذي يتوقع العثور على رواية فلسطينية تزخر بمفردات النضال والصراع العربي- الإسرائيلي، بل تشتغل الكاتبة على تقديم معاناتها الفردية كامرأة تواقة للحرية، داخل مجتمع يعيش أزمة الاحتلال، وكل تفاصيله المرعبة، من مشاهد الخوف والمداهمات والاعتقالات في أية لحظة، وفي ذات الوقت هو مجتمع محافظ تقليدي يخنق النساء.
يعرف الكثيرون أشكال عيش هذا المجتمع للحصار والاحتلال، عبر الروايات والسينما

والأبحاث، لكن الكتابة الفردية، الحرّة، المستقلة، كتابة النزق الشخصي والأحلام الخاصة، وأمنيات البنات للانفلات من قبضة هذه الذكورة الخانقة، هو أمر نادر، على الأقل، حسب خبرتي كقارئة للمجتمع الفلسطيني وتوثيقه أدبياً. من هنا تأتي رواية أسمى الأولى، بمثابة تشخيص لآلام النساء ومعاناتهن المزدوجة وهن يعشن وطأة الاحتلال الاسرائيلي من جهة، واحتلال الذكور لأحلامهن ورغباتهن من جهة أخرى.
لذا فإن هذا النوع من الأدب برأيي يعد وثيقة جريئة تسلّط الضوء على أحلام البنات، اللاتي يرغبن بعيش حرّ، بعيداً عن سلطة الآباء والعائلة والتقاليد والزواج القسري والعنف اليومي.. نساء يعشن احتلالات متعددة المستويات.
وهكذا يأتي كتابها لتوضيح قضيتها الشخصية: قضية الحرية، وكأن أسمى تردّ القارئ إلى جذر الصراع، وتقول بأن الصراع الرئيسي في الحياة هو صراع وجودي، ولكنها ككائن ضعيف ووحيد، كامرأة محاطة بجدران العادات والتقاليد، تخوض صراعها الوجودي لتحقيق حريتها الذاتية، لتكون لاحقاً كائناً حراً مستقلاً قادراً على التصدي للاحتلال بأدوات حديثة، أدوات الحرية ذاتها.
لهذا فهي لا تبحث عن الحلول الجاهزة، رافضة بعناد تلقائي تمتعت به منذ نشأتها القاسية في حارة السود في غزة، لتتابع طريقها الشاق صوب ذاتها.
فها هي ترفض الزواج من خوسيه، أستاذ الإسبانية الذي ساعدها على الهروب من غزة، ورغم أنها لا تملك شيئاً ولا تعرف أحداً في إسبانيا، لكنها تفرّ من ذلك الزواج: "لم أهرب من خنقة حارة السود ومن سلطة أبي لأسجن نفسي في خنقة أخرى... أفزعني ما عرضه عليّ في الزواج بي والبدء بالإجراءات القانونية لحصولي على الإقامة والجنسية الإسبانية" (في الصفحة 25 من الرواية).
خوسيه الذي كان يرى فيها امرأة مسلمة، وكان يريد الزواج من امرأة بهذه المواصفات، لم يرقْ لأسمى المتمردة على جميع الأحكام المسبقة والصور النمطية التي يراها الآخر فينا، فتقول في الصفحة 21 من الرواية: "لست مثالاً للمرأة المسلمة التقليدية، جئت لأتحرّر من الأعباء التي ألصقت بي منذ طفولتي، تلك التي لم أخترها لنفسي".

غرفة تخص المرء وحده
مذكّرة قارئها بكتاب فرجينيا وولف، وشغفها الرئيسي للحصول على غرفة من أجل الكتابة، تؤكد أسمى ثيمة (الغرفة) كأحد العناصر الرئيسية لامتلاك الحرية، حيث تقول في الصفحة 41 من الرواية: "لم أهرب من حارة السود لأشكل صورة المرأة الفلسطينية التي تحمل فلسطين في حقيبتها أينما رحلت، بل هربت لكي أجد مساحة شخصية خاصة بي أضع فيها

سريراً صغيراً وطاولة".
وبطريقتها، تؤكد الكاتبة مقولاتها الشخصية في الرواية في عدة أمكنة، لتشرح للقارئ أسباب هجرتها، ساعية للحصول على حقها في الهرب من جحيم المخيم الذي كانت تعيش فيه، لأسبابها هي، وإن كانت تلك الأسباب تافهة في نظر الآخرين، لتقول في الصفحة ذاتها: "لن أهرب أبداً من الصورة التي يريدون حشري فيها: المهاجرة الفلسطينية التي جاءت إلى هنا هرباً من الحرب، ويتفادى الجميع نقاشي في فكرة أنني إنسانة قبل كل شيء، وأنني كإنسانة يحق لي أيضاً أن أهرب لأسباب شخصية وإن كانت تافهة، فهي بالنسبة لي في غاية الأهمية".
يكاد يكون نضال الكاتبة الشخصي في الغرب، هو نسف الكليشيهات التي يؤطرها فيها القارئ الغربي خاصة، وهو ينظر إلى امرأة قادمة من المخيمات، ليصنع منها قديسة قادمة من فلسطين، كما تقول في الصفحة 28 من روايتها: "ابتسم القسّ في وجهي وسلّم عليّ، فشعرت لوهلة أنني العذراء وصلت للتو من فلسطين إلى هذه الكنيسة".

الرحيل والذاكرة
تبدأ الكاتبة بسرد حكايتها، لتفتتح الرواية بمشهد إغماءة رجل في ساحة سانت إيتيان مقابل كنيسة الحي في مدينة تولوز في فرنسا في الساعة الرابعة صباحاً، وهي متجهة إلى موعدها مع محاميتها في المبنى الحكومي التابع لبلدية المدينة، ثم تتابع سردها تدريجياً لتروي حكاية مغادرتها لفلسطين بصحبة خوسيه الذي كان يعمل في حفر الآثار في غزة، وساعدها في الهرب معه، حتى مدريد، ثم تهرب منه، لتأتي إلى فرنسا.
في الجزء الثاني من الرواية، حيث الهاجس الأساسي: توضيح العيش هناك، تحكي أسمى

قصصها الخاصة، تلك التي أدت بها إلى ترك البلاد.
في هذا القسم، يمكن العثور على المتعة السردية، لتقديم، حيث يسود لقبها " نص نصيص" في الحارة ويلحق بها حتى المدرسة، كبنت اعتادت الهروب إلى بيارة الصبار واللعب مع الصبيان، في ألاعيبهم القاسية، لتعود إلى البيت ملوثة الملابس، وتتعرض للضرب.

هنا نعثر على فتاة مختلفة، صبية تشكل شلة صغيرة تقودها مع صديقها عبد الله، تمتلك مهارة استخدام المقلاع لرمي الحجارة على الإسرائيليين خلال التظاهرات أو لاصطياد العصافير.
في هذا القسم، يظهر البؤس الحقيقي لحياة النساء، لا فقط في الفقر والأعباء الملقاة باكراً على البنات منذ الطفولة، بل والتمييز الذي تتعرض له بنات المخيم وبنات العمال عن بنات المديرات والمعلمات، "أما نحن، بنات المخيمات وبنات العمال، فلا معاملة لنا سوى معاملة الجرذان، فنجرّ في طوابير صباحية لإجراء التطعيم خوفاً من تفشّي الأمراض بيننا وانتقال العدوى للمدنيين في غزة" حسبما تقول في الصفحة 76، لكن البنت العنيدة المقاومة للإهانة، لا تسكت عن الذل، فتسرق مفتاح الصف، لتقفل الباب على المعلمة، وتهرع صوب العصابة الصغيرة تغني معهم منشدة انتصارها : "ادحدل يا برميل الكاز، أبلة زينب إلها طياز"، تقول: "كنت أشعر بفخر لانتقامي لنفسي ولصبية الحارة من "الأونروا" التي تفرّق بيننا ولا ترانا"، صفحة 78. وسرعان ما تستعيد الساردة خوفها من خيزرانة أمها، وعكاز جدها ونربيج الحمام، وحزام والدها الذي يرسم تورماً أحمر على جسدها، تحدثنا عن هذا الخوف الذي يحياه أبناء حارة السود، خوف الصغار خاصة: "في حارة السود حيث نعيش، تتحول قضايانا الصغيرة إلى خوف من الموت... يثير ذعرنا ما سيُشاع عنا من أحاديث وسير أكثر مما يثيره صاروخ يهودي قد يسقط فجأة ليهشّم رؤوسنا الصغيرة" (صفحة 79 من الرواية).
رواية "صورة مفقودة" نموذج للصراع الفردي لامرأة تنحت الصخر لتصنع حياتها بحريّة، امرأة تحمل هاجس الحرية من أية سلطة، منذ الاحتلال، حتى الأب، حتى المجتمع.. رواية مكتوبة بصدق وشجاعة واستعداد للمواجهة، دون خوف من أي حكم عليها، وكأن الكاتبة تقول في لسان حالها ما قالته للشرطي الاسرائيلي الذي طلب منها النزول من الحافلة: "أنا مش نازلة من هون ولا متحركة من هون، وطخني إذا بدك!".