Print
عماد الدين موسى

"بارتلبي النسَّاخ" لهرمان مِلفل: وصف ظاهرة الاغتراب

8 يونيو 2019
عروض
روتينٌ مُملّ، عَمَلٌ قليل، وتوجّس من قبل صاحبه بالمجازفة في قضايا كبيرة يجد نفسه غير مستعد لها، أو ليست لديه القدرة على القيام بها، بل يكتفي بما هو موجود لديه... شارع كبير هو شارع (وول ستريت)، مدينة نيويورك، حيّ برجوازي، مكتب محام لديه بعض الموظفين، ناسخ يدخل المكتب من دون سابق إنذار، ليترك أسئلة كبيرة وكثيرة معلقة على شفاه كل من يعمل معه في هذا المكتب، وخاصة صاحبه المحامي، لشاب عاش، ومات على حافة الهاوية، فالسقوط كان يناديه منذ اللحظة الأولى لوجوده في الحياة، في تلك الفوضى التي كانت تحيط به من كل جانب، ونهاية مأساوية لذلك الرجل النسّاخ، الذي سميت الرواية تيمناً به، ليعيش، ويموت من جرائها، ظاهرة ليست غريبة عن واقع مثل الواقع التي تجري فيه أحداث رواية "بارتلبي النسَّاخ"(*)، للكاتب الأميركي هرمان ملفل (**)، الذي لم يكن أقل براعة وقوة في تعبيره عن وصف ظاهرة الاغتراب من غيره من الكتّاب الذين كتبوا عنها، وتوقفوا كثيرا عندها، ناهيك عمن تناولها بالبحث والدراسة كظاهرة جديدة، ولدت مع الحضارة، وجاءت من رحمها، لتشمل الجميع بآثارها ومخلّفاتها.

اعترافات الراوي
"أنا رجل عجوز إلى حدّ ما، وقد قادتني طبيعة عملي، في الثلاثين عاماً الأخيرة، إلى أكثر من ما يعد مجرد احتكاك عادي مع أولئك الذين يبدون مجموعة مثيرة للاهتمام، ومتفردة بعض الشيء، بل ولم يكتب بشأنهم أي شيء أعرفه حتى الآن، وأعني بذلك، ناسخي الوثائق القانونية".
يعترف الكاتب على لسان بطل روايته بأنه رجل عرف الكثير من الناس في الحياة، وأن طبيعة تلك الحياة هي التي تأخذنا إلى سبر أغوارها للتعرف إلى شخصيات في غاية الغرابة والعجب، لدرجة الدهشة، وليس الأمر في حدّه غريباً عن مجتمع سمته الأساسية إنهاك الإنسان تحت مسميات الحضارة وبسببها، فكل ما حولك غريب، وكل ما حولك لا معقول، وأنت أيضاً لا

معقول بالنسبة للغير الذي يتعامل معك. إذاً الموضع كما يبدو، هو لحظة قدرية جمعت بين شخص عمله الوظيفي محام، وله علاقات كثيرة مع الناس بحكم طبيعة وظيفته، ومن خلال تلك العلاقة التي نشأت بينه وبين موظفين قلائل لديه في مكتبه نفسه مستغرب كحالة ظاهراتية بالنسبة لنا، ولكن الأمر لا يبدو على هذه الشاكلة بالنسبة له، فهو من اعتاد على ذلك من خلال عيشه في أميركا (نيويورك تحديداً)، وتماما في الشارع البرجوازي ذاته الذي يعيش فيه بطله، الذي يتحدث عنه (بارتلبي)، صاحب التصرفات الغريبة، ومنذ اللحظات الأولى التي يتعرف فيها إليه.

عالم لا معقول
بقدر ما تبدو الأمور من حولنا بسيطة، بقدر ما تكون صعبة، وتحمل في طياتها الكثير؛ عالم متغير بكل معنى الكلمة، وتدفعك إلى الانسلاخ عن ذاتك لدرجة كبيرة، حتى ليصاب البعض منا بالدهشة جراء ذلك، ولكن هذا ليس بالشيء الغريب، في حياة سمتها قتل الإنسان، وسلب طاقاته، وجعله عبدا للعمل، وقتل كل شيء مبدع فيه، فقط العمل هو المطلوب، فقط السير وفق نظام حياتي اعتاد عليه الجميع من دون تفكير بما يحمله لهم من متاعب، واستنزاف للروح، والنفس، فالجسد موجود، ولكن الروح والنفس مغادرة إلى عوالم أخرى بعيدة عن واقعها، ووجودها، وكينونتها الطبيعية، وما أعمال الكتّاب والروائيين الذين قدموها قبلا إلا تأكيداً على هذا الشيء، كما رواية "الغريب" لألبير كامو، و"المسخ" لفرانز كافكا، و"في انتظار غودو"  لصموئيل بيكيت.

كائن في سكون مطلق
يأتي بطل الرواية، بارتلبي النسّاخ، إلى المحامي الذي يتعرف إليه، من خلال الوظيفة التي يعلن عنها المحامي نفسه عنده في المكتب الخاص بالمحاماة، وعلى الرغم من أن المحامي لديه ثلاثة عاملين إلا أنه يعلن عن رغبته في قبول شخص آخر في مجال النسخ، ويتم قبول النساخ الجديد، ويقوم بمباشرة عمله منذ اليوم الأول، ويبقى مواظباً على عمله، وفي أول طلب من صاحب العمل (المحامي) له، يرفض برده عليه بكلمة "أُفضّلُ ألا"، التي يكتفي بها فقط، ليستمر على هذا المنوال في الأيام التالية، وتشكل حالته هذه استغراباً من قبل صاحب العمل،

الذي يكتشف في ما بعد أن النسّاخ ينام في المكتب "وبعد معاينة المكان عن قرب؛ خمنت أنه ولمدة غير معروفة، كان بارتلبي يأكل ويلبس وينام في مكتبي، وأن ذلك أيضاً كان يحدث بدون صحن أو مرآة أو سرير". من دون أن يعلمه بذلك ويمضي معه الوقت إلى أن يقرر المحامي نقل مكتبه إلى بناية أخرى، إلا أن النسّاخ لا يبرح مكانه، بل يبقى جامداً في مكانه، ويمكث على درج البناية طيلة الوقت، ليتم تقديم شكوى عليه من قبل الأهالي في البناية، وتقوم السلطات باعتقاله، وإيداعه في السجن، فيمكث في مكانه في السجن، على سريره، ويحدق في الفراغ الكائن من حوله، ويرفض تناول الطعام والشراب، حتى يموت في السجن، لينقل المحامي في ما بعد الحقيقة التي عرفها من الناس الذين تناقلوا سيرته، سرّ هذا الإنسان في أنه كان يعمل في مجال نسخ رسائل الموتى، وتترك لديه حكايته جدلاً، وتطرح سؤالا مهماً، وهو "لماذا كان ساكناً؟"، ولماذا كان يفضل ذلك، ربما من التعب الروحي الذي كان يعيش فيه، وربما من الاغتراب والخواء اللذين تحكما في حياته، فجعلاه غير قادر على الحركة، ويفضل السكون، لأن السكون هو الخلاص، والحركة بالنسبة له دمار وموت، لذلك كان يرفض كل ما يدفعه إلى الحركة. ويعترف المحامي بذلك بقوله عنه: "ما رأيت، ولا سمعت بأغرب منه". طبعاً لم تتشكل لديه تلك المعرفة، وذلك الشعور عنه، إلا لغرابته، وغرابة تصرفاته، وهو الذي يصفه بقوله: "كان وجهه هزيلاً وهادئاً، وعيناه الرماديتان ساكنتين على نحو باهت، وليس هنالك أدنى تجعيدة تنضّ عن انفعال قد حرّكه من الداخل. أو أقل غضب، أو نفاد صبر، أو حتى وقاحة في سلوكه، وبكلمات أخرى، كنت أريد أن أرى ما إذا كان هنالك أيّ شيء إنساني مألوف بشأنه". وهذا اعتراف منه بحالته غير الطبيعية، والتي رآها فيه، واستنتجها لأول وهلة تعرف فيها إليه.

***

(*) صادرة عن دار أثر (ترجمة: سلوى العتيبي).
(**) ولد مِلفل في مدينة نيويورك عام 1819 وهو من أشهر الروائيين الأميركيين، أشهر أعماله "موبي ديك" واحدة من أشهر الروايات الأدبية على مر التاريخ. شبّ مِلفل متنقلاً بين مهن كثيرة، لكن حب البحر والمغامرة كان يجري في عروقه، ولهذا انضم عام 1841 إلى طاقم الأكوست المسافرة نحو البحار الجنوبية حيث استوحى من هذه المغامرة روايته الشهيرة "موبي ديك". توفي مِلفل في نيويورك بعد إصابته بقصر القلب في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1891 عن عمر يناهز الثانية والسبعين عاماً.