Print
صدام الزيدي

"طواف بوذا": عجائبية الهند الصينية وغرائبيتها

15 يونيو 2019
عروض
يلملم الشاعر والكاتب العراقي باسم فرات شتات ذكرياته في جنوب شرق آسيا، المنطقة التي زارها بين الأعوام 2008 و2011 وتعد بستاناً مليئاً باللغات، عشرات اللغات، وهناك من يوصلها إلى ما يقارب ثلاثمائة لغة، فلكل جيل إثنيته- لغته، ولكل منطقة كذلك، وبعض القرى لا تفصلها عن بعضها المسافات، إنما اختلاف اللغات.
بروح مستكشف لطالما عشق السفر والتجوال، فغاص في المكان حد الجنون، يسرد باسم فرات في كتابه الرابع في أدب الرحلات "طواف بوذا- رحلاتي إلى جنوب شرق آسيا" الصادر حديثاً في 240 صفحة من القطع المتوسط عن "دار الأدهم" للنشر والتوزيع بالقاهرة، سيرة مقتضبة (مشاهدات وحقائق ومعايشات ما زالت عالقة في ذاكرته بعد ثلاثة أعوام من الترحال والاستكشاف بين عدد من بلدان جنوب شرق آسيا) مشيراً إلى تاريخ المدن والمناطق التي زارها؛ شاعراً يبحث عن عشبته الخاصة تيمُّنا بسلفه العظيم (جلجامش)، مُركِّزاً أكثر على جمهورية لاوس الديمقراطية ومملكة تايلاند، ففي لاوس كان بيته وعمل زوجته، وفي تايلاند التي لا يفصلها عن لاوس سوى نهر ميكونغ، تجوّل سياحياً وثقافياً وفقاً لخطة تجوال أعدتها زوجته الأكثر معرفةً منه بتلك البلاد، وهي التي اختارت له أن يزور أفضل المعابد والمتاحف والأماكن الأثرية والتاريخية التي تُدِرّ غزارةً معرفية، إضافة إلى كونها رحلة طبية تداوى فيها من آلام الظهر والرجلين وعالج فيها ألم الأسنان، فضلاً عن رحلة الشراء والتسوق من تايلاند بسبب عدم توفر كثير من الحاجيات في لاوس أو لتكلفتها قياساً بتايلاند التي كان يذهب إليها على دراجته الهوائية ما يضيف متعة ومعرفة استكشافية أكثر.

من لاوس إلى تايلاند
مع أن بقية بلدان جنوب شرق آسيا مثل ميانمار (بورما) وفيتنام وكمبوديا ذات أهمية إلا إن التجوال والاستكشاف أخذا حيزاً أكبر في لاوس وتايلاند وكذلك في تدوينات الكتاب، بحكم علاقة باسم وارتباطه بالمكان الذي تتواجد فيه زوجته، كما ينوه في افتتاحية رحلته الجنوب

شرق آسيوية وهي رحلة سياحية وثقافية في جغرافيا متنوعة من اللغة والمكان: "حيث التنوع اللغوي يعني تعدداً في الحياة". وتتنوع الكتابة من وحي مشاهدات كاتبها الذي لم ينس إبراز العلاقات العربية- الإسلامية في الهند الصينية (تايلاند أساسا وكمبوديا وميانمار وفيتنام)، وتأكيده على ضرورة "أن يضاعف الباحثون والجامعات من اهتمامهم ببحث ودراسة العلاقات (بين شعوب العالمين العربي والإسلامي من جهة وشعوب جنوب شرق آسيا من جهة أخرى) بما يمنح هذه العلاقات زخما أكبر في التبادل الثقافي والاقتصادي".

التوغل في عمق المجتمع
رحلة ممتعة يُدوِّنها باسم فرات عن الهند الصينية، دول جنوب شرق آسيا شبه الجزرية التي تضم تايلاند ولاوس وميانمار (بورما) وكمبوديا وفيتنام. والرحلة بدأت من لاوس في منتصف 2008 وانتهت في منتصف 2011، لكنها جاءت بعد ثلاثة أعوام زار فيها فرات، اليابان، تحديدا هيروشيما، وكانت لاوس محطةً ثابتةً للترحال بين بلدان الهند الصينية ثم العودة إليها (إلى لاوس) مجدداً.
على امتداد إقامته هناك، توغل فرات في عمق المجتمع الجنوب شرق آسيوي، بحضوره أعراساً ومناسبات وفعاليات وأنشطة ثقافية، مرتاداً الأسواق والمعابد والشوارع الخلفية، ومقيماً علاقات تواصل مع البسطاء من الباعة والكسبة والفقراء الكادحين، ليخرج بحصيلة استكشافية سياحية- معرفية، في كتابٍ يضاف إلى منجزه في أدب الرحلات، إلحاقا بثلاثة كتب سابقة له هي: "مسافرٌ مقيم.. عامان في أعماق الأكوادور" وهو الكتاب الفائز بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات 2013- 2014؛ "الحلم البوليفاريّ.. رحلة كولومبيا الكبرى" الكتاب الفائز بالجائزة الأولى لأدب الرحلات- مسابقة ناجي جواد الساعاتي 2015؛ "لا عُشبة عند ماهوتا: من منائر بابل إلى جنوب الجنوب" الصادر في 2017.

"عبادة الأرواح"!
يبدأ الكتاب بمقدمة ومدخل تدويني، ثم تتوالى عناوين منها ما هو رئيس ومنها ما هو فرعي، في سياق كتابة شيقة تأخذ القارئ في رحلة سياحية وثقافية وتاريخية في بلدان الهند الصينية (لاوس، تايلاند، ميانمار، فيتنام، كمبوديا) متناولاً عناوين ومواضيع منها (البوذية والإسلام، وداع اليابان والوصول إلى لاوس، السكن قرب أكبر معبد، الفيضان، تلمُّس المجتمع الجديد، عادات وتقاليد لاوية، الطعام في لاوس، الخضروات والفواكه، المعابد، صفاء المسعودي العراقي الوحيد في لاوس، المعابد في فينتان، الدجاج والأفعى، نشوء المركزيات، أنموذجان متناقضان ظاهراً متفقان جوهراً، الملاك ألون، محادثة بين أميركيّين في لاوس، المغزى من حديث الأميركيّين، زواج المال والفارق العمري، مؤلف يعرض كتبه للبيع عند باب كهف، كمبوديا: أنغكور وات رمز كمبوديا، الإسلام في كمبوديا، الخمير الحمر، المجازر ضد المسلمين، فنوم بنه، زيارات متكررة لتايلاند، الإسلام في تايلاند، لوانغ نامتا، قرية أقلّية اللانتِن، قرية إثنية الأخا، رحلة الدول الأربع، بانكوك: أيوتايا العاصمة التاريخية الثانية،

كانتشانابوري، سوكوتاي 1238- 1438م، تشيانغ ماي، ممكلة لان نا؛ أو: لانّا، ماي ساي، تاتشيليْك، مسجد نور الإسلام، العودة إلى تايلاند.. فضاء الحرية، تشيانغ خونع، العودة إلى لاوس، الصين- منغلا، أدومساي، فونغسالي، من مونغساي إلى سامْنوا، كهوف فينغ ساي، يوم في حافلة، فيتنام: أنفاق كوتشي.. بين دينه، الكاوداو- الكاوداوية، دلتا نهر ميكون، ناتر انغ، هوي أن، دا نانغ، ماي سون، هوي، خط التماس، تاي كون وخسانه، المدينة الملكية، زيارة ضريحي الإمبراطورين تودوك وخاي دن، هانوي، متحف الإثنيات، هالونغ بي، سابا، الأديان والمعتقدات في جنوب شرق آسيا: الإسلام في فيتنام- مملكة تشامبا، الإسلام في تايلاند، الإسلام في ميانمار- بورما، سقوط الدولة الإسلامية، بدء مجازر التطهير العرقي والديني ضد الروهينغا، المؤثرات العربية في جنوب شرق آسيا: مصر ودورها، الإسلام في الصين، ثورات المسلمين 1855/ 1878، الورق والخزف.. الابتكار صيني والتطوير والترويج عربي، العرب والإسلام، الهندوسية والبوذية: العميان والفيل.. تفسير البوذية، جرائم البوذيين بحق المسلمين، البوذية في لاوس وعبادة الأرواح، البوذية في تايلاند وعنفها، نقاء النص وعدوانية التطبيق، البوذية والمرأة).

دفاعا عن التنوع
إلى ذلك، يعترف باسم فرات (في طواف أول يفتتح به كتابه الأحدث في أدب الرحلات): "تجربة جنوب شرق آسيا كانت تجربة مثيرة وثرية، ففيها تعزز شعوري الحاد بأن التنوع ثراء حقيقي للبلاد وللبشرية، والدفاع عنه جزء من الدفاع عن النفس، وعن هوية البشرية المبنية على التعدد. فالتعدد اللغوي يعني تعددا في منظومة الحياة. ففي هذه البلدان عرفت قيمة التنوع وأهميته، وقيمة أن تكون لغة وطنية جامعة يدرسها الجميع في المدارس وتتعامل بها دوائر ومؤسسات الدولة. إن إدارة التنوع بشكل خلاق يبني أوطانا قوية متينة وصلبة لا تلين أمام العواصف والمؤامرات. لست باحثا ولست إناسيا (أنثروبولوجيا) ولست مؤرخا ولا سياسيا، إنما أنا كاتب أدب رحلات يأخذ طرفا من الشعر والإبداع ومن الإناسة والجغرافية والتاريخ، فلا قيمة عليا للرحلة إن لم تتضمن شعرا وسردا وتاريخا وجغرافية ومياها رقراقة وشلالات وعبق الكادحين وعطور وأزياء الجميلات، وشيئا من السياسة التي لا تذم ولا تمدح، وشيئا من عادات وتقاليد وطباع الشعوب، والآثار، وحتى الحيوانات، فبلدان جنوب شرق آسيا (الهند الصينية) مشهورة بالفيلة وبحيوانات أخرى لا نعرفها، وهي تفتقر للفصول الأربعة، فالعام ينقسم إلى فصلين، فصل جفاف وفصل أمطار".
ومتذكرا: "في العاصمة اللاوية (فينتيان أو فينتان) حضرت أمسية لرجل أميركي كبير في السن عاش في لاوس ودون كتاباً عن تجربته في هذا البلد"؛ وهنا يوضح فرات "ليس عندي أبناء، ولكن لدي وطن، ووطني اللغة العربية، أنام في أحضانها وأكتب، لعلها تسعد بما أكتب، لعلي أنال رضاها، ولأن زوجتي - وهي مسيحية- أخبرتني ذات يوم، أن الأب والابن والروح القدس، مثل الماء في صحن، كذلك أرى أن اللغة العربية والعراق لا ينفصلان مثل الماء في صحن واحد، وعليه فإنني لا أشعر بتناقض حتى أومن أن اللغة العربية وطني وأن العراق وطني".

الكادحون إخوتي
ويضيف: "أومن أن الكادحين إخوتي، وأنهم ملهمو قصائدي وكتاباتي، هم نبض المجتمعات وحقيقتها الناصعة بلا رتوش، لم تلوثها المؤثرات الزائفة الخارجية التي يتشبث بها الأثرياء، بل وحتى المتعلمون، مثل محاولات تقليد الغرب وإدخال مفردات إنكليزية أو فرنسية ضمن نسيج الحديث اليومي للتباهي بأن المتحدث يعرف لغات. الكادحون الفقراء نتعرف على لهجتهم وأحاديثهم العابقة بشذى الأصالة، فهم منبع ثر للتزود بجوهر المجتمع الذي تنتقل للعيش فيه، لم ينقطعوا عن تراثهم، فلهجتهم تقترب كثيرا من لهجة الآباء والأجداد، أعني مستويات اللغة والكلام، مثلما تساعد تلقائيتهم في فهم الأنساق الثقافية والحوامل الاجتماعية في مجتمعهم؛ لأن التعليم العالي، على الرغم من أهميته الكبرى، يمنح أصحابه احتكاكا بثقافات أخرى، تجعلهم يحاولون طمس زوايا من أنساقهم الثقافية".
باسم فرات المهووس بالمكان، والذي جاب الأرض شرقا وغربا ويمضي لاكتشاف كوكبنا الجميل، لم يكتف باكتشاف بلدان جنوب شرق آسيا الجزرية، ما يعرف بالهند الصينية، لكن شغفه بالمكان يأخذه، وما زال، في فسحات من التجوال ناحية زوايا آسيوية أخرى: سنغافورة؛ ماليزيا؛ جنوب الصين وغيرها، في زيارات متفرقة قديمة وحديثة، يلاحظ على هامشها، وجودا عربيا يفاجئ به (فيما عدا سنغافورة وماليزيا)، وهنا يكتشف فرات كلمات عربية مكتوبة على واجهة مطاعم، وكلمات عربية في لغات القوم، ثم يبحث أكثر في وصول الإسلام، الذي كان مبكرا في المنطقة مشيرا إلى أن "أول احتكاك يتمثل بالسفارة التي أرسلها الخليفة الثالث عثمان بن عفان إلى جنوب شرق آسيا؛ هذا مدعاة لأن أشعر بأنني ابن ثقافة مقصرة بحق ما يقع على جهتها الأخرى، أي جنوب شرق آسيا".

خارج العرض
احتفاءً بصدور كتابه الرابع في أدب الرحلات، الذي يهديه "إلى جينيت دائماً وأبداً"، وتصدرته لوحة غلاف من تصميم الشاعر والفنان خالد كاكي، قال باسم فرات لـ"ضفة ثالثة": "أخذ مني (طواف بوذا) شهوراً طويلة وأنا أجمع ما دونته سابقاً وأبحث في مراجع علمية رصينة،

وأعود إلى أصدقاء من تلك البلدان أو يعيشون فيها منذ سنوات طويلة، أدقق ما يخبروني به بما تذكره المراجع العلمية التي تخطئ أحياناً"، منوهاً أنه اكتشف أخطاءً عديدة عند أفضل الباحثين فيما يخص ليس جنوب شرق آسيا وإنما ما يخص السودان والعراق وتاريخ المنطقة.
ومستدركاً، ينوه فرات: " الكتاب أخذ جهداً مني وأتعبني في أثناء كتابته ولملمة صفحاته، لكن تعلمت الكثير، وآمنت أن القصاصات التي أكتبها يوميّاً، تؤدّي دوراً كبيراً في مساعدتي حين أعكف على تأليف كتاب ما".

دعوة لاكتشاف جنوب شرق آسيا
شاعت سردية بين المثقفين العرب بأن التنوع والعجائبية والغرائبية في دول أميركا الجنوبية، بسبب ما وصل إلينا من نتاج أدبائها وروائييها وعلى رأسهم غابرييل غارسيا ماركيز، لكن بسبب جهلنا بجنوب شرق آسيا يقول فرات "فقد لاحظت استغراب كثير من مثقفينا (العرب) حين أحدثهم عن التنوع الإثني المدهش في جنوب شرق آسيا".
أما محطات الكتاب فتتضمن رحلات عشق لانهائي في المكان/ الهند الصينية، وافتتانة شاعر مأخوذ بالسفر، يسحره تنوع المشهديات والثقافات وتعانق روحه المتشردة في الأصقاع جمال الأمكنة وشبق المسافات بجبالها وبحارها وصحرائها وأوديتها وأنهارها ومعابدها وناسها وحيواناتها ومدنها وتقاليد وعادات مجتمعاتها وثقافاتها وإثنياتها ولهجاتها وغرائبية ما هو غرائبي هنا أو هناك، يتقن باسم فرات التقاط تفاصيله وتدوينه ببراعة واحترافية نادرين. وفي الغلاف الأخير لكتاب "طواف بوذا" يطل الناقد محمد المسعودي متفاعلا مع رحلات باسم فرات إلى جنوب شرق آسيا، عبر إضاءة قصيرة تحتفي بكتابة رحلية ناصعة.