Print
محمود عبد الغني

"بدر زمانه"... الأصول الأسطورية للسرد

19 أكتوبر 2019
عروض
أحلام لم تُحلم قطّ
منذ فرويد أصبح هذا الأمر مألوفاً: الأحلام لم تُحلم قطّ، يعزوها الروائيون إلى أبطالهم الخياليين. أحد هؤلاء الروائيين هو مبارك ربيع صاحب الرواية الشهيرة "بدر زمانه"، التي صدرت طبعتها الأولى عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة 1983، وصدرت طبعتها الثانية عن منشورات المعارف سنة 2019، وذلك كافٍ للعودة إليها، وقول شيء يليق بمكانتها، رغم أن ما قيل عنها وعن قيمتها الروائية يفوق كل إحصاء أو عدّ. وقد كان من أهم الأبحاث التي كُتبت عن "بدر زمانه"، بقلم المفكر والناقد والمترجم اللبناني جورج طرابيشي في كتابه "الروائي وبطله، مقاربة للاشعور في الرواية العربية" (دار الآداب، 1995). كان طرابيشي معجباً بالعمل، ما أثار إعجابنا أيضا بالمغرب، وبدت غائية بحثه متمركزة حول تقديم جميع الحجج العميقة لإبراز طاقة هذا العمل الفذّ الذي أسماه "رواية العمر"، أي بالمعنى المشتق الذي يعني أنها فرصة أدبية نادرة لا تسنح في العمر إلا مرة واحدة غير قابلة للتكرار، يرتفع خلالها الروائي إلى مصافّ الروائيين الكبار، ودفعة واحدة، رغم أنه لم يكتب شيئاً قبلها، أو كتب ولكن بدون قيمة تُذكر.
إن حماسة مفكّر وناقد متمرّس مثل جورج طرابيشي لهذا النص المغربي، لكن المنشور في المشرق، هو مبرَّر ومنسجم مع قناعة باحث يطبّق المنهج النفسي على رواية كتبها روائي، هو
مبارك ربيع، كان يعمل آنذاك أستاذاً لمادّة علم النفس في الجامعة المغربية.
تحكي الرواية، بضمير المتكلّم، وقائع حياة أحمد بن الحاج مهدي، من يوم مولده إلى يوم ارتكابه جريمة قتل ومحاكمته وسجنه. وجدير بالإشارة أن بطل الرواية هو من يحكي وقائع حياته وليس سارداً آخر. إن مصفاة وعيه بوجوده وتاريخه الشخصي هي من تقدّم كل شيء عن هذه الحياة. ورغم أحادية السارد، فإن الرواية جاءت غنية بثلاثة مستويات لغوية. فالرواية تستعمل لغة الواقع حين تقدّم الحدث، ولغة الحلم، أو ما دون الواقع، حين يقدّم السرد الأحلام والكوابيس، ولغة الأسطورة، أو ما فوق الواقع، حين تقدّم بعض الأساطير الشعبية.


أصوات أسطورية
إن سلاح القارئ من أجل فهم "بدر زمانه" هو فهمه للأساطير وثقافته التي ينبغي أن تؤطّرها قصص الملوك في الحضارات القديمة. فقوة حضور قصّة الملك شهراموش، عظيم مملكة كاغاشي، وما جرى له ولابنه بدر الزمان، والمروية بالمنهجية والشكل اللذين يروي بهما الراوي الشعبي حكاياته وأساطيره، تعيد أصداء سيرة عنترة بن شدّاد أو الزير والمهلهل، وألف ليلة وليلة، كما استخلص ذلك طرابيشي. إضافة إلى حضور كل أطياف الميثولوجيات، وألوان من الأدب الحكائي المجهول المؤلّف الذي أنتجته الذاكرة الجماعية. لكن "بدر زمانه" رواية معلومة المؤلّف، هو مبارك ربيع صائغ هذا العالم المتعدّد، وهذا ما يساعد على تأويلها وفق حقائق أسلوبية وتعبيرية. ويمكن الإشارة هنا إلى عدد لا بأس من الروايات العربية في تلك المرحلة صاغت عالمها ورؤيتها وطاقتها الأسلوبية وفق هذا المعمار، وأقربها إلى "بدر زمانه" رواية "زينب والعرش" للروائي المصري فتحي غانم.

 كائنات مائية
عن فكرة لجون شتاينبك صدّر مبارك ربيع "بدر زمانه" بتعبير تراجيدي: ثم كائنات مائية دقيقة، ما تكاد تلمسها حتى تتفتّت بين أصابعك، فما عليك إلا أن تترك لها حدّ السكين ترقاه، ثم

ترفعها إليك في أناةٍ وهدوء. إن سرد الرواية يقدّم كائنات شبيهة بما ذكره شتاينبك. إنها رواية الشخصيات الأسطورية القوية لكن التي تصبح ضعيفة في أي لحظة. يساورها الشكّ وتبدو ضعيفة ومرتابة أمام من كانت أمامهم بالأمس قوية وواثقة. يجلس شهراموش، عظيم مملكة كاغاشي، على سريره المعتاد، في مشهد لا يليق بعظمته، أمام أصحاب المناصب وكبار الأعيان ويحدّثهم عن أزمة في إنتاج الملح، حسب ما صارحه به "شيهوك" صاحب الملح. ويوضح أمامهم خوفه من الطمع في الاستيلاء على مناجم ملحهم، ولذلك أضرارٌ خطيرة ليس أقلّها عدم الوفاء بالتزاماته مع عظماء المعمور. إن فكرة الملح مشتركة مع الروائي عبد الرحمن منيف، الذي كان هو الآخر متحمّساً لرواية "بدر زمانه" وهي مخطوطة، بل هو من سعى لنشرها لدى المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
يعود شهراموش، العظيم الحائر، للاجتماع مع وفود من العلماء ورجال المناصب والمستشارين لامتحان الأميرة "بيروز". لكن الأسئلة المطروحة عليها تفوق علم عصرهم في شتى الموضوعات من علوم الفلك والبحار والزراعة والطب والدين والأدب والفن والتربية والسياسة. غير أن الأميرة تفوّقت على العلماء، ووجدوا فيها ما لم يجدوه في متعلّم أو عالم. لكن العلماء تردّدوا في الإشادة بها لأنهم بكل بساطة لا يعلمون ما يدور في ذهن عظيمهم شهراموش. وهذه إشارة سياسية واضحة إلى نمط الحكم القديم، وأحادية السلطة.