Print
عارف حمزة

"حيث تشير البوصلة".. تفاصيل الألم ومشهديّته

12 نوفمبر 2019
عروض

تستغرق الكاتبة السورية المقيمة في النرويج، سناء عون، في كشف ما هو واضح لأي قارئ، ولكنه يُخفيه هنا وهناك، لكي تزداد صدمته من معنى الألم العادي والبسيط ضمن الألم الكبير والقاسي. في الوقوف أكثر عند تفاصيل الألم، الذي يكون عادة ألماً غير عادي. ففي مجموعتها القصصية الثانية، الصادرة حديثاً عن دار المتوسط في ميلانو، تقوم عون بتسجيل التفاصيل وتخزينها، بعكس ما جاء في قصتها التي تحمل عنوان Format، حيث في تلك القصة يتعطل موبايلها بسبب "الهبوط المفاجئ" للتيار الكهربائي، فتأخذ الموبايل إلى "طبيب الإلكترونيات" الذي ينصحها بتفقد الصور والأرقام؛ لأنه سيمحي كل شيء قبل التصليح. فتراجع الراوية أرقام الهواتف فلا تسجل رقم أي صديق؛ لأنه مختطف، أو معتقل، أو ميت، أو خارج البلاد، وتسجل فقط أرقام بائعي الغاز، والمياه، والبنزين، والخبز، ومصلّحي الأجهزة. وبعد أن "يستأصل" مصلح الموبايل المرض العضال من جهازها المحمول، تكون هي قد فقدت نهائياً كلّ أصدقائها. تتنوع المواضيع التي تتناولها عون في القصص العشر التي تجري في ما يُقارب المئة صفحة. صحيح أنّها افتتحت المجموعة بقصة "صور مُقطّبة"، التي تأخذ تفصيلاً صغيراً إلى حياة كاملة لشخصيّة "روز" خلال رحلة بحثها عن ابنها الذي تتلقى أخباراً كثيرة ومختلفة عن مصائره الكثيرة والمختلفة، إلا أن القصص ليست كلّها عن الحرب وأحوالها ومآسيها، رغم أنّ الحرب وتفاصيلها هو الضوء الذي يُنير أرضيّة القصص المختلفة هنا وهناك.

 

الآخر، الغائب
في قصة "قوس قزح"، تقوم الراوية بقصّ تفصيل صغير عن أشغالها اليوميّة، قبل الذهاب إلى العمل، ولكنّها ترى وجه حبيبها الغائب في المرآة وهي تنظف أسنانها. وتذهب إلى المرآة

الأخرى، فلا تشاهد وجهها؛ بل وجهه. وهكذا تستخدم آلة الحلاقة الخاصة بأخيها لكي تنبت لها ذقن تشبه ذقن الحبيب الذي في أوروبا، وتلبس لباساً شتوياً ثقيلاً لكي يُناسب الجو هناك، اثنان تحت الصفر، بينما درجة الحرارة عندها في دمشق 12 درجة. سنعثر على الحرب في الطريق إلى العمل؛ حين يصل الباص الذي تستقله إلى حاجز عسكريّ. فتشعر الراوية بالرعب في حال كان صديقها مطلوباً للمخابرات، أو أنّه لم يؤد خدمة العلم الإجباريّة. وضمن هذه المفارقات، تنساب القصة بطريقة سلسة، تجعل القارئ يُلاحق التفاصيل والأحداث اللاحقة. ولكنّها تطرح تلك الأسئلة التي تجعل غياب الآخر أبديّاً، ولا يُمكن تمديده بماء الشوق. "كيف سأعيش هذه التفاصيل وأنا أنت؟ لا دبابة عندك، لا قذيفة هاون، ولا مدفعيّة، لا صوت رصاصة، لا قطع طريق، لا عبوة ناسفة، لا سيارة مفخخة، لا قطع كهرباء، لا حواجز عسكرية.. (..) لم يُعد باستطاعتي تخيّل طريق بلا حاجز. فقدتُ القدرة على رسم طرق نظيفة وهادئة، يعبرها الناس بلا توقف لثلاث أو أربع ساعات. كيف أرسم بلادي مثل بلاد هانئة؟!".
الآخر الغائب يبقى محركاً للهواء الذي تتنفس منه قصص هذه المجموعة، وهي المجموعة الثانية لصاحبة "خطوط العمر الحمراء" (2007). حتى لو تحدثت عن كرة القدم، وعن العطور النسائية وجدران الفيسبوك والموت. والموت المتواصل في كل مكان تحت تهديدات الحنين والرغبات. وضمن هذه الثنائية (الأنا / الآخر) تعرف عون كيف تعتني بلغتها ودهشة الجمل القصيرة، والعودة إلى الأغاني والقصائد والذكريات التي لا تمضي.
تتقمص عون الكثير من الشخصيات، خاصة في قصة "عزاء للنهر"، الذكوريّة والأنثويّة، وتتحدث بلسانها براحة كبيرة ومقنعة. حتى عندما تقمّصت شخصية "كرة قدم" كتبت من خلال مونولوجها الطويل الكثير من اللحظات التي تخص كرة قدم تحتاج للأيدي، وليس للركل بالأقدام. "أترنّحُ مثل السكارى ألماً وضياعاً، في الوقت الذي يترنّحون فيه من نشوة جدل أقدامهم البيزنطيّ. إذا دخلتُ المرمى الأول سجّلتُ هدفاً، وإذا دخلتُ الثاني سجلتُ هدفاً أيضاً. مَن أنا؟ مع مَن أنا؟".

 

الأمير الصغير
قصة "الرحلة الأخيرة للأمير الصغير" تصلح كرواية، لولا أنّ عون ارتضت أن تكون قصة قصيرة ضمن هذه المجموعة. القصة التي سيكبر فيها الراوي في كل صفحة، ليروي لنا، من خلال تعلّقه بالكتب، وتكوين مكتباته وفقدانها واحدة بعد أخرى، حياته من سنّ المراهقة إلى ما بعد تخرجه من الجامعة، وإلى ما بعد خروجه من البلاد بسبب الحرب والقصف والبرد الشديد.
الراوي في هذه القصة شاب يفتتن بالكتب بعد سرقة أول كتاب ليهديها لحبيبته المفتونة

بالروايات الرومانسية، وعند وصوله للبيت سيجد أنه كتاب "جلجامش". وهكذا يُقرر سرقة كتاب آخر لها، بعد أن أعجبه جلجامش، وتركه لنفسه. هذه الكتب ستكون حلاً لإنقاذ أرواح عديدة من البرد القارس عندما استخدمها لتدفئة العائلة وضيوفها من النازحين.
عالم آخر تحكي عنه عون في قصتها XXL، حيث الحواس تنقلُ صورة الحبيب إلى داخل الجسد، بينما الخيال يبحثُ عن عشيقاته خلال الوصال. وهكذا يُفسد الخيال ما بدأتُه القبل في اكتشاف الآخر، وماضيه وروائح وأشكال الآخرين فيه.
الراوية لا تتوقف عن إيلام قلبها بتخيّل نساء أخريات يشاركنها حبيبها خلال اللحظات التي تكون فيها معه في السرير. تتخيّل أجسادهنّ والتهامه لهنّ، فتكاد تتقيّأ في وجهه، وهو يشعر بقرفها فجأة، خلال أعلى اللحظات حميميّة، فيتراجع عن إكمال شغفه "لم أستطع لجم خيالي عن حقده التصويري. أراه يلتهم ذلك الثدي العظيم، برائحته الممتلئة الطافحة بالدهون. ثمّ أرى كيف يتحول هو نفسه إلى تلك المرأة في اللحظة التي يرتمي فيها فوق صدري".
الخيال الكابوسيّ هذا لا يضع إناثه فقط بينهما في السرير؛ بل "الحقد التصويري" يحوّل أنثى ما إلى رجل بينها وبين حبيبها "لو أستطيعُ اعتقال هذا الخيال. لو أستطيعُ ضمّه إلى صدري وحده. أحبّهُ. لكن نساءه يتسابقن إلى فراشي!". ولكنها ستجدّ الحل أخيراً: "أضعتُكَ مراراً في الفراش الذي طالما تلاعبتُ فيه مع نسائك، ولم يكن لي أن أجدكَ في سريري إلا مع رجل، أجهلُ كل شيء عن عالمه النسويّ، رجل لن يعرفَ أبداً أني أتشممّكَ، أقبّلكَ، أحتويكَ، أغمركَ أنت".

 

لغة الأنثى وطقوس الحرب والفقد
لغة عون لا تلتفت إلى الحرب ومآسيها كهدف، بل تذهب إلى مآسي الناس وقلة حيلتهم وضعفهم امام الذكريات والحب والفقدان. تفاصيل صغيرة تبني منها عون عالماً حكائيّاً يبدو قوياً في اللغة والأسلوب، ولكنّه هش ومنكسر في الواقع. ولا يُمكن تخيّل مثل هذه المصائر الهشة أصلاً تحت ضربات البراميل المتفجرة وضربات المدفعيّة والرصاص الطائش.
تبدو عون وكأنها تكتب حكايتها في جلسة واحدة متدفقة، وكأنّها تحكي هذه الحكايات شفويّاً،

ولا تطبعها. هذا اللهاث حول التفاصيل الأنثويّة التي يتفاجأ القارئ بثقلها أكثر من الحرب نفسها، ويضاف إليه براعتها في التفاصيل الذكوريّة أيضاً. إذ تبدو شخصيّاتها وكأنّها مجلوبة من سيرة تؤلفها عون على مهل. لذلك تأتي نهايات قصصها مثل جمل شعريّة في العادة، وذلك يعني بأنّها تفكر بقارئها الغائب البعيد. الذي لا يقترب إلا عندما يقرأ أسلوبها الطازج هذا "كان الفستان مكوّماً على الرفّ مثل دمٍ راكد. فيما لطخات سوداء من شحم السيارات، كأنّها ضربات فرشاة فنان محترف، تغطّي ظهره بالكامل".
أسلوب عون هذا، الذي يُشبه مشهديّة السينما، يجعل هذه المونولوجات، ضمن القصص، وكذلك الحوارات الداخليّة، تُفسّر أنفاس التكثيف الذي تنتبه له عون، لكي لا يتحول النص القصصي عندها إلى قصيدة، أو إلى رواية، على الأقل "حيث تشير البوصلة" حكايات لا تعتني بأي شيء آخر يُفسد متعة القراءة.