Print

سليم بركات في الحيِّ اليهودي

13 يونيو 2019
عروض
صدرت حديثاً عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" رواية جديدة للشاعر والروائي سليم بركات بعنوان "ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟" (566 صفحة).
وجاء في التعريف بها على الغلاف الخلفي:
"مراهقون يدرِّبون أعمارَهم على الثرثراتِ حُرَّةً، في خوفهم من حريةٍ يحْذَرُها المكانُ.
سياقٌ جامع لمجتزآتٍ عن الحيِّ اليهودي في القامشلي، وعن الأرمن، ومناهج الخوف، مؤطرة بحكاية حب غير مكتملة، بعد حرب 1967، في دولة كلُّها إغراءٌ بالرحيل، وإبداعٌ للشَّغف بخطط الهجرة".
لكنَّ هذا التلخيص الشديد لا يستوفي ولو لبعض الإشارات إلى البانوراما الشاسعة في الرواية عن الوضع السوري في الأيام التي تلت هزيمة حرب حزيران/يونيو 1967، وعن الاستبداد البوليسي آنذاك الذي لم يتغير أبداً فيما بعد، وعن الدور المشبوه للشعارات والمخابرات في تسهيل هجرة اليهود من مدينة القامشلي، بتهريبهم إلى تركيا، ولبنان، ومنهما إلى قبرص حيث يتوزعون من هناك على فلسطين، وأميركا التي استقرَّ الكثير منهم في حي بروكلين النيويوركي.
الرواية في خطها العريض هي غرام فتى مراهق بفتاة من الحي اليهودي، ثم تنمو في السياق خطوط كثيرة عن الأكراد، والأرمن، وأيام الحرب، وثرثرات المراهقين المغرمين بالسينما.

من أجواء الرواية:

1 ـ "لا كتبَ عندنا بالعبرية. لا أكتب رسائل إلى أمي بالعبرية ليجدها أحد. ليس عندنا بالعبرية إلاَّ التوراة في البيت"، ردت لينا.
"نحن أيضاً ليس عندنا شيء مكتوب بالكردية، يا لينا"، قال كيهات. أشار إلى عنقه بأصابعه كأنه يقطعه: "قد نُذْبَح".
"ألا تعرف الكتابة بالكردية؟"، سألته لينا.
"لا كتابة بالكردية. لا قراءة بالكردية. لا كلام بالكردية في غُرَف المدرسة. لا أكْلَ باللغة الكردية"، ردَّ كيهات.
هأْهأَت لينا مستظرفةً:
ـ لا أكْلَ بالكردية؟ بأية لغةٍ تأكل؟
"بأسنان اللغة العربية"، رد كيهات.
استطالت ابتسامة لينا على شفتيها الرقيقتين. سألتْه:
ـ كيف تُكتب اللغة الكردية؟
- "لا أعرف. من اليمين إلى اليسار. من اليسار إلى اليمين. من الشمال إلى الجنوب"، ردَّ كيهات مبتسماً.
- "العبرية كالعربية، يا كيهات. من اليمين إلى اليسار"، قالت لينا. "سأعلِّمك كتابة إسمك بالعبرية".
- "لا"، تمتم كيهات متهيِّباً أن يُحْضِر إلى خياله ظلالَ حروفٍ وضعتْها حروبُ العقل، في دولته، على سويَّةٍ من غدر الشرِّ بالتاريخ.
تدريس اللغة العبرية مُباحٌ في الجامعة، لكنْ على غايةٍ من مبدإِ "اعْرفْ عدوَّك"، وليس من مبدإِ تباهي العقل بمعرفة لغةٍ من تصاميم المعرفة. كيهات يحْذَر ـ من انتصار التلقين على أيِّ اختيارٍ ذاتيٍّ فيه ـ أن يقترب من المحذورات. "لا"، قال للينا ـ أميرة قلبه السرِّية. لن يقول لها "لا" قطُّ في أيِّ شيء آخر.
- "مِن اليمين إلى اليسار"، ردَّد قلبُه صوتَ لينا على أعماقه. العربية ـ لغةُ آخر الأنبياء، ومعجزةُ اللسان في كتاب الله المسلم ـ من اليمين إلى اليسار. اليمينُ استحقاقٌ من استحقاق التكريم القدسي. اليسار مُسْتسخَفٌ، بل وضيعٌ في المَرتبة. لذا يحبِّذ الشرعُ الإسلامي دفعَ المسلم للمال بيده اليمنى، وقبْض المال باليسرى اقتداءً بسُنَّة نبيِّه. دفْع المال باليد اليمنى خلاصٌ ممَّا يمثله المال من معاني الاستكبار، والجشع، والخيلاء، والإلتهاءِ المرذول بالثراء عن ذِكْر الله. وقَبْضُ المال باليسرى تحقير لمنزلة المال ومعانيه.
ذهبتِ الخصومة بمذاهب الإسلاميين إلى التكفير، فالذبح في مسائل "التشبيه"، أيْ: تشبيه الله بالإنسان في أعضائه وصِفاته؛ وفي مسائل "التَّنْزيْه"، أيْ: نزْعُ كل صفة عن الله لأنه، في ذاته، لا يوصف. لكن استقرَّ التأويلُ الإسلامي على وصف الله ـ تنزيهاً له عن الصفات، او تشبيهاً له بالصِّفات ـ أنَّ له يديْنِ "كلتاهما يمينٌ".
لا يدَ يسرى لله في التشبيه. لا مسيرَ بالكلمات العربية من اليسار إلى اليمين. ربما لا مسيرَ في النطق بالكلمات العربية من يسار الصوت إلى يمين الصوت إلاَّ كلمة كيهات: "لا"، قالها للينا من يسار لسانه إلى يمين لسانه. أربكَهُ اقتراحُها أن تعلِّمه كتابة اسمه بالعبرية. مشى يجاورها عن يمينها إلى الغرفة الأخرى مُتَّخَذَةً مخزناً للأثاث، وللمؤونة، وللآنيَّة.

2 ـ لن يتمكن التاريخ الشفهي من رسم معالمَ للوقائع في اختفاء يهود من مدينة قامشلو. تحريضُ اليهودي على الخوف سارَ به، في ما يستظهره التوثيقُ الشارح، إلى ترغيبٍ في الاختفاء. أُخيف اليهودي ليتقاضى منه مهرِّبُه ثمنَ تهريبه.
سيُقال الكثير عن رِشىً فتَّقت أسلاك الحدود بمقصها بين سوريا وتركيا، وعن رِشىً تدبَّرت عبورَ عائلات، في سيارات تخص رجال أمن الدولة، إلى لبنان. في الجهتين ـ اللبنانية والتركية ـ كان الأمر منتظماً في تأمين انتقال المُختَفيْنَ، بأوراقٍ ثبوتية مزورة ـ جوازاتِ سفرٍ إلى إسرائيل، من الداخل التركي، ومن قبرص، التي يصلونها من مرفأ لبنان، وإلى الولايات الأميركية حيث سيتردد اسم الحيِّ النيويوركي بروكلين كحاضنة للكثير من يهود قامشلو.
اسم آخر غامضٌ تردد إلى جوار اسم عطية الحنوش، الحصين بأقربائه، في حزب الدولة، إنه اسم إمرأة: جُوْدي كَار.
من هي جودي كار؟ ألإسمها السياقُ ذاته من إسم كوهين، الجاسوس الإسرائيلي، الذي مرَّغ طبقة الحُكم السورية، قبل حرب الأيام الستة، في سهولةٍ مُحتقَرَةٍ من استدراج رجالاتها إلى فخِّه؟ استنزف الطبقةَ الحاكمة، عسكريين وأسياداً حزبيين، شرفَ أسرار الدولة.
جاء الرجل من الأرجنتين ثرياً، يحفظ آيات من القرآن، ويتحصن بتعاليم الدين الإسلامي، والهدايا. مهَّد لنفسه ـ بزعمه أنه من أصول سورية مسلمة ـ الدخول إلى أبراج السلطة بوساطة المآدب الفاخرة، أسبوعاً بعد أسبوع، للدبلوماسيين السوريين في بوينس آيرس، قبل اجتياحه دمشقَ بمآدبَ موائدُها أوسع، فاتنة الأطعمة والأشربة، أبهى صحافاً وصحوناً وأقداحاً.
في ثلاث سنين تُقاس بأشبار الوقت القِصار، دوَّخ الرجلُ أربابَ السلطة السياسيين من أساطين البعث، وجهابذةَ الطبقة العسكرية بسحر كَرَمه، ولباقته، وإسرافه في إغداق النِّعَمِ من ماله حِلىً لنساء الأقيال، وبناتهم، ومحظياتهم. دخل معاقل التحصينات العسكرية السرية، مع ضباط كبار، في الجولان والقنيطرة. جلس أخيراً في بهو النظام مستشاراً لوزير الدفاع في العام 1966، أو مَن سبقوه بحسب تقسيم الوقت على الذين تعاقبوا على الوزارة الأخطر في تاريخ سوريا المتراخي كثدي الدَّردبيس من جهة، وتاريخ العنف المشدود كثدي الحورية في الجنة، من جهة أخرى.
في ثلاث سنين، لا أكثر، على مذاق الأطعمة المُبتكَرة شهيةً باقتباسٍ من مطابخ الطهاة الفرنسيين الحذَّاق، وعلى رنين الهدايا النفائس، خرق "كامل أمين ثابت" ـ كوهين ـ هَلَلَ عناكب السلطة في سوريا، ليضع التاريخ السوري، في هزيمة حرب الأيام الستة، على سكَّة اللاعودة من الجحيم.
لم تنتبه استخبارات الدولة العسكرية، والمدنية، والسماوية، والسحريَّة، والخرافية، إلى السياق الذي وضع كوهين، أمين ثابت ـ أمنَ الدولة فيه، وأمنَ جيش الدولة، وتحصينات الدولة، وطائرات الدولة، وحاضرَ الدولة وآتيها. شكوى صغيرة حملها هنودٌ من سفارتهم إلى دمشق إلى الاستخبارات العسكرية السورية: لقد رصدوا تشويشاً لا سلكياًّ على رسائلهم إلى بلدهم، مصدره قريب من سفارة الهند. دُهِمتِ البيوتُ القريبة من السفارة. عُثر على كوهين ـ كامل أمين ثابت ـ على آلته يُراسل بها قومَه.
أُعدم كوهين في ساحة "المَرْجَة"، وسط دمشق مشنوقاً، في الفسحة الواسعة بين أكشاك بائعي شطائر أكبادِ النعاج والبقر، ورئاتها مشوية على الفحم وجباتٍ سريعةً طعاماً يلتهمها العتَّالون واقفين.
شُنقت مع كوهين أسرارُ حِصن الحكام في دمشق، سياسيين وعسكريين.
"جُودي كَارْ" اسمٌ أكثر غموضاً من اسم كوهين الواضح في سياق الوقائع السورية. لم يهتدِ أحد إلى ربطه بكِسْرة من سيرة معلومة، أو مجهولة، سوى ارتباطه بإختفاء يهود من مدينة قامشلو.
إنه اسمُ امرأة لحروفه نفحةٌ من نسائم الحدود التركية. لكن لم يجزم أحد أهو حقيقي أم مستعار لشبكة تولَّت استلام اليهود، لتوجيه عبورهم من تركيا إلى إسرائيل، ومن لبنان إلى قبرص فإسرائيل. لا يهم. صاحبةُ الإسم المرفَّه بهيبه السريِّ كانت فرعاً من عبور اليهود المختفين إلى استيطانٍ في مكان آخر.