Print
ليندا نصار

الأخلاقيات الموجهة للحوار والتأويل

30 نوفمبر 2019
عروض
عن دار الفاصلة للنشر في طنجة صدر أخيراً للدكتور محمد الحيرش أستاذ التأويليات والدراسات اللسانية في جامعة عبد المالك السعدي تطوان كتاب جديد بعنوان: "أخلاقيات التأويل: من أنطولوجيا النص إلى أنطولوجيا الفهم".

يعد هذا الكتاب معالجة دقيقة لمجموعة من الأسئلة الفلسفية والهيرمينوطيقية المتصلة بموضوع الأخلاقيات في الممارسات الحوارية والممارسات التأويلية على حد سواء؛ وهو مقاربة نقدية جذرية للموقف النظري القاضي بأن أي حوار أو تأويل لا يتحقق إلا ممتثلا لمنظومة مسبقة من القيم والأخلاقيات، وبأن نجاح الفاعلية الحوارية أو التأويلية لا تقاس إلا بمدى تطابقها مع مبادئ هذه المنظومة وقواعدها المرجعية. فهذا الموقف النظري بالنسبة إلى المؤلف يظل بعيدا أشد ما يكون البعد عن السلوك الأخلاقي العملي الذي ينهجه المتحاورون في تبادلاتهم الحوارية، أو ينهجه المؤولون وهم يخوضون في تأويل نص من النصوص الدينية أو الدنيوية؛ ذلك لأنه ليس هنالك ما يفضي تلقائيا إلى الاقتناع بأن الممارسات الحوارية أو التأويلية هي تصريف مباشر لمنظومة أخلاقية قائمة سلفا حتى لو كانت الذوات المتحاورة أو الذوات المؤولة تعلن نظريا التزامها المبدئي بمُثل هذه المنظومة وآدابها؛ إذ بتحليل هذه الممارسات كلاً على حدة، والتعمق في كيفية جريانها، يتبين من داخلها مدى الاختلاف الشديد في نوع القيم المتوارية خلفها، ومدى التباين الحاد في الأخلاقيات الموجِّهة لها. فللممارسة منطقها الخصوصي الذي لا تكون به دوما تصريفا آليا للنوايا والمبادئ المعلنة التي يُفترض أن الممارسين يلتزمون بها على نحو مسبق؛ بل يحصل في الغالب خرقها والجريان على غير مقتضاها نتيجة ما يستلزمه منطق التحقق والمراس من ديناميات متشابكة، ومن استراتيجيات بالغة التعقيد تحيل على تفاعل معان وقصود متجاذبة، وتكشف عن تجابُهِ إرادات وتنازُعِ رهانات موجَّهةٍ بمنازع تأويلية وأخلاقية متنافية وغير متجانسة. 
لهذا يدافع المؤلف عن استحالة رد الممارسات الحوارية أو التأويلية إلى مآل مثالي واحد، والاحتكام فيها إلى نمط بعينه من الأخلاقيات القبلية؛ فالسياقات المتعددة التي تجري فيها الممارسات الحوارية على سبيل المثال هي سياقات تتعارض مع أي نزوع من ذلك القبيل، وتتنافى مع هذا الشكل أو ذاك من المطابقة بين الذوات المزاولة للعملية الحوارية واختزال بعضها في بعض. وبذلك يتعذر في الحوار الانطلاق من تجربة حوارية نموذجية تقبل أن ترتد إليها عموم التجارب الأخرى وتدخل معياريا تحت طائلتها؛ لأن أي تجربة حوارية تحدث في زمان ومكان محددين إلا ولها مقتضياتها السياقية الخاصة بها والمباينة لمقتضيات التجارب الحوارية الأخرى، وذلك بنحو يؤدي إلى تمايز هذه التجارب إحداها من الأخرى، وبنائها على منظومات أخلاقية مختلفة تأبى الانتظامَ تحت سقف معياري وقيمي منشود. يقول الأستاذ الحيرش في هذا الخصوص: إن الحوار هو "أشبه ما يكون بسيل لا يكف عن التدفق والجريان؛ لأن ما من تجربة تتحقق فيه إلا وتمثل قطرة منسكبة في مجراه، ولحظة متفردة من لحظاته المنهمرة الجارية" (ص 37)؛ الأمر الذي يكون به وجودنا الحواري في العالم وجودا "ينتفي فيه تكرارنا لذواتنا واستنساخنا لغيرنا"؛ إذ ليس الحوار شيئا آخر غير ذلك الإمكان الأنطولوجي الذي تتقوض فيه كل نزعة مركزية داعية إلى التقوقع على الذات، وينهار فيه كل ميل نمطي إلى إقرار "نموذج واحد ووحيد لشرطنا الإنساني"(ص 36).

 

الإشكالات المرتبطة بأخلاقيات التأويل
إذا كانت أخلاقيات الحوار قد حظيت بدراسة معمقة في الشق الأول من الكتاب، فإن الإشكالات المرتبطة بأخلاقيات التأويل سيتولاها الشق الثاني بالتحليل والمدارسة. وفي هذا الصدد يميز الأستاذ الحيرش بين أخلاقيات التقويم التي تحيط من الخارج بالممارسة التأويلية، وأخلاقيات التأويل التي تقع في قلب هذه الممارسة وتلازم أدواتها وإجراءاتها المعرفية التي تتوسل بها في فهم النصوص وتمثلها. فالعلاقة بين هذين النوعين من الأخلاقيات لا تكون انعكاسية بالمعنى المباشر الذي يجعل التقويمات الخارجية للذوات، وأحكامَها الصراعية الصادرة من بعضها على بعض، ومواقفَها المسبقة من ماهية التأويل، هي ما يتحقق فعلا في ثنايا الممارسة.
إن المدخل الأساس إلى أخلاقيات التأويل، في تصور المؤلف، لا يكمن في المحيط الخارجي للممارسات التأويلية، وإنما يتعين الاهتداء إليه في صلب هذه الممارسات وتقصيه في مجريات تحققها؛ لأن ما يتيحه لنا المحيط في هذا المضمار لا يعدو أن يكون ألوانا من التقويمات المسبقة التي تظل في الغالب على هامش ممارسة تأويلية وقد انطبقت على نص من النصوص. وبناء على هذا استقرأ المؤلف ملامح من أخلاقيات التقويم وأخلاقيات التأويل في خبرتين تأويليتين قديمتين هما: علوم القرآن وعلوم التفسير، وانتهى به التحليل إلى أننا نقع على مجال أخلاقيات التقويم كلما ولينا وجوهنا نحو الخصومات المذهبية التي استحكمت بين المفسرين وشكلت منطلقاتهم المبدئية في نظرتهم إلى النص. أما مجال أخلاقيات التأويل فلا يتأتى لنا الوقوع عليها إلا داخل ما أنجزه المفسرون من ممارسات تأويلية وفهمية للقرآن؛ وهي الممارسات التي عكست في مجملها وعيا تأويليا وأخلاقيا قوامه إجلال النص، والتسليم باستحالة استيفاء معانيه، والإيمان باختلاف المفاهيم ونسبيتها، والتحلي بالتسامح والإنصاف التأويليين.
وباستقراء هذه المقومات الأخلاقية في الخبرة التأويلية القديمة بالنص القرآني، ورصدها في بطون عينات من المصنفات التفسيرية دعا الأستاذ الحيرش بوضوح إلى وجوب الفصل بين أخلاقيات التقويم وأخلاقيات التأويل حتى "نتيح لتأويلياتنا القديمة سبل الانخراط في أزمنتنا (الحاضرة)بما يجعلها تتحرر من أسباب العنف والتشدد المحيطة بها، وبما يؤدي إلى الوصل بينها وبين التأويليات المعاصرة بجسور من الحوار المنتج والإفادة المتبادلة" (ص 168).            

 

جدة الموضوع
يشتمل الكتاب على مقدمة ومدخل وقسمين، عرف المؤلف في المدخل بـ"الإبدال التأويلي" وتوقف عند أهم السياقات المعرفية والفلسفية التي ساعدت على انبثاقه. أما القسم الأول فتناول فيه بالتحليل طائفة من الأسئلة المرتبطة بـ"أنطولوجيا اللغة وتأويلية الحوار"، وعالجها في فصلين: أولهما خصصه لدرس "تأويلية الحوار وأخلاقياته"، والثاني بحث فيه من منظور فلسفي وفيلولوجي التلازم القائم بين "تحولات اللغة وتحولات التأويل". في حين أفرد القسم الثاني لموضوع "أخلاقيات التأويل" ودرسه في الفصل الثالث الذي انتقد فيه بعض أوجه "العنف التأويلي" في القراءات النهضوية للتراث، ودافع في مقابل ذلك عن الحاجة إلى قراءة تأويلية منفتحة و"منصفة" للمنجز التراثي. وإلى جانب ذلك تطرق المؤلف في الفصل الأخير إلى "أخلاقيات التأويل عند القدماء"، واستقرأها على نحو خاص لدى المشتغلين بعلم التفسير وبعلوم القرآن، وأبان من داخل علاقة الممارسات التفسيرية بالنص وعلاقة بعضها ببعض عن عديد من ملامح تلك الأخلاقيات وتجلياتها...
في الأخير لئن كان لكتاب "أخلاقيات التأويل" من أهمية في مجال التأويليات فهو يستمدها أولا من جدة الموضوع المدروس فيه، ومن حيوية الإشكالات التي يثيرها من منظور فلسفي وهيرمينوطيقي واضح؛ فهو يكاد يكون في بابه، إلى جانب بعض الدراسات القليلة، أول ما أُلف عربيا في موضوع دقيق كموضوع أخلاقيات التأويل. ويستمد الكتاب أهميته ثانيا من خصوصية التصور الذي صدر عنه الأستاذ محمد الحيرش في معالجة إشكال الأخلاقيات في كل من الممارسات الحوارية والتأويلية. فقد كان لتبنيه مقاربة لسانية وفلسفية وتأويلية منفتحة أثر بارز في إخراج الحوار من دائرة تحديداته النظرية المختزَلة وربطه برحابة الممارسة في تعقيداتها ودينامياتها المتعددة. كما كان له الأثر نفسه في إخراج ما يعرف عند القدماء بـبحث "شروط المفسر وآدابه" من ضيق الأفق المعياري التقليدي الذي وضع فيه، وفتحه على آفاق أوسع لها امتدادات في عديد من توجهات التأويليات المعاصرة.