Print
أمين دراوشة

كوابيس لا تتلاشى في "كلب الحراسة الحزين" لصونيا خضر

3 ديسمبر 2019
عروض
فرض الفن الروائي نفسه على الساحة الأدبية العالمية والعربية، لقدرة الرواية، بفضائها الواسع، وشخصياتها المتعددة، على تصوير الواقع بكل تعقيداته وتشابكه.
لذلك جاءت هذه المقالة حول رواية "كلب الحراسة الحزين" لصونيا خضر لتضيء قليلاً على أحد أهم عناصر هذا الفن، ألا وهو عنصر الشخصية الروائية.
فالشخصية تصور الواقع من خلال حركتها، كما تقوم بالأفعال السردية، والشخصية عند خضر، شخصية واقعية من لحم ودم، فهي تعيش في واقعها الإنساني المأزوم، وتحاول أنْ تصنع لنفسها مستقبلاً زاهراً متخطية العقبات والصعاب، وهموم الحياة التي لا تنتهي.
تتميز الروائية بعناية دقيقة بلغتها الأدبية، فهي تضع في لغتها إحساسها الشاعري، فتولد في أبهى صورها، وتكشف عن خبايا الأمور، وتعمل على إظهارها وتكبيرها بأدواتها الكتابية، فتأخذنا في رحلة ممتعة، ثم لا نلبث أن نجد أنفسنا أخيراً في ساحة الوحدة والألم.
عالجت الكاتبة في روايتها الحياة بمكوناتها المختلفة، والإنسان بأحلامه وانكساراته، فالإنسان "الفاعل في عالمه والمنفعل بمحيطه هو ما يجعل "موضوعات" الرواية - القصص - شديدة الاتصال بالعالم الإنساني"(1).
ويمكن تصنيف الرواية بأنها رواية نفسية، إذ سعت بطلة الرواية لكشف خبايا حياتها، وتفكيكها، ومحاولة الخروج من دوامة العقد النفسية. والوحدة الحكائية الأساسية هي شخصية رفيف، وحالاتها النفسية، والعقد االتي تعاني منها، وتتولد من هذه الحكاية حكايات عديدة متعلقة برفيف وأسرتها.
تحكي الرواية قصة رفيف الفتاة التي رافقت ولادتها وفاة أمها، والتي رفض والدها احتضانها، وتركها لتتربى في الطابق السفلي مع المربيات، بدأت الطفلة محاولاتها للتقرب من عائلتها دون جدوى، حتى كفت عن المحاولة. كبرت منبوذة بين إخوتها وأجبرت على الزواج بأحد أقارب والدها الذي رضي بالزواج بها، برغم تلك العلامة في وجهها، لقاء جزء من ثروة أبيها.
استطاعت رفيف التفوق في دراستها وحصلت على شهادة الدكتوراة، وعندما امتلكت حياتها، تخلصت من زوجها الذي يخونها، ويعاملها باحتقار.
هي "رقيقة الجسد والطباع، قبيحة الوجه، كما يقول زوجها، جاءت إلى هذا العالم بعنقود
بنفسجي صغير يمتد بين خدها الأيمن وعنقها، ليجعل لرفض وجودها سبباً إضافياً غير تسبب ولادتها باختناق أمها ومفارقتها للحياة"(2).
وهي مهمشة، ولا تملك حق الكلام، ووجودها غير ضروري على الإطلاق.
وتقول عن نفسها إنها اللامنتمية واللاموجودة.
وهي المختصة بعالم النبات المسالم، والتي استطاعت بموهبتها في رسم النبات أن تحقق النجاحات في تصميم الأزياء، تتعرف على المصور قيس، وتقع في حبه، ولكن في حذر، فما زال هنالك شيءٌ ينقصها.
وما زال سر نفور عائلتها منها يؤرقها، يكسرها.  و"العنقود الصغير الذي عربشت عليه خيباتها، يقف بينها وبين انعتاقها من ذلك الكلب الحزين الذي يقبع في طفولتها، ويواصل نباحه المكتوم دون توقّف"(ص159).
تعيش في حالة اغتراب تقودها إلى الشعور بالوحدة والانعزال، والانسحاب من الحياة.
تشعر بالاغتراب الذي هو عملية صيرورية مؤلفة من ثلاث مراحل متصلة. المرحلة الأولى تنشأ نتيجة وضع الفرد في البناء الاجتماعي، والمرحلة الثانية تتشكل بسبب وعي الإنسان بوضعه، أمَّا المرحلة الثالثة "فتنعكس على تصرفه إنساناً مغترباً على وفق الخيارات المتاحة أمامه"(3).
ومن الشخصيات الرئيسية والدها كريم، الذي يأخذ حيزاً كبيراً في الرواية، وتترك له المؤلفة الفرصة ليحكي قصته. ولد كشقة توأم، ونشأ كريم ونصر، وكأنهما فلقة واحدة في جسدين.
اعتنت الكاتبة في اختيار الأسماء، فرفيف رمز للوداعة، وكريم رمز للعطاء دون مقابل، ونصر رمز للقسوة والانتصارات، وعطور رمز للفتنة، وقيس رمز للحب العذري الذي لا ينتظر مقابل منحه الود، وليلى رمز للباحثين عن الشهوة.
عندما يبلغ التوأم سن العشرين، يقع كريم في حب عطور، ولأن "نصر" دائماً ما يضع يده على حاجات أخيه، فإنه يطارد عطور حتى تقع في حبائله.
يغرق نصر في البحر، ويبدو أنه اختار قدره كونه لم يستطع التأقلم مع نصف حياة، يقول لأخيه: "لا أعرف ما الذي يحدث لي، لا تروقني فكرة اكتمالي بك، ولا انفصالي عنك، أختنق بك وأعجز عن التنفس بدونك، نحن واحد،  ولسنا اثنين، لكننا مجبران على هذا الانفصال، لم يعد في وسعنا الاكتفاء بحصة واحدة من الحب، لم يعد بمقدورنا تقبل التوزيع العشوائي
لحصص ينبغي أن تكون كاملة لكل واحد منا"(ص 174).
يتزوج كريم من عطور المجروحة بالفقد، وهي لا تجد منفذاً للهرب من واقعها إلا بالزواج بما تبقى من الرجل الذي تحب، وبقيت روحها تهيم حباً بكريم، بينما جسدها لا يتوقف عن العطش إلى جسد نصر الذي استحوذ على مفاتيحه وأخذها معه إلى الغياب.
لا يستطيع كريم الفرار من كوابيسه، ولا من التفكير بنصر وتمتعه بجسد عطور، وإذا كان موت عطور الحل لنسيان كل شيء، فإن قدوم رفيف بعلامتها التي تشبه العلامة الموجودة على فخذ نصر، جعلته يفقد صوابه، ويشك في المستحيل، فأهملها واعتبرها كأنها لم تكن.
وللخلاص من جحيمه، يقرر العودة إلى الجزيرة، تاركاً كل شيء خلفه بعد أن أصبح كهلاً، حيث البيت الذي ولد فيه، ليقضي شيخوخته جالساً أمام البحر، يعزف على نايه الذي لا يفارقه.
قيس يحاول أن يخرج رفيف من سجنها الأبدي، فيقرر خديعتها، والقيام معها برحلة إلى الجزيرة.
تنتهي الرواية وصوت الناي يقود رفيف، قلبها يخفق بشدة، الماضي يخرج من سجنه، تجلس على الرمل تلاصق ظهرها بظهر والدها، ويبدو أنها أخيراً ستحصل على حضن أبيها.

بداية الخروج من قوقعة الذات المتشظية
استطاعت رفيف التخلص من زوجها القبيح، والذي يحتفظ بها من أجل المال وحسب، وبطلاقها بدأت رحلة البحث عن حريتها، ومع كل معاناتها لم يتقدم أحد من عائلتها ليقدم لها يد العون، فالعائلة تتصرف وكأنها غير موجودة. كانت "تعيش بصمت وهدوء مثل كلب أليف يخاف من أن يجد نفسه يوماً في الشارع" (ص90) تسائل دوماً نفسها عن سر نفورهم منها، ولكن لم تواجههم ولو مرة.
تخوض تجربة الحياة الحقيقية لأول مرة، وأخذت تشعر بذاتها، ومواطن جمالها "تتحسس خدها أمام المرآة وهي تهمس بذلك، تقف أمام المرآة الكبيرة وتدقق في جسدها المنحوت بعناية، لم تنتبه يوماً إلى أن لها ذلك القوام الجميل"(ص 90-91).
لم تحاول الدخول إلى القبو الذي يحوي أغراضها القديمة، ولكنها لم تستطع منع نفسها من المرور يومياً بقرب تلك الأشياء، ترغب في بداية جديدة، ولكن التساؤل حول سبب بؤسها لا يزال يؤرقها.
ستمضي السنوات، وستحقق رفيف ما تصبو إليه من شهرة في عالم الأزياء، وستصبح ضيفة خفيفة على المحطات التفلزيونية.
ولأنَّ الماضي لا يموت، فإنه انعكس على تصميم رفيف لأزيائها، وخلال خمس سنوات من صعودها، استطاعت الخروج من باب ماضيها، أقفلته إلى الأبد، إلا أنها "حملت معها بعض الصور، طبعتها واحتفظت بها داخل صندوق صغير ووضعته مع ثيابها القديمة في القبو

الصغير أسفل منزلها الأول الذي مكثت فيه مدة عام ونصف العام قبل الانتقال إلى العمارة السكنية الصغيرة ذات الطوابق الثلاثة"(ص 117) كان هدفها الهروب من أشباح الماضي التي صاحبتها طوال سبعة وثلاثين عاماً، رحلت إلى العاصمة ورغبة في الضياع في المدينة تتملكها، وبعد سنة أرسل لها والدها مع محامٍ شيكاً بنكياً بمبلغ كبير من المال، هو حصتها من الميراث!
تقول: "أن أتوقف عن العيش في حيوات الآخرين، على هامش افتراضاتهم وهواجسهم وكوابيسهم، ماضيهم الذي أبحث فيه عن سبب وجودي في المكان الخطأ والوقت الخطأ، ماضيهم الذي يمضي خلفهم كظل ويقف أمامي كجبل، عليّ أن أصعده في كل يوم لأواصل وقوفي في المكان الخطأ. لحظة واحدة يبدأ فيها كل شيء ولحظة واحدة أيضاً تنهي أي شيء، لحظة واحدة دفعتني لأنجو بنفسي من كوابيس ذلك الماضي"(ص 141).
عدَّت رفيف قبولها المال تنازلاً منها عن حقها في البكاء على صدر والدها، وخسارتها النهائية للحب الذي تسعى إليه، فقدت الحب أول مرة يوم "منح أبي فوق ثقلي ذهباً رجلاً سيتولى عنه رعاية كلبه المسكين الذي لا يتوقف عن الأنين، رجلاً سوف يخلصه من عبء مرور هذا الكلب أمامه ولو خلسة، ليتذكر ما يريد أن ينساه، وفقدته مرة أخرى يوم تسلمت تعويضاً عن مأساتي، مبلغاً من المال عوضاً من مواساة وكتف كنت بأشد الحاجة إليها" (ص 142).
لا تشعر بحريتها، إلا عندما تختلي بنفسها وسط الليل، فتتحرر حتى من جميع ملابسها "ليلاً وقبل أن أخلد إلى النوم أتعرى من كل شيء، حتى من ثيابي التحتية، ليلاً فقط أكون أنا، وليلاً فقط أشعر كم أنا وحيدة" (ص147).
ولكن يبقى سرها يضغط عليها، ويقيدها بسلاسله، ذاك العنقود الصغير الذي عربشت عليه خيباتها، وإن نجحت في هزيمة الماضي ودفنه في القبو، فما زالت تحتفظ بعنقودها، ورفضت إجراء عملية تجميل لإزالته، فهو غائر في الروح "يلازمها منذ طفولتها، ويرافق صعودها وهبوطها مثل جرس بلاستيكي، لا يسمع رنينه سواها، يقف بينها وبين انعتاقها من ذلك الكلب الحزين الذي يقبع في طفولتها، ويواصل نباحه المكتوم دون توقّف"(ص159).
يدخل الحب حياتها عن طريق المصور قيس، الذي تفضي له بآلامها، فيحاول مساعدتها، ولكنه يفشل، حتى زار والد رفيف في الجزيرة. وينجح في النهاية في جمع رفيف ووالدها على شاطىء البحر...
وكأن الرواية تقول: رغم مرور السنين والألم المستمر، يمكن البداية من جديد.
وكنت أتمنى لو أن الروائية طورت بعض شخصياتها، ولم تبترها، فليلى شخصية إشكالية تبحث عن اللذة دون أن يردعها رادع، وزوج رفيف شخصية شريرة تشبه كثيرين ممن نراهم في حياتنا، والذي زاوج المال بالسياسة.
إنَّ العلاقة بين الشخصيّة الروائية والواقع جدلية، فالرواية تقدم شخصياتها وهي في شبكة من العلاقات الاجتماعية، وليست خارجة عن التاريخ، ورأى الناقد ميشيل بوتور: إنَّ "الروائي يبني شخوصه، شاء أم أبى، علم بذلك أم جهل، انطلاقاً من عناصر مأخوذة من حياته الخاصّة، وإنّ أَبطاله ما هم إلا أقنعة يروي من ورائها قصّته، ويحلم من خلالها بنفسه"(4).
أما الروائي مصطفى لغتيري، فيرى أنَّ على الكاتب: "أن يعي أن الرواية عمل تخييلي، أي

أنها من ورق، أو من كلمات، لذا حين يكتب روايته عليه أن يتخلص من وهم الواقعية، ويسعى في المقابل إلى خلق "واقعيته" الخاصة، و"واقعيته" ليست سوى فنه الروائي، الذي يتعين أن يقدمه لنا نابضاً بالحياة، من خلال التحكم في الشخصيات والأحداث والفضاءات والزمان، واللغة، أي يقدم لنا قطعة فنية منسجمة العناصر والمكونات"(5).
في النهاية، ارتكزت الروائية في لغتها على لغة فنية تجمع السرد والحوار والمونولوج، واستخدمت اللغة الفصحى، واستطاعت نسج أحداث روايتها المتشابكة بحرفية، وطغت الدراما على كل سطورها.
جاءت هذه المقالة لأنَّ التجربة الروائية لصونيا خضر تستحق أن تنشر ويذاع صيتها، فهي تجربة غنية وثرية ولا يمكن تجاهلها.

الهوامش:
1- عبدالرحمن التمارة. "انفتاح تأويل النص الروائي". الكويت: مجلة عالم الفكر الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. المجلد 41 أكتوبر. 2012. ص (231-278) فكل المحكيات في النهاية ترجع للعالم الذي نعيش فيه.
2- صونيا خضر. كلب الحراسة الحزين. بيروت: دار الفارابي. 2019م. ص 62.
3- للاستزادة، انظر: حليم بركات. "غربة المثقف العربي". مجلة المستقبل العربي، ع2. تموز، 1978، ص 106.
4- نبيه القاسم، الفن الروائي عند عبدالرحمن منيف، منشورات دار الهدى للطباعة والنشر، كفر قرع، ط1، 2005م، ص 228.
5- مصطفى لغتيري. "الطريق إلى كتابة الرواية". صحيفة القدس العربي. 24-10-2019م.