Print
أنس إبراهيم

آرثور شوبنهاور: عن العزلة.. الشُّهرة والموت

26 نوفمبر 2019
عروض
"الحقيقة أنّ الإنسان الذي يلوح متكامل الشخصيّة، من خلال قراراته واختياراته، يشارف كلّ يوم، وفي كلّ برهة، على رعب اكتشاف ذاته غريباً في كلّ ما يفكّر، وفي كلّ ما يُريد، وكأنّ في روحه أرواحاً عديدة تعدو كلّ منها في طريقها الخاصّ، كما هو الأمر في الأسطورة الأفلاطونيّة" – بيرو ديلّا مانو.

ورد الاقتباسُ السّابقُ في مقدّمة رواية ألبرتو مورافيا الشّهيرة "أنا وهُو" (دار الجمل، ترجمة: نبيل المهايني)، التي قد تُقرأ بوصفها قراءة فرويديّة – ماركسيّة للتحوّلات التي طرأت على المجتمع الإيطاليّ ما بعد الحرب العالميّة الثانية. وهي قراءة قد تكون صائبة، خاصّة أنّ مورافيا نفسه يؤكّد على كونه ماركسياً فرويدياً، إلّا أنّني في هذه المقالة أقرأها عبر شوبنهاور نفسه، إلى جانب رواية "علاج شوبنهاور" (دار الجمل، ترجمة: خالد الجبيلي)، لإرفين يالوم، التي سبَقَ أن قدّمتُ لها في مقالةٍ سابقة.


الشخصيّة العصابيّة عند مورافيا ويالوم
في رواية "أنا وهو"، لم يكتفِ مورافيا بتفكيك الدوافع الإنسانيّة الغريزيّة، ممثّلة بالجنس، بل جعل للجنسِ لساناً ووعياً خاصّاً، مجسِّداً إيّاه عبرَ قضيبٍ ذكوريّ ضخمٍ ومُتسلِّطٍ على صاحبهِ، إلى درجةِ أن يملك صوتاً خاصّاً بهِ، صوتاً يدفعُ بصاحبهِ إلى التهوّر، محاولة القتل، يتحكّمُ بهِ بطريقةٍ مرعبة؛ يخلقُ صراعاً داخليّا لدى الشخصيّة؛ ما بين النُّزوحِ نحو التّسامِي، كما في لغة فرويد، وما بين النّزوحِ نحو "التّسفيل" سلوكياً، وما بين "التّسفيل"، كما في لغة مورافيا.
"مُسفَّل، مُستَمْلَك، مخدوع، مُحبَطْ، مُحلَّل، مفضوح، مُغرَّب، مُستخدَم، مفصوم، مُناهض، مغشوش، مفتون، خصيّ، مُنطَلِقْ، مُنحرف، مُلتهَم"، هي عناوين فصول رواية "أنا وهو"، وهي الصّفاتُ التي يشعرُ "ريكو"، شخصيّة الرواية الرئيسيّة، أنّه يتّصف بها على الدوّام. فخضوعه لسطوة دافعه الجنسيّ المُرعب يجعلهُ على الدوّام، وبكلماته هو:"في الأسفَل"، بينما يحاول طوال صفحات الرواية أن يسمو بنفسه إلى مقامٍ يرى أنّه يستحقّه، ولكنّ شهوته الجنسيّة التي لا يمكن إشباعها تقفُ ما بينه وما بين هذا الطموح عائقاً صلداً منيعاً.
قريباً، بصورةٍ أو بأخرى، يظهر فيليب، شخصيّة رواية "علاج شوبنهاور"، يشبهُ "ريكو" إلى

حدٍّ كبير. فهو يصفُ نفسه في لحظةٍ ما على أنّه كان، قبل أن يُعالجه شوبنهاور، كان وحشاً، مفترساً، وحيداً، مليئاً بالغضب الأعمى، لا يمكن الاقتراب منّه. لا أحد يحبّه، لا أحد يمكن أن يُحبّه. هي الصّفات نفسها التي اتّصف بها ريكو، فقد هجر زوجته ليعيش وحيداً في شقّة خالية من أيّ أثاث، بمظهرٍ يثير الرّيبة في عيون الآخرين. لا أحد كان يُحبّه، وهو نفسه لم يُحبّ أحداً، لم يحبّ سوى أن يُضاجع أيّ امرأةٍ يراها أمامه، وكان طموحه في أن يكون مخرجاً سينمائياً يتهاوى فجأة كلّما بدا أنه اقترب منه، بسبب سلوكه الجنسيّ المتهوّر.
الشخصيّتانِ يمكن تعريفهما بالشخصيّة العُصابيّة، كلاهما مصابٌ بوسواسٍ قهريّ جنسيّ، وكلاهُما يبحث عن "السّلام"، وكلاهُما يُساوِمُ شهوته الجنسيّة بشكلٍ شبه يوميّ، شبه لحظيّ، على بضعِ ساعاتٍ من الهدوء والسّكينة، في مقابل إشباعٍ جنسيّ سريع. فيليب كان لا يتمكّن من القراءة ليلاً إلّا بعد أن يكون قد مارس الجنس، وكان ريكو يحاول تهدئة عضوه الجنسيّ بمحاولة الوصول إلى تسوية ما: تتركني أتمكّن من الظهور بمظهر مناسب في حفلةٍ ما، فأتركك تضاجع تلك العاهرة، وهكذا، وحتّى بعد أن يتمكّن من عقد هدنةٍ معه، يُفشِلُ دافعه الجنسيّ كلّ دوافعهِ الأخرى، ويُبرِّرُ سلوكه الجنسيّ المتهوّر بأنّ الحقيقة التي يتوجّبُ على ريكو اتّباعها تكمُنُ في الفعل الجنسيّ، لا في هراء الصورة الثقافيّة الاجتماعيّة التي يصبو إليها.


علاج شوبنهاور الذاتيّ
بالنّسبة لريكو، فقد استسلم تماماً في النهاية لطبيعته، هو ما هو، هو هذا الشبقيُّ المدفوع بشهوة جنسيّة هائلة لا يمكن إشباعها، فليكن ما يكن إذن؛ تماماً كما كتب شوبنهاور، لا فائدة من معاندة الطّبيعة، من معاندة تلك الإرادة العمياء. أمّا فيليب، فقد استوعب أنّ علاج شوبنهاور الذاتيّ، تماماً، هو التخلُّص من الرغبة بالكامل. القبول بأنّ الجزء الأعمق في طبيعتنا هو كفاح لا يمكن إرضاؤه وإشباعه، أي كما الأمرُ عند أرسطو: "إنّ من طبيعة الرغبة أن لا تُشبَع، ومعظم الرّجال يعيشونَ لأشباعها"، وهذا ما يُولِّدُ المعاناة بشكلٍ دائمٍ، المعاناة النّاجمة عن عدم القدرة 

على إشباعِ رغباتنا، فما أن تُشبع الرّغبة حتّى تولد أخرى، وأخرى، وأخرى، والمعاناة تولد من اقتناعنا التّام بأنَّنا قادرونَ على تحديد طبيعتنا الذاتيّة، وأنّنا المسؤولون عن اختياراتنا. بينما، كما فهم فيليب شوبنهاور، يجبُ أن ندرك العدم الجوهري لعالم الوهم هذا، ثمّ نجدُ وسيلة لإنكار الإرادة نفسها. أن نضع هدفاً نصب أعيننا، كما يفعلُ الفنانون العظماء، وأن نسكن في عالم الأفكار الأفلاطونيّة البحتة. يفعلُ البعض ذلك عن طريق الفنّ، والآخرون عبر الزهد الدينيّ. أمّا شوبنهاور، فقد فعل ذلك من خلال تجنّب عالم الشهوة بالمشاركة مع عقول التاريخ العظيمة، وممارسة السلوكيّات التي تدفع إلى التأمّل في الجماليّ؛ شوبنهاور عزف الفلوت وفيليب لَعِبَ الشّطرنج مستمعاً إلى الموسيقى الكلاسيكيّة. ويعني أنّ على المرء أن يكون مراقباً عن كونه فاعلاً. على المرء أن يدرك قوة الحياة الكامنة في الطبيعة، من خلال وجود شخصيّة كلّ فرد، وفي النهاية سيستعيد كلّ تلك القوة عندما يعود الفرد موجوداً ككيانٍ جسديّ. بكلماتٍ أخرى؛ علاجُ شوبنهاور الذاتي يكمُنُ في سلبيّة الوجود الماديّ بالمُطلق، إنكار الإرادة، إنكار الغرائز، الانقطاع التّام عن الجسد، عبر إدراك أوّلاً وجود هذه الإرادة وتلك الغرائز، والتخلّي التّام عنها، عبر الانفِصالِ عنها بالتّسامِي فوقها.
تكمُنُ تعاسة الإنسان، كما هي تعاسة ريكو، في شعوره الدّائم بالحرمان، الحرمان الذي يتولّد من عدم قدرته الدّائمة على إشباع رغباتهِ التي تتوالد من بعضها البعض. وإحدى الطّرق التي تتبع في بعض طرق العلاج النفسيّ الجماعيّ، أو التطوير الشخصيّ، هي طريقة: "من أنا؟"، إذ يدوّن كلّ مشارك سبع إجابات على سؤال "من أنا؟" على بطاقةٍ مختلفة، ثمّ ترتّب البطاقات بحسب الأهميّة، ويطلب من كلّ مشارك أن يقلب البطاقة كلّ مرّة، بدءاً بالإجابات الثانوية، وأن يفكّر كيف سيبدو عندما يترك كلّ صفة من صفاته وصولاً إلى خصائص نفسه الجوهريّة. وعلى نحوٍ مماثل، كان لدى شوبنهاور طريقته الفلسفيّة الخاصّة في تفكيك نفسه؛ هنالك ماهيّة الإنسان، وهناك ماذا يملِكُ الإنسان، وهنالك ماذا يمثِّلُ الإنسان.
ويرى شوبنهاور أنّ على المرء أن لا يكترث بما يملك، أو بما يُمثِّل، بل أن يكترث بما هو؛ وهو بهذا المنهج قريبٌ جداً من ملاحظة نيتشه: "أكثر الأسئلة شخصيّة حول الحقيقة: ما الذي أفعله حقاً؟ ولماذا أنا، من يفعله". لإدراك الماهيّة أهميّة مُطلقة في القدرة على الانفِصال عن حاجاتها التي تتمثّل بما تملك، وبما تُمثِّل؛ من أنا؟ يسأل شوبنهاور نفسه: أأنا الذي لا يستمعُ

أحدٌ لمحاضراته؟ أأنا الذي يتحدّثُ عنه هذا المتخلّفُ بطريقةٍ سيئة؟ أأنا الحبيبُ الذي لا تنصتُ إليه الفتاة التي أحبّها؟ المريضُ المقعد في بيته؟ التعيسُ غير القادر على تلبية حاجاته؟ الوحيدُ في منزله؟ كلّا، يُجيبُ، كلّ هذا قطعة القماش التي صُنع منها المعطف الذي أرتديه لفترة قصيرة ثمّ أخلعه لأرتدي معطفاً آخرَ. إذاً، من أنا؟ يُجيبُ: "أنا الرجل الذي كتب العالم كإرادة وتصوّر، والذي قدّم حلّاً لمشكلة الوجود العظيمة التي ربما ستُلغي كلّ الحلول السابقة.. أنا هو ذاك الرّجل، وما الذي يُمكنُ أن يزعجه في السنوات القليلة التي ستمكّنه من أن يتنفّس خلالها.
تلك طريقة شوبنهاور في العلاج الذاتيّ؛ تأتِ الشهرة أو لا تأتِ، لا يهمّ. أن تختار أن تكون منعزلاً، تماماً كما وصف لانس أولسن في روايته قُبلات نيتشه، نيتشه نفسه بقوله: "كان متيّماً برفقة نفسه لأنّه لم يجد أحداً أفضل منها". ولا يُمكِنُ لتلك الطّريقة أن تُفلَحَ إلَّا بإيمانٍ راسخٍ متصلِّب في النّفس. وكان شوبنهاور مؤمناً راسخاً بعبقريّته، حتّى مع مرور السنوات، والتجاهل المستمرّ لأعماله، كتب عن نفسه: "لكن اتركه وحده، فلن يموت. سيأتي الزّمن الذي يجلبُ معه الذين يعرفون قيمته بحقّ".

الفيلسوف وحيداً
"على المرء أن يسدّد ثمن خلوده، على المرء أن يموت مرّات عدّة بينما لا يزال حيّاً يرزق"، هكذا كتب نيتشه، في كتابه "هذا هو الإنسان". وقد عاش وحيداً هو الآخر، تماماً كما فعل من قبل شوبنهاور، من قبله بعدّة عقود. وكان شوبنهاور، تماماً كنيتشه، يعتقدُ أنّ وحدته وعزلته، وافتقارهُ إلى كلّ الأشياء التي يإمكانِ أيّ إنسانٍ عاديّ أن يحظى بها، يعود إلى عبء العبقريّة التي جعلته أكثر قلقاً واضطّرباً مع تقدّمه في العمر.
مرّة تلو الأخرى كان يهدّئ نفسه بقراءة بعض الحكم الشرقيّة لتدعيم فرضيّته حول العبقريّة: "إنّ حياتي حياة بطوليّة، ويجب ألّا تقاس بمعايير الأشخاص المتخلّفين من أصحاب المحلّات،

أو الرجال العاديين.. لذلك يجب ألّا أصاب بالاكتئاب عندما أرى كم أنّني أفتقر إلى تلك الأشياء التي تشكّل جزءاً من مسيرة حياة فرد عاديّة.. لا يمكن أن أتفاجأ إذا بدت حياتي الشخصيّة غير متناغمة، ومن دون أيّ خطّة".
وحتّى مع إيمانه الرّاسخ بعبقريّته، لم يتخلّص شوبنهاور من معاناته تماماً مع الوحدة. إذ كتب يقول: "طوال حياتي، كنت أشعر بوحدة فظيعة، وكنت أتنهّد دائماً من أعماق قلبي: "الآن أعطني إنساناً"، لكن، وا حسرتاه. عبثاً. لقد بقيت وحدي، لكنني أستطيع أن أقول بصدقٍ وأمانة أنّ ذلك لم يكن ذنبي، لأنّني لم أتجنّب، ولم أبتعد، عن أيّ شخصٍ كان إنساناً".
إلّا أنّ شيئاً واحداً كان جوهر دفاعه ضدّ الوحدة؛ اقتناعه التّام بأنّه السيّد الذي يتحكّم بمصيره، وأنه اختار تلك الوحدة، وأنّ الوحدة لم تختره. فعندما كان بعد شابّاً كان ينحو لأن يكون اجتماعياً، لكن، ومع تقدّمه في السنّ، كتب يقول: "رويداً رويداً، اكتسبت عيناً لاختيار الوحدة، وأصبحت غير اجتماعيٍ بانتظام، وعزمت على أن أكرّس نفسي لنفسي بالكامل خلال السنوات المتبقّية من هذه الحياة العابرة"، وما فتئ يذكّر نفسه: "أنا لست في موطني الطبيعيّ، ولست بين كائنات مساوية لي".
بكلماتٍ أخرى؛ كان شوبنهاور مراقباً في "مشهدٍ عابر". مُراقباً كان عليه أن يُكرّس نفسه، عبقريّته ووجوده كلّه لكتاباته وفلسفته، وبينما هو في هذا الوجود، كان عليه أن يتجنّب كلّ شيء، ويتلزم بسلبيّة الوجود المُطلقة؛ هذا بعد أن استطاع التخلّي التام عن احتياجه للآخرين، وبعد أن تمكّن من السّيطرة على نفسه تماماً باقتناعه التّام بعبقريّته التي تطلّبت عزلته في الحياة.
وتعدّ قصّة حيوانات النّيص، من أشهر المقتطفات الأدبيّة لشوبنهار عن إشكاليّة أن تكون عبقريّاً، وأن تكون اجتماعياً في الآن ذاته، وعن إشكاليّة التواصل البشريّ عموماً. هي قصّة حول حيوانات النّيص التي تتجمّع حول بعضها حتّى تستمدّ الدفء من بعضها ولا تتجمّد من البرد، لكنّها سرعان ما تشعر بتأثير ريش كلّ منها على الأخرى فتبعتد عن بعضها، فتشعر بالحاجة إلى الدفء مرّة ثانية، فتعود وتتكوم فوق بعضها، ويتكرر العائق الذي يحدثه ريشها مرّة ثانية. فتقع بين شرّين إلى أن تكتشف المسافة المناسبة التي تمكّنها من احتمال أحدها الآخر. وبالطّريقة نفسها يرى شوبنهاور احتياجات المجتمع النّاجمة عن الفراغ ورتابة حياة البشر التي تدفعهم للتجمّع حول بعضهم، ولكن، ما أن يتمّ التواصل، حتّى تظهر صفاتهم الشنيعة والبغيضة التي تجعلهم يبتعدون عن بعضهم مرّة أخرى.
بعبارةٍ أخرى، على البشر تحمّل الاقتراب من الآخرين عند الضّرورة فقط، وتحاشيه كلّما أمكن. ويرى إرفين يالوم، أنّ شوبنهاور، وفقاً لوصاياه هذه وطريقة عيشه، كان مُصاباً بمرضِ الرّهاب الاجتماعيّ، الشخصيّة الفصاميّة المعادية للمجتمع، النرجسيّة، غير القادرة على الحبّ والتي تُفخِّمُ الذات إلى أقصى مدى ممكن.
لكن، وبخلاف البشر عموماً، فإنّ الإنسان الذي يملك خصائصَ داخليّة فريدة، كما يرى شوبنهاور، ليس بحاجة إلى مساعدة مهما كانت من الآخرين، ويكون مكتفياً بذاته وبإيمانه الرّاسخ بعبقريّته، وتلك هي الفرضيّة التي برّرت له طوال حياته تجنّب الاقتراب من الآخرين. وفي أحيان كثيرة، أشار شوبنهاور إلى أنّه يرى مكانته في أعلى مراتب البشريّة، وأنّ تلك المكانة تفرض عليه أولويّة ألّا يُبدّد ملكاته الفكريّة في لقاءات اجتماعيّة عقيمة، وإنّما لأن يضعها في خدمة البشريّة، كما في عبارته: "إنّ ذكائي ليس ملكاً لي، وإنّما ملك للعالم".

الشّهرة أخيراً
عندما كان بالفعل قد تخلّى عن انتظارها، أتت الشّهرة إليه أخيراً، كان ذلك عندما استغرق طويلاً في تأمّل عيشه الخاصّ المُرهق، عندما انتهى أخيراً إلى أنّ الموت علاج الحياة الوحيد، وأنّ الذين لم يولدوا هم الذين تمكّنوا من السعادة فعلاً.
لا شيء أجمَلُ، أو أرقّ، من وصف لانس أولسن، في روايته "قبلات نيتشه"، لتلك اللحظة، بما سبَقها، وبما تلاها، ممّا اعتمل في نفس شوبنهاور خلال سنيّ حياتهِ التي امتلأت بالجفاف والبرود العاطفيّ: "هنا الذّاكرة اللاإراديّة لطالب سابق في كليّة الطبّ نام بعد أن وضع مسدّساً محشوّاً تحت وسادته، مؤكّداً أنّ الموت هو علاج للحياة، ومؤكداً أن لا بدّ لك من اليقظة في غياب اليقظة، ولا بد لك من القلق، فاشمئزّ من بشرتك، وأحِط نفسك عوضاً عن ذلك بالبصيرة، دع البصيرة تستخدمك، إذ هكذا تضحى قدّيساً، أو شخصاً يعيش خارج الزمان وخارج المكان والحاجة. عش ما تعيشه حتّى يأتيك الخلاص، فينجيك من الصّخب اللاإراديّ. هذه عصارة الرجل الذي لم تفارقه المرارة طيلة أيّامه، بل عاش خائب الأمل غير معروف حتّى سنواته الثلاث الأخيرة.. عش ما تعيشه حتّى يأتيك الخلاص، فينجيك من الصخب اللاإراديّ".

التوقُ إلى الشّهرة، التألّم من الوحدة، التوق إلى الآخر، أيّ آخر، على أن يكون إنساناً. قريباً من نهاية رواية "علاج شوبنهاور"، ينهار فيليب في جلسة علاج نفسيّ جماعيّة؛ يبكي، بحرقة وبتألّم، لأنّه عاش طوال حياتهِ في أمسِّ الحاجة إلى أن يكون في علاقة إنسانيّة، أيّ علاقة،

ولكن أن تكون حقيقيّة، أن تكون مع إنسان حقيقيّ، وأن يكون منكشفاً وضعيفاً أمامه، أن يكون قادراً على التواصل؛ هذا رغم كلّ فلسفته الخاصّة، رغم كلّ شيء يعرفه، رغم علاج شوبنهاور له.. لكن، في جوفِ كلّ إنسانٍ توقٌ مؤلمٌ للآخرين، قد يُسمّيه شوبنهاور، الإرادة، وقد يسمّيه فرويد بالغرائز، وهو وإن يكن هذا وذاك، وإن يكن دافعاً مُظلِماً غرائزياً، أو يكن دافعاً شهوانيّاً، أو يكن حاجة للشعور بالدّفء، فهو حاجة لا يُمكنُ قهرها ولجمُها طوال الوقت.
كتب شوبنهاور في نهاية مجلّده الأخير: "الملاحق والمغفّلات": "سأجفّف قلمي وأقول: الرّاحة هي الصمت". كان يعرفُ أنّ التخلّص من الرغبة بالشهرة ليس بالأمر السّهل، وقد شبّهه بانتزاع شوكة مؤلمة وعنيدة من داخل لحمنا. وكما حالُ نيتشه، تخلّلت كتاباته المرارة لعدم تمكّنه من تحقيق النجاح، ولكن، بتأكيدٍ مستمرّ على أنّ الأجيال اللاحقة هي التي ستقرأه وتقدّره.
ثمّ كان المستحيل؛ فقد حقّق له كتابه الأخير الذي وصف فيه حماقة السعي إلى الشهرة، الشهرة أخيراً. وربما يكون ذلك عائداً إلى أنّه قد خفّف من حدّة تشاؤمه، وقلّل من شكواه، وقدّم تعليمات حكيمة حول سبل العيش، كما يرى إرفين يالوم. ولكن، رغم ذلك، لم يتخلّ عن اعتقاده بأنّ الحياة ما هي "إلّا شريط متعفّن على سطح الأرض"، و"فصل مقلق عديم الفائدة في الراحة الأبديّة السعيدة للعدم"، مؤكّداً على أنّه لا يوجد أمامنا خيار إلّا أن نكون محكومين بالحياة، ولذلك، يتوجّب علينا أن نحاول العيش بأقلّ قدرٍ ممكنٍ من الألم. إذ كان يعتقد أنّ السعادة حالة سلبيّة، هي غيابُ المعاناة، كما في حكمة أرسطو: "لا إلى البهجة وإنّما إلى عدم الألم يصبو الإنسان العاقل".


الفيلسوف ميّتاً
صارع شوبنهاور، طوال حياته، الموت الكلّيّ الوجود؛ ففي كتابه الأول الذي كتبه في العشرينات من عمره كتب: "إنّ حياة أجسادنا ما هي إلّا لتمنع استمرار الموت، إنّها موت مؤجّل.. فكلّ نفس نأخذه يدرأ عنها الموت الذي يحيق بنا باستمرار، وبهذه الطّريقة فإنّنا نتصارع معه في كلّ لحظة".
عموماً، لم يُواجِه شوبنهاور أرقاً في مواجهة الموت؛ رأى أنّ لا شرَّ ولا خَير، ورأى أنّه شيءٌ حسَنٌ في النّهاية فهُو العودة إلى الحقيقة المُطلقة، وهي العدم الكُليّ، وما الموتُ إلّا انقِطاعٌ في شريطِ هذا العدم. إلّا أنّ أكثَرَ ما جعلهُ هادئاً مطمئناً في مواجهة الموت هو اعتقادهُ الرّاسخ بأنّه عاش حياةً تستحقُّ العيش، وذات مغزى، وأنّه أنجز المهمّة.
وفي صباح الحادي والعشرين من شهر أيلول/ سبتمبر 1860، مات شوبنهاور بصمّة رئويّة، بهدوءٍ وبصمتٍ من حوله، وكلبه باسطٌ ذراعيه قريباً منه، في غرفة مُضاءة بضوء النّهار، وربّما ارتسمت على شفتيه ملامح سخرية أخيرة؛ لقد فعلتُ ما كان يجبُ أن أفعله، أنقذتُ ما كان يجبُ أن يتمّ إنقاذه وغدا خالداً. وكما أوصى، تماماً، كُتب على شاهدة قبره: "آرثر شوبنهاور"، لا تاريخ موت، لا تاريخ ولادة، لا شيء آخر، لا شيء عدا اسمهُ الذي صار يعني فلسفة كاملة، كان يعرفُ أنّ ما أراده سيكونه. كأنّه مُراقبٌ لمشهدٍ عابرٍ، حتّى في موته، تاريخُ الموت يعني إقراراً بالموت، تاريخُ الولادة يعني إقراراً بالوجود؛ أمّا هو، فلم يكن موجوداً، بقدَرِ ما كان حادِثاً عارِضاً طارِئاً على حالة اللا وجود؛ لغايةٍ أنجزها ورحل.