Print
صدام الزيدي

"نبوءة الشيوخ"... سر قديم وكنوز وقرابين

29 أكتوبر 2019
عروض
في موقع أثري مهجور، يعثر فتى في مبتدأ سن الرشد (عقيم وفقير) على أشياء مرعبة جعلته يفرّ عائداً إلى القرية، تاركاً المطر ينسرب إلى بيته القروي البسيط على أن يحل هذا المشكل بحفنة تراب. كان قد ذهب لإحضارها، لكنه عاد بحكاية سردية طويلة، استطاع الروائي اليمني، بسام شمس الدين، حبكها بأسلوب جميل.
تبدأ رواية "نبوءة الشيوخ"، وهي أحدث روايات بسام شمس الدين (صدرت حديثاً عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، دمشق، ودار سرد للنشر) بنبوءة قديمة عن وجود كنز ضخم في تل المكراب على مقربة من (قرية سحمّر الأثرية) في الريف اليمني. الحكاية بطلها شخص عقيم اسمه مهدي نصاري (يعمل بالأجر اليومي)، يخرج ذات مرة ليبحث له عن تراب يغطي به سطح داره المتواضع كي يتفادى انسراب مياه المطر إلى داخل البيت. يذهب مهدي إلى تل أثري غير بعيد، فأخذ يحفر بغية الحصول على كمية قليلة من التراب، لكنه بمجرد أن بدأ في الحفر، اكتشف أنه في موقع أثري؛ غرف فيها عظام أطفال محروقة، ما دفعه لأن يترك المكان ويلوذ بالفرار عائداً من حيث أتى.

تل الكنوز
استمر فرار مهدي نصاري وفزعه من الموقع الأثري، وبعد موسم كامل، ذهب إلى تل بعيد يبحث عن تراب، ليجد تابوتاً فيه مومياء. هنا وجد نفسه متورطاً بالعثور على الآثار التي لا يبحث عنها، وبالتالي تقود الأحداث إلى وصول فريق مصري ومحلي للبحث عن الآثار، عثروا

على "كنز النبوءة"، ومات جميع المشاركين في مهمة اكتشاف الكنز ماعدا الأجير مهدي، الذي يسافر مع رئيس الفريق إلى صنعاء، وهناك يتورط بمشاكل كثيرة، قبل أن ينتهي به الحال عائداً وبرفقته شابة جميلة اسمها خليلة كانت النبوءة القديمة قد بشّرت بها.
تدور أحداث الرواية في حقبة ما بعد ثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1962 اليمنية، يحضر في الرواية مُلّاك الأرض والجيش المصري، وغيرها من الأحداث التي دارت بعد الثورة مثل صراع الملكيين والجمهوريين.


قرابين مصرية/ سر قديم
حين يتكشّف سر قديم ظل متداولاً على شفاه الناس، تقود الأحداث إلى ما وراء هذا السر. فـ"قرابين مصرية"، أو "سر قديم"، هو عنوان ممكن للقصة التي اشتغل عليها بسام شمس الدين، وتدور تفاصيلها السردية متزامنة مع مرحلة دخول الجيش المصري لمساندة الثوار الجمهوريين في اليمن بعد ثورة 1962 مباشرة.
قروي عقيم وفقير تجاوز سن الرشد، يسكن في بيت عتيق، ذهب إلى (تل المكراب). لم يكن يحلم بأكثر من حفنة من تراب جاف كي يسد به ما شرخه انسراب المطر بسطح منزله، فحفر في موضع عشوائي، وهناك انفتح تجويف يؤدي إلى غرفة مكدسة بعظام بشرية محروقة. في البدء، ارتاب الأهالي أن يكون "نصاري" قد عثر على (كنز المكراب المشهور)، والذي يقول كبار السن في القرية إنه "كنز هائل، وسيأتي رجل من الجنوب يجرف الذهب بكوفيته" حين لمحوه عائداً من التل، وفي ذلك النهار صفح عنه الأهالي، غير آبهين ببروز عظام آدمية كانت مدفونة ومغطاة، ووحده "نصاري" فكر في الأمر بقلق. أراد أن يعرف سر إحراق أجساد

مجموعة من الفتيان والفتيات، فهو رجل يفتقد الأطفال، لذا شعر بالتأثر والسخط. لكن، وفي مرة أخرى، يحفر في منطقة نائية، فيعثر على تابوت حجري بداخله مومياء لامرأة مكسوة بالمجوهرات، وسرعان ما لاذ بالفرار خوفاً من تعنيف الأهالي، وتربصهم به، لا سيما مُلّاك الأرض (الموقع) القساة، على إثر ذلك تأتي بعثة أثرية مؤلفة من رجل مصري غامض وخطير، وعنصرين يمنيين من قسم الآثار، يرافقهم ضابط مصري، وعدد من الجنود المحليين والمصريين، وصار الناس يظنون أن مهدي نصاري رجل محظوظ، لهذا السبب استدعي ليرافق فريق التنقيب. غير أنه في السياق السردي تبرز شخصية الفتى المراهق الذي يدعى (بربر)، وهو ابن ضابط محلي نفقت جثته وهو يفاوض المتمردين في جبل الجميمة.
يتعمد بربر مضايقة فريق التنقيب الأثري، فيصطدم بالضابط جمال بيومي، وبمهدي نصاري، الذي كان يستظرف أرملة الضابط، أم بربر، وقد كان ينمو بينهما شيء من الإعجاب يشبه الحب، لكن بربر وقف حجر عثرة في طريقهما، إذ لم يشأ أن يخسر أمه، كما خسر أبيه، شهيد الثورة البطل، وظل يمقت المصريين ويتهمهم بقتل أبيه حتى اختفى.

 

عظام وقرابين
العظام التي عثر عليها نصاري في تل المكراب هي في الأصل عظام لفتيان وفتيات تم إحراقهم وقُدِّموا قرابيناً إثر انتصار أحد الملوك القدماء على خصومه. في المقابل، المصريون أيضاً قدموا قرابين كثيرة في سبيل نجاح الثورة اليمنية، فآلاف من الجنود المصريين هلكوا، في معارك، أو في كمائن، أو بسبب أمراض مجهولة.

 

يؤمنون بالله وبالعرافين
تقع الرواية التي صمم غلافها نجاح طاهر، في 247 صفحة من القطع الوسط. وتغوص حكايتها في أعماق المجتمع القروي اليمني في تلك الحقبة البائسة. وعلى الرغم من تداعيات انتصار الثورة السبتمبرية، ثمة مجهول ينتظر الناس دوماً. فالناس هناك، بحسب المتن السردي، ملابسهم عبارة عن خرق مهلهلة، تحكم الأمراض قبضتها عليهم، يتآلفون مع الكُتن والبق والبراغيث، يستنجدون بالموتى، ويبخِّرون القبور، وكما هم يؤمنون بالله، فهم أيضاً يؤمنون

بـ"العرّافين والأولياء الصالحين والأرواح الشريرة"، ويخضعون عند أقدام أسيادهم من ملاك الأرض، وأيضاً يخضعون لجباة الزكاة وجنود الدولة، وعند الضرورة يقطعون أميالاً سيراً على الأقدام باحثين عن المعالجين والمشعوذين للاستشفاء، وذلك عادةً ما يحدث بعد أن يكونوا قد استنفدوا أموالهم وإيمانهم لدى الفقهاء والمقرئين والدراويش. وكانوا يرون أن التمايز والمراتب الاجتماعية أمر طبيعي، وأن الحياة ستكون مملة إن لم تكن مضنية مرهقة. لهذا السبب أرادوا ألّا تتغير حياتهم بعد أن نجوا بأعجوبة من أمراض قاتلة أصابتهم في طفولتهم. هكذا يفتتح بسام شمس الدين روايته، مشيراً في اندلاعتها الأولى إلى هذا الملمح البدائي لليمنيين في فترة الستينيات، غير أن القصة تستمر وفيها من التناقضات والأحداث المشوقة والمتماهية مع كاريكاتورية المشهد اليمني آنذاك، ما يعكس نفساً سردياً عميقاً وطويلاً للكاتب الذي غاص مخياله السارد في أعماق المجتمع اليمني، فعاد بنبوءة روائية مكثفة.

 

أشعار وحكم زراعية
تستدعي الرواية، علاوة على اعتمادها في محطات كثيرة من متواليتها، الموروث الثقافي الزراعي اليمني، حين يخلق الكاتب شمس الدين حيزاً لتطعيم حواراته السردية بين شخصيات الرواية الرئيسة، لا سيما تلك الحوارات بين مهدي نصاري وبربر، بأشعار لحكماء الفلاحة اليمنيين القدامى، مزاوجاً بين السرد والحكمة الزراعية، ومحفوظاتها المتوارثة المتجددة بتجدد المواسم في البذر والزرع والحصاد، ونحو ذلك، مثل أقوال الحكيم علي ولد زايد وغيره.

 

ترقيم
يقسم بسام شمس الدين الرواية إلى مقاطع طويلة يحمل كل مقطع رقماً عوضاً عن تقنية العنونة والفصول، وينجح أيضاً في قفل الرواية بخاتمة جميلة. فالأحفاد على الرغم من المسافة البعيدة (المأهولة بالأحداث والمتغيرات والذكريات والوصايا) بينهم وبين أجدادهم وأسلافهم، لم ينسوا أسلافهم أبداً، وتعبيراً عن هذا الارتباط بين جيل الأجداد، وجيل الأبناء، وأبناء الأبناء، لا يترددون في تسمية مواليدهم بأسماء الأسلاف من الأجداد. إنه ارتباط تمسك بخيوطة الرواية في بلد يحتاج كثيراً من الجهود لإنقاذه من متناقضاته. وعلى الرغم من إسناد الجنود المصريين لإخوانهم الثوار في حروبهم مع بقايا فلول الملكيين هنا أو هناك، يسرد بسام شمس الدين رواية غارقة في يمنيتها، محشوة بأدق تفاصيل الحياة اليومية لمرحلة انتقالية من ظلام دامس إلى مرحلة من النور. كما يتقن استخدام الحوارات بين الشخصيات ومزجها بمشاعر وانفعالات عاطفية، مقدماً رواية تستند على ما يشبه الأسطورة (كنز تل المكراب)، لكنها حقيقة واقعة وماثلة لمن أراد أن ينبش في التراب اليمني.


سيرة
بسام شمس الدين، روائي وكاتب يمني من مواليد عام 1978م، في محافظة إب، القفر (وسط اليمن). صدر له قبل "نبوءة الشيوخ" خمس روايات هي (الطاووسة؛ الدائرة المقدسة؛ هفوة؛ لعنة الواقف؛ نزهة عائلية)، إضافة إلى مجموعتين قصصيتين هما (الباهوت)، و(روح الحبيبة). ترجمت روايته (هفوة) إلى الإنكليزية، من قبل الأكاديمي الأميركي مارك وقنر، أستاذ الأدب العربي في جامعة لويزيانا، كما ترجم له الأكاديمي الأميركي مايكل سكوت قصة "صراع حتى النهاية" fight to the finish"، ونشرت في مجلة بانيبال Banipal العدد 36. فاز بسام شمس الدين بجائزة دبي للإبداع الأدبي عن روايته "لعنة الواقف" في دورتها الثامنة 2012 - 2013. كما حصل على منحة الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق) لكتابة الرواية في بيروت، الدورة الثانية 2015.