Print
صقر أبو فخر

السوري يوسف الخال والفينيقي يوسف الخال... التاريخ الحقيقي للشاعر

18 أكتوبر 2019
عروض
في 7/9/2019، نشر الممثل السوري الأصل، واللبناني المولد والجنسية، يوسف الخال، تغريدة سقيمة قال فيها: "نحن فينيقيون لبنانيون (...)، ومَن لا يعجبه لبنان ليغادره". وكتب تغريدته تلك بالعامية. وقد سخر كثيرون جداً من تلك التغريدة، ومن صاحبها، لأن الجميع يعلم أن الممثل يوسف الخال متحدر من صلب شاعر سوري مشهور هو يوسف الخال، المولود في بلدة (عمار الحصن) القريبة من مدينة حمص، ولأن والدة الممثل هي الشاعرة والرسّامة السورية مهى بيرقدار؛ فيكون أعمام يوسف الخال الإبن وأخواله، فضلاً عن جدّيه وجدتيه، وكذلك أبناء عمومته وخؤولته، سوريين. ويبدو أن كثيراً من أمثال يوسف الخال في لبنان، لاعتبارات طائفية، أو هوياتية، لا يشمّون روائح أفواههم، فيسيئون إلى ذكرى أسلافهم.

وهنا، في حكاية الممثل يوسف الخال، ثمة حالة إنكار عجيبة؛ فقد كان والده الشاعر يكرر القول دائماً إنه شاعر عربي، وكثيراً ما سخر من الفينيقيين، واللغة الفينيقية، ومن ترهات الشاعر سعيد عقل وهذيانه، الذي، بحسب الخال، "يتكلم اللغة العربية أباً عن جد، لكنه، مع ذلك، يترك هذه اللغة ويذهب إلى كم صفحة كتبها الفينيقيون باللغة الفينيقية (...). وأنا لا ألوم سعيد عقل على طرحه هذا، لأن طرحه ناتج عن منطقه الخاص الذي يقول إن الأمة اللبنانية مستقلة عن العرب والثقافة العربية، ومبادئه مرتبطة ببعضها، وغلطان فيهم كلهم" (راجع: جاك أماتاييس، صدى الكلمة، بيروت: د.ن.، تنفيذ دار نلسن، 2019، ص 420-421). ويضيف الشاعر يوسف الخال في مكان آخر: إن مشروع سعيد عقل لا يتقبله أي عقل بشري (أنظر: يوسف الخال في حوار مع وديع سعادة، جريدة "الأحرار" اللبنانية، 31/5/1968).
لسوء حظ الممثل يوسف الخال، لم يمضِ أسبوع واحد، وبالتمام في 14/9/2019، حتى صدر كتاب الراهب السالسي، جاك أماتاييس، الموسوم بعنوان "صدى الكلمة"، ليضم بين دفتيه جميع المقابلات مع يوسف الخال الشاعر: المقابلات المنشورة في الجرائد والمجلات، والمقابلات المنشورة في الكتب، علاوة على نبذة وافية عن حياة الشاعر، وفهرس دقيق للأَعلام

والموضوعات. وفي معظم مقابلاته، كان يوسف الخال يشدد على كونه شاعراً عربياً يتطلع إلى ابتداع لغة عربية جديدة. أما أبرز المقابلات المرصودة في هذا الكتاب، بما في ذلك الإذاعية والتلفزيونية، فهي التي أجراها شوقي أبو شقرا، ورشاد البيبي (مقابلة في تلفزيون لبنان ضمت إليه خالدة سعيد، وشوقي أبي شقرا)، والياس سحاب، وعبدالرحيم عمر (ندوة إذاعية مع يوسف الخال، وشوقي أبي شقرا، وأنسي الحاج)، وموسى صرداوي، وعصام محفوظ، وجاد الحاج، وأمل جراح، وأنطوان بارود، وربيعة أبي فاضل، وغصن أبو جودة، وروزانا إليان، وسليمان بختي، وسحر حجّار، وأحمد حلاوي، ووليم الخازن، ومحمد خليفة، وإبراهيم عبده الخوري، وسيمون الديري، وياسين رفاعية، وهنري زغيب، ووديع سعادة، وجورج طراد، ومحمد عبدالملك، ومنير العكش، وعقل العويط، وجوزف عيساوي، ورياض فاخوري، وجهاد فاضل، وأحمد فرحات، وهاشم قاسم، وجوزف كيروز، وميشال معيكي، وآمال ناضر، وعبده وازن.

الراهب والشاعر الذي لا يحب النساء
جاك أماتاييس راهب في رهبانية دون بوسكو للآباء السالسيين، نسبة إلى القديس فرانسوا دي سال. وقد تعرفتُ إليه في أثناء إعداده كتاب "يوسف الخال ومجلته شعر" (بيروت: المعهد الألماني للأبحاث الشرقية، 2004)، وأهديتُ إليه أعداداً متفرقة من مجلة "شعر" التي أصدرها الخال مع أدونيس في سنة 1957. وفي هذا الكتاب، درس جاك أماتاييس سيرة يوسف الخال من المولد والنشأة في سورية، حتى الغربة في لبنان والولايات المتحدة الأميركية، ثم العودة إلى بيروت وإطلاق مجلة "شعر"، مع التركيز على الهوية الثقافية للمجلة، ومنطلقاتها الإبداعية، ومبادئها النظرية، ورؤاها النقدية. وقد كنتُ خِلتُ أن عصر المستشرقين الكبار الذين أفنوا أعمارهم في تحقيق المخطوطات العربية القديمة قد أَفِل واضمحل، إلا أن جاك أماتاييس غيّر فكرتي هذه تماماً. ويلوح لي أنه مغرم بيوسف الخال الشاعر، وبتجربته الشعرية، فقد أكبّ طويلاً على المراجع، خصوصاً الصحف والمجلات، وصار من مرتادي المكتبات في مدينتي بيروت وطرابلس الشام، وجال في معظم أرجاء لبنان وسورية، والتقى مديري المدارس التي تعلم فيها يوسف الخال، ومعهم مخاتير القرى، وقرأ سجلات المعمودية في الكنائس الأرثوذكسية والمشيخية، ليخرج علينا، بعد ذلك الجهد الفريد، بكتابه "يوسف الخال ومجلته شعر". أما لماذا استعمل عبارة "مجلته شعر"، وليس "مجلة شعر"، فأعتقد أنه أراد أن ينسب فضل إصدار تلك المجلة إلى يوسف الخال وحده، من غير أي شريك، مع العلم أن أدونيس كان الشريك الأساس في إطلاق تلك المجلة الخطيرة، التي كان لها الشأن الكبير في الحداثة الشعرية المعاصرة. ودائماً كان يُقال أن خمسة سوريينFive Syrian Group هم من أطلق مجلة شعر، وفكرة الحداثة الشعرية، وهؤلاء هم: يوسف الخال من قرية عمار الحصن، وأدونيس من قرية قصابين، وفؤاد رفقة من بلدة الكفرون، ونذير العظمة من دمشق، ثم محمد الماغوط من مدينة السلمية.
ها هو جاك أماتاييس، بعد خمس عشرة سنة على كتابه "يوسف الخال ومجلته شعر"، يعود

إلينا بكتابين توأمين عن يوسف الخال العربي السوري، لا عن الممثل يوسف الخال "الفينيئي" بالطبع: الأول هو "صدى الكلمة المذكور آنفاً، والثاني هو "يوسف عبدالله الخال: الجدول المتسلسل زمنياً لأهم وقائع حياته وكتاباته" (بيروت: نشر خاص، تنفيذ دار نلسن، 2019). واللافت أن الراهب السالسي تعمّد، كما يبدو، أن يفرد في كل كتاب من الكتب الثلاثة نبذة وافية عن يوسف الخال، مع استفاضة هنا، وإيجاز هناك. والكتب الثلاثة تشكل معاً أفضل دراسة عن يوسف الخال، ومجلة "شعر"، وحركة الحداثة الشعرية العربية، وفيها يصحح جاك أماتاييس السالسي تاريخ ميلاد الشاعر فيجعله في 5/5/1916، لا في 25/12/1917، كما شاع في بعض المصادر، وذلك استناداً إلى سجلات الكنيسة المشيخية في بلدة عمار الحصن – قضاء تكلخ السوري. وكذلك يُلاحظ أن الشاعر لم يتحدث عن والدته وطفولته إلا بإشارات عابرة (يوسف الخال ومجلة شعر، ص 26). غير أن الشاعرة السورية الراحلة أمل جراح في مقابلتها مع يوسف الخال تروي على لسانه ما يلي: "لا أعتقد أن أي امرأة بالذات لعبت دوراً رئيسياً في حياتي. أنا أُحب عِشرة النساء، لكنني لا أحب النساء، ولا أُحب جنسهن. أتعب وأضجر منهن. بيني وبينهن جدار لا يُخرق. لا أذكر أنني استسلمت في حياتي لحب امرأة؛ ففي اللحظة الأخيرة أستطيع أن أتخطاه، أن أتجاوزه وأتعالى عليه (...). لي قصائد حب، إلا أن المرأة في هذه القصائد ليست سوى رمز، رمز العطاء والحنان والوجدان الإنساني. إنها الشيء الذي لا بد منه" (صدى الكلمة، ص 111).

 

السيرة الساطعة
استناداً إلى الأب جاك أماتاييس، فقد ولد يوسف الخال في قرية عمار الحصن – سورية في 5/5/1916. والده عبدالله الخال مولود في سنة 1893 في عمار الحصن نفسها، وتحوّل في سنة 1911 من الأرثوذكسية إلى الإنجيلية (الكنيسة المشيخية)، وتوفي في مدينة طرابلس الشام في 13/5/1963، في أثناء انتدابه إلى الخدمة الكنسية في تلك المدينة. أما والدته فتدعى رحمة سليم المن. وله من الأشقاء والشقيقات: رفيق، نديم، سلوى، سُميّا، منى، نجلاء.
انتقل والده القسيس إلى بلدة اليازدية القريبة من مدينة حماة في 1/9/1919 للخدمة في الكنيسة المشيخية، فانتقلت معه العائلة كلها. وفي أيلول/ سبتمبر 1921 عاد يوسف الخال مع عائلته إلى قرية عمار الحصن. وفي سنة 1923 بدأ الدراسة الابتدائية في مدرسة القرية. وفي سنة 1926 نُقل والده إلى بلدة محردة، فدرس يوسف الصفين الرابع والخامس في تلك البلدة التي تحدر منها البطريرك الأرثوذكسي إغناطيوس هزيم. ثم ما لبث أن أرسله والده القس عبدالله إلى القسم الداخلي في مدرسة الأميركان في محلة القبة – طرابلس الشام سنة 1928، فبقي فيها حتى تخرجه في سنة 1934، وكان يمضي العطلة الصيفية في كل سنة في قرية عمار الحصن.
انتمى إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي في سنة 1934، وعمل في تلك الأثناء مع ياسر أدهمي صاحب جريدتي "الليل"، و"الأخبار" الطرابلسيتين. لكنه، في سنة 1935، وفي أحد البارات اختلف مع ياسر أدهمي على حسناء يونانية تدعى فاسوس، فأطلق أدهمي النار عليه من مسدسه، فأصابت الرصاصة قلبه، لكنه نجا. وفي 10/9/1936، جراء تلك الحادثة، غادر طرابلس إلى بيروت، وكان والده ما برح يخدم في كنيسة محردة، وأصبح قسيساً في 23/5/1937. لكنه لم يلبث أن ترك بيروت، وعاد إلى حلب في تشرين الأول/ أكتوبر 1938 للدراسة في كلية حلب الأميركية. وأمضى في الكلية سنتين. وفي حلب تعرّف إلى عمر أبو ريشة، وميخائيل نعيمة، وإلى الأديبة السورية، شفيقة سعيد، التي كانت جارة لعائلة الخال في حماة. وقد اتفقا على الزواج، وأعلنا خطوبتهما رسمياً، لكنهما افترقا بعد فترة قصيرة.
توقف عن الدراسة في حلب في 12/9/1940، وغادر المدينة للعمل مدرساً في مدرسة الفنون في صيدا، وكانت غايته توفير بعض المال كي يتمكن من متابعة دراسته في حلب. وعرضت عليه كلية حلب تحمّل نفقات دراسته لقاء تدريس العربية فيها. لكن بعض الأمور غيّر مسار حياته؛ فترك مدرسة الفنون في صيدا في ربيع 1942، والتحق بالجامعة الأميركية

في بيروت في أيلول/ سبتمبر 1942، وتخرج فيها في سنة 1944. ثم بدأ التدريس في مدرسة الفنون (الآداب) التابعة للجامعة الأميركية في سنة 1945. وفي تموز/ يوليو 1947 فُصل من الحزب السوري القومي الاجتماعي. وفي أيار/ مايو 1948، سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية، وعمل في بعثة الأمم المتحدة لدى ليبيا في سنة 1950، وألقى قصيدة يمتدح فيها الملك إدريس السنوسي في مناسبة تنصيبه ملكاً في سنة 1952.
استقال من عمله في الأمم المتحدة في 7/4/1952، وأسس شركة في صيف العام نفسه، ثم افتتح مكتب خدمات الشرق الأوسط في كانون الثاني/ يناير 1953، وتولى رئاسة تحرير جريدة (الهدى) في نيويورك في شباط/ فبراير/1954. ولم يطل الأمر به في نيويورك، فعاد إلى لبنان في نيسان/ أبريل 1955، وأسس مع أدونيس مجلة "شعر" في سنة 1957، ثم مجلة "أدب" النثرية في سنة 1962، و(غاليري وان) في سنة 1963. وكان يوسف الخال تزوج الفنانة التشكيلية هِلن الخال، وله منها طارق وجواد، ثم تزوج الشاعرة والرسامة السورية، مهى بيرقدار، وله منها الممثلان يوسف الإبن، وورد الخال. عاش أواخر حياته في بلدة غزير الكسروانية، وتوفي في 9/3/1987، بعدما ترك لنا مجموعة من الدواوين هي: الحرية (1953)، هيروديا (1954 – مسرحية)، البئر المهجورة (1958)، قصائد في الأربعين (1961)، قصائد مختارة (جمعها وقدّم لها أدونيس – 1963).

 *   *   *

 كان الشاعر يوسف الخال محفّزاً للحداثة الشعرية، وصانعاً للأفكار التي أطلقت الشعر الجديد في حقبة ما بعد النكبة الفلسطينية. وانتمى فكرياً إلى سوريا التاريخية، وكان نطاقه القومي يمتد من الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط حتى تخوم النخيل في البصرة. ومع أن الشاعر خضع لتغيرات فكرية شتى، إلا أن ابنه الممثل يوسف الخال السوري أباً وأمّاً، أبى إلا أن يعاند تاريخه، فتحول إلى "الفَيْنَقَة" التي كثيراً ما سخر منها يوسف الخال الأب. فيا للمفارقة العجيبة.