Print
فيصل درّاج

كريم مروة.. ذاكرة لأكثر من زمن

4 أكتوبر 2019
عروض
كلما سمع اللبناني المعروف كريم مروّة بكلمة الشيخوخة أطلق قهقهة عالية، ذاهباً إلى إجابة غدت جزءاً من شخصيته: "طالما أنا أعيش فأنا شاب، لا فرق إن كنت في العشرين أو في التسعين". برهن على شبابه "الدائم" بإنتاج فكري متدفق، يدلل عليه بكتاب صدر العام الماضي، وبآخر حاور به "رفاقه" هذا العام، وبإصدار جديد يتهيّأ لدفعه إلى المطبعة. أوجز مساره حياة إنسان يتصرّف بحياته، لا يدع العمر يتصرّف به، محولاً سنواته التسعين إلى مجال للتأمّل الفكري، تعيد الذاكرة تركيبه بأشكال مختلفة.

انجذب إلى السياسة في مطالع أربعينات القرن الماضي، رافضاً استعمار فرنسا لوطنه، ومستفزاً من احتلال الصهاينة لفلسطين. كان آنذاك قومي الميول فلسطيني الهوى، كما يقول، إذ في القومي ما يدفعه إلى تاريخ عربي طويل، وفي الفلسطيني ما يضعه في مركز حاضره، منذ أن رأى أن فلسطين تنتمي إلى أهلها، وإلى العرب جميعاً. وإذا كان البعض، لأسباب حياتية، يتحرّر مما آمن به، فقد آثر كريم الإخلاص لما بدأ به حياته. انتقل من إنسان يعيش وقائع أمته إلى شاب متحزّب مسؤول، فناشط سياسي قريب من القيادة، فقائد في حزبه الشيوعي اللبناني، فمفكّر مهجوس بقضايا "حركة التحرّر العربية"، فمتحزّب طليق، إن صح القول، يقف خارج حزبه القديم وينقده، ويقرأ تحوّلات الواقع العربي كمثقف نقدي يتأمل أحوال الأمة من "الماء إلى الماء". انتمى إلى الفكر الاشتراكي سبعين عاماً وتمسّك، به، نقدياً، وهو يدخل التسعين من عمره.

وجوه مضيئة في تاريخنا
يترجم الكتاب الصادر حديثاً "وجوه مضيئة في تاريخنا" (دار الفارابي، بيروت، 2019، 442 صفحة) شخصية مروّة، حيث كلمة التاريخ مطلقة السراح، ترد إلى السياسي والأيديولوجي والثقافي والأدبي والعربي والإنساني، وتحيل على إنسان متعدد الذواكر والهواجس والقضايا، كما لو كان متعدد الشخصيات، إن لم يكن "هو الواحد في الكثير"، أو فضولياً مفرداً من نوع خاص، تكاثره معارفه، ويتكاثر بأسئلة ظفر بعضها بجواب ويحاول ما تبقى العثور على إنارة.
تعلن الصور التي تفترش غلاف الكتاب عن انتماء واضح الهوية: فرج الله الحلو، نقولا شاوي، ناظم حكمت، مكسيم رودنسون ولوركا ونيرودا... غير أن الصور، التي تستدعي حقبة عاصفة، مضت، لا تعبّر وحدها عن اجتهادات سياسي ـ مثقف، وزعها على كتب مختلفة: "الفكر العربي وتحوّلات العصر، الظاهرة العراقية، فلسطين وقضية الحرية في سير وإبداعات المثقفين الفلسطينيين، الرواد اللبنانيون في مصر...". ولهذا لن يكون هذا الكتاب، في مواضيعه المختلفة، كتاباً "مختصاً" مكتفياً بذاته، فهو قائم في غيره، وغيره يستضاء به، طالما أن كريم قصد، ويقصد دائماً، ذاكرة موثقة، ويسائل قضايا لا يكفّ عن مساءلتها: الحرية، المجتمع المدني، الديمقراطية، العقلانية، الدين والطائفية، وحركة تحرّر عربية غريبة الأقدار كانت مأزومة، ذات مرة، ونسيت أزمتها وائتلفت مع الهزيمة، وصولاً إلى زمن من قش يجاهر العربي والقومي والفلسطيني بسخرية فادحة.
كتب مروّة في "مدخل" كتابه: "مع هذا الكتاب الذي أصدره يبلغ عدد كتبي التي أصدرتها من مطالع سبعينات القرن الماضي حتى الآن، وبعضها بالاشتراك مع آخرين، ما يقرب من أربعين كتاباً...". وينهيه بثلاث صفحات عنوانها: "خاتمة عن زمن مضى وتتمة لزمن قادم" يغلقها "مؤكداً بصورة دائمة ومطلقة بشعار: ممنوع اليأس وممنوع الاستسلام للوقائع القائمة..". لا يأتي على ذكر: التفاؤل، وهو كلمة خائبة، قائلاً: بضرورة الأمل، التي يحتاجها جميع المستضعفين، والعرب منهم.

يتوزّع الكتاب على خمسة أقسام، تفصح عناوينها عن مواضيعها: "رفاق الدرب الطويل في النضال باسم الاشتراكية ومُثلها العليا وقيمها الإنسانية، أفكار ومواقف وذكريات وسفر في جهات العالم الأربع، الموجبات الضرورية للدخول في العصر وتحوّلاته، يساريون لبنانيون وعرب من مواقع واتجاهات مختلفة، هكذا تجلّت القيم الإنسانية في سير وإبداعات أربعة مثقفين عالميين كبار...". تسوّغ العناوين الخمسة استعمال كلمة: ذواكر، وهي جمع ذاكرة، ذلك أن في ذاكرة كريم الرحيبة مواقع لمتواليات من أسماء الشخصيات السياسية اللبنانية والعربية والعالمية، ولعواصم ومدن متنوعة تمتد من صور إلى كابول، ومن باريس إلى هافانا، وتوقف طويل أمام مثقفين عرب يستهلون بالشاعر العراقي الجواهري وعبد الرحمن منيف وخلدون النقيب ومحمد دكروب وسمير أمين، وبآخرين غير عرب حال المستشرق الفرنسي الشهير مكسيم رودنسون الذي وضع كتاب "الإسلام والرأسمالية"، وكان يؤثر تعليم "الأثيوبية" على تدريس التاريخ وعلم الاجتماع، ففي الخيار الأول اقتصاد للوقت سببه طلابه القليلون، بينما لعلم الاجتماع، وهو اختصاص رودنسون، طلاب كثيرون.
لا يقبل كريم بارتجال الذاكرة ويعمد، احتراماً لذاته وقارئه، إلى وثائق متعددة، تتضمن: القصائد، المقالات، البيانات، المداخلات النظرية، ويرسم شخصيات المثقفين متوسلاً إبداعها، وأحوال السياسة مرتكناً إلى كتابة السياسيين، ما يجعل من قراءة كتابه وثيقة سياسية وتاريخية وأدبية. يضيء الكتاب أولاً شخصية مؤلفه، المتسامح المعترف بغيره قبل ذاته، رافضاً أحادية الرأي والمقولات النهائية. وفي الكتاب تأريخ سياسي ـ تربوي يعطي لكل من دافع عن حقوق الإنسان حقه، وهو كتاب ـ ذاكرة ينفتح على النصف الثاني من القرن العشرين في رموزه المناضلة المتعددة، ومرآة للقرن العشرين في تدفقه وانتصاراته العظيمة، التي سقطت قبل الأوان. إذا كان الفيلسوف الفرنسي الشهير آلان باديو قد دعا القرن العشرين "القرن"، في كتاب شهير يعتبره القرن الأكثر خصباً وثورية في التاريخ الإنساني، فإن في كتاب مروّة ما يدلّل، بلغة ميسورة، على ما ذهب إليه باديو، المدافع عن ثورة عالمية والذي يتهمه أنصار الصهيونية "بالعداء للسامية".

الحوار
يتميّز كتاب مروّة الجديد، في الحالات جميعاً، بما تميّزت به كتب سابقة عليه: الحوار، أكان صريحاً مع آخرين أو مضمراً بين السطور، أو واضحاً في عناوين الكتب: حوارات مع مفكرين عرب 1990، الوطن الصعب والدولة المستحيلة، وهو حوار طويل في موضوعه 1995، حوار الإيديولوجيات 1997، في البحث عن المستقل، وهو حوار مع غيره 2009، فصول من حواراتي وكتاباتي 2018... وما الحوار الذي يقصده كريم إلا ترهين لأفكار تقادمت، اشتراكية كانت أو قومية أو إسلامية، على اعتبار أن ما لا يتجدّد يهلك... وإضافة إلى الحوار والترهين رغب كريم دائماً بعمل فكري جماعي، يحرّض عليه ويقوده، أو يكون جزءاً منه، وذلك في زمن عربي قائم "يتطيّر" فيه "أصحاب الاختصاص" من الاشتراكية والتحزّب الفكري. أما الصفة الأخيرة، وهي ليست أخيرة بالضرورة، فقائمة في وضوح فكري شجاع ونزيه، لا يأتلف مع الكلمات المتقاطعة، ولا يتأقلم مع الكلمات الكبيرة البعيدة عن التحديد.

يتجلّى كريم مروة واضحاً في إخلاصه لماضيه، واعتبار نقده برهاناً على هذا الإخلاص. وهذا الإخلاص هو الذي يوقظ في كتابه الأخير وجوهاً انطفأت وأسماء غفت و"أفكاراً لا تموت" بلغة قريبة من الراحل محمد دكروب، علماً أن الأفكار التي لا تموت غريبة عن الحياة. رجع كريم إلى رئيف خوري الذي كتب عن ثورة فلسطين 1936 ـ 1939 كتيّباً صغيراً: ثورة الفتى العربي، ورسم بمحبة صورة محمد دكروب الذي رافقه نصف قرن من الزمن، وجمع تراث نزار مروة في الموسيقى في كتاب، واستذكر بوفاء حسين مروة وهادي العلوي وأستاذاً سورياً نبيهاً حلم كثيراً ومكربه الزمن يدعى: نايف بلّور.
أعطى كريم في كتابه "وجوه مضيئة في تاريخنا" درساً في تفعيل الذاكرة، فهي تسترجع وتدقق وتتحدى الزمن، فإن غفت أسعفها قلب صادق عاشق للحقيقة. وللذاكرة حصادها من الحنين والحنان وذاك الصعود الصعب إلى البدايات الأولى، التي اقترحت الأحلام وتركت اختيار الدروب إلى مفاجآت الأيام.
حين أسأل كريم بين فترة وأخرى: ماذا تفعل يا أبو أحمد؟ يجيب: "أتسلّى" ما يعني لمن يعرفه: أفكر في كتاب يسائل حال الأمة، مستعيداً ما قال به التنويري المصري عبد الله النديم: لماذا يتقدمون ونحن على تأخر؟