Print
عمر شبانة

وجوه عبده وازن في مرايا الزمن والوجود

22 يناير 2019
قراءات

.. شعرًا

"في ظلام النهاية ستكتب بدايةً لا نهايةَ لها"

 

بهذه العبارة (من قصيدة "قدّاس جنائزي لأنسي الحاجّ")، أرى أن أبدأ قراءتي في ديوان الشاعر الصديق عبده وازن "لا وجه في المرآة" (منشورات المتوسط، إيطاليا، 112 صفحة، 2018)، فالعبارة تجسّد واحدة من الثيمات التي يشتغل عليها الديوان، ثيمة "خلود المبدع" الذي يصنع، بإبداعه، وحتى من ظلام نهايته بدايات لا تنتهي. القصيدة هي خاتمة الديوان، وهي الأطول والأعمق والأكثر تراجيديّة، ففيها يقدم الشاعر قراءة بانوراميّة لحياة أنسي الحاج ولتجربته الشعرية. وهي، مع بقية القصائد تقدّم وتجسّد قراءةَ عبده وازن للحياة والشعر والوجود/ الكون/ الكوكب عمومًا، بل هي قصيدة عبده عن روحه هو من خلال أنسي الحاجّ.

قراءة تنطوي على قدر من الغموض، بقدر ما تحتوي من الرؤى الصوفية والغيبيّات والأساطير. تميل إلى التشاؤم، وتحدّق في الموت وأشكاله المتعددة، الضجر والسأم والملل والخوف والشك والقلق وغيرها من مفردات الموات/ الموت، مازجةً الفلسفة بالشعر كما لو أنهما صِنوان، لكنه قراءة تستعير من الحياة صوَرًا غريبة، من طبيعة سريالية، فالشاعر يختار من حياة أنسي الحاج محطّات وعبارات تحيل عليه هو نفسه أيضًا، إذ إنه يجد نفسه وروحه في شخص الحاجّ وشعره.

من هنا ندخل ديوانًا لا يعطينا نفسه بسهوله، منذ عنوان الغلاف، حيث الوجه بلا مرآة، والوجه هو الإنسان، أو المَعلَم الأبرز فيه، والوجه بلا مرآة يظلّ ناقصًا، فالفُضول يظلّ يسكن حاملَ هذا الوجه لمعرفة "ماهيّته"، فيشعر بنقص ما. هذا لو أخذنا ثنائية "الوجه/ المرآة" على محمل الحقيقة لا المجاز، لكن الوجه "حمّال أوجه"، وعليه فإن علينا ألّا نكتفي بدلالته المباشرة والبارزة.. ونحن هنا، وبدلًا من وجهٍ واحد، نواجهُ وجوهًا كثيرة، واقعية وحلمية ومن عالم الإبداع: مالارمِه، سافو، فيرجينيا وولف، فضلًا عن أنسي الحاجّ. بل نحن حيال وجوه كثيرة للشخص ذاته في بعض الحالات.

سنحاول هنا إلقاء إضاءات والوقوف على أمثلة لما هي عليه قصيدة وازن هنا، حيث روح واحدة تجمع قصائد الديوان وتسكنه وتمنحه هويته، لذلك سنختار "ثيمات" معينة نقف معها.

   

 

عن الشاعر وقصيدته

في الديوان، حضور لافت لعلاقة الشاعر بقصيدته خصوصًا، وبالشعر والشعراء عمومًا، علاقة متعددة الأوجه، منها ما نراه في قصيدة "ذاكرة"، حيث التعبير البليغ عن علاقة تقوم على الرؤية الحوارية بين الشاعر والقصيدة، فلنقرأ "القصيدة التي لم أكتُبها/ تنفتح كجرح/ لا أعلمُ أفي القلب أم الروح/ أتألّم القصيدةَ أم القصيدةُ تتألّمني؟"، على الأغلب أن كليهما "يتألّم" الآخر. فالشاعر يمنح ذاته للقصيدة، فيما هي تمنحه القوة واللذة، لذة الكتابة في موازاة لذة القراءة لدى رولان بارت.

وكان الشاعر قد بدأ ديوانه بقصيدة "سرقة"، قصيدة في فلسفة الشعر وكيفية "ولادته"، وتقول لنا إن الشعر كله عبارة عن "سرقة"، وإن الشاعر-غالبًا- ليس إلا سارقًا لقصائد شعراء سابقين، قد يغير كلمةً هنا، وجملةً هناك، لكنه لن يخرج عن كونه سارقًا. وهذه القصيدة ذات البعد الفلسفيّ، إذ تنطوي على حس ساخر، تذهب إلى ما يعاني منه الشعر اليوم، حيث الانثيالات "الشعرية" بلا هوية، وبالكاد تتعرف على هذا النص وصاحبه، فما من نصٍّ متفرّد، بل هي نصوص متشابهة حدّ "الغربة" عن ذاتها. لكن الشاعر "سارق ماهر"، يعرف كيف يسرق ويغيّر من دون أن يُفتضح أمره "ما لم تكن سارقًا ماهرًا/ فلن تكون شاعرًا بتاتًا". نحن إذن أمام نصّ ملتبس، ما بين فلسفة الشعر والسخرية من الشعراء.

 

بياض أسود أعمى

تتكرر في قصائد هذا الديوان مفردات بعينها، ربما كانت مفردات الخواء والهباء والعماء والبياض من أكثرها تكرارًا، وفي سياقات متعددة ومختلفة، يرى عبده البياض، فيكتب ذاته، وتأمّلاته في علاقته بما حوله، يقول "فركتُ عينيّ جيدًا/ لم أبصر سوى سواد/ يتضاءل حتى آخر بياضه". هنا سواد يتضاءل إلى أبيض، أو أبيض متحوّل عن السواد. وكما يحضر الأبيض، فنحن نرى الأسود والأزرق والأصفر، وحتى البنفسجيّ في قصيدة "بنفسجة: دمعتها على الأرض حفرت بنفسجة". وتتعدد عوالم عبده، وتنطلق في مساحات مفتوحة على الغامض والمجهول، إنه في الحب والحياة، وهو مع نيتشه والنفّري، مع روحه ونفسه التي يهرب منها ويسمّيها الهاوية "لا أهرب إلا من هاوية أسمّيها نفسي/ نفسي المنتصبة في الهواء/ الخاوية الملأى بخوائها".

ومن بين عناصر كثيرة لافتة في قصائد عبده، تحضر العلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة في صُوَرها المختلفة، ما بين الحالة الوجودية/ الإنسانية، بين العشق الشفيف والشبق، فهو في قصيدة "برج" يرسم حالة غامضة من العلاقة بين رجل وامرأة، عاطفة ممزوجة بقدر من الشهوة "لم يكن بيننا ما كان يجب أن يكون/ حائرة وحارقة، لا يهدأ لك مزاج/ نضرة وناضجة/ ولا يد تقطف عِنبَكِ/ برجُكِ عالٍ، ولا راية هناك ولا نجمة"، فهي صور تجمع الواقعي "المزاج" والتجريديّ/ الرمزيّ "بُرجُك عالٍ". ومن الصور الغريبة، بل الغرائبيّة للمرأة، ذات البعد الوجوديّ، امرأة يدعوها "صاحبُها" إلى النوم "ما دامت نجمةُ التلاشي أشرقت علينا من قلب هذا الاحتضار الطويل الذي نسمّيه الحياة". والأغرب هو طلب النوم مثل "نُطفتين" في رحم. فهل هي الرغبة في العودة إلى الحالة "الجَنينية" التي يرغب فيها كل من ذاق عذابات الحياة؟ ويبلغ حضور المرأة ذروته مع قصيدة "أغنيّة إلى سافو" التي تجمع بين البحث عن الحنان واللذة معًا "لو كنتُ امرأة/ لأحببتُكِ بانكسار/ لأخذتُ حلمتَيكِ بلهفة طفلٍ لم تلديه/ وتنشّقتُ زهرتكِ بتلذُّذ".

 

سرنمة وانفصام

ومما يتكرّر في قصائد الشاعر، مفردة "السرنمة" بدلالاتها ومعانيها، خصوصًا ما يتعلق منها بالحالة المعنوية للمشي أثناء النوم، فهو يقرأ حالة "المُسرنم" بوصفها حالة إنسانية طبيعية، نقرأ تساؤله الذي يحمل جوابه "أنومًا أنام أم صحوًا أشبه بيقظة في صميم حلم لا نهاية له؟". وللسرنمة قصيدة مستقلّة حملت عنوان "المُسرنَمون"، نرى فيها الخُفّاش يُحشرج قرب النافذة، ثم أناسًا يهتفون "لا نمضي إلى نومنا لأننا نيام، وليس علينا أن نستيقظ". فهل المبدع إنسان يمشي في الحلم، أثناء النوم؟

وانفصام الشخص إلى شخصين، ثيمة أخرى تتكرر في الديوان، يكتب عبده عن شخص ما، ويسرد بقدر من التشويق تفاصيل مشهدية للشخص، فنراه يقرأ أو يكتب، وشيئًا فشيئًا يتضح أنه هو ذلك الشخص "نظراته تائهة تقول إنه طيفٌ لي"، وفي بعض حالاته يتحوّل شبحًا ويختفي، كما في قصيدة "فقدان" حيث يبصرُ نفسه يكتب في العتمة "على ورقة أم على صفحة من ظلام؟ لا أعلمُ ماذا أكتب/ أشرب الظلام بجرعات/ ولمّا نظرتُ إليّ، لم أجدني"! وفي قصيدة "شبح" ينجلي موقف "الطيفيّة" حيث نراه يقول بوضوح وشفافية "لا وجهَ لي أراه في المرآة/ صِرتُ كالطيف لا يُبصرُه أحد/ أحلّق قليلًا/ ثمّ أسقط كورقة خريف".

ويذهب الشاعر إلى عالم الـ"فيزياء"، من خلال إطلالة على السماء وملايين الكواكب والنجوم والطبيعة والكون الذي "بلا عُمْر". أو من خلال مشاعر الانتظار، وارتباطها بالكون عمومًا، وبالأبراج خصوصًا، حيث يقول في قصيدة "انتظار" التي يصف فيها وضع الانتظار لصديق "نَعُدُّ النجومَ.. لنعلمَ ما حالُ كوكبنا"، ثم يصف حال "المنتمين" إلى "برج القوس" من حبّهم الموسيقى والعيش بحُرية وبساطة وعشق الجمال.. متوقّفًا على قصيدة مالارمِه "ليلة القدّيس يوحنّا" وليلة الإشراقات، ثم نكتشف أن الشاعر ينتظر نفسه، لأنه لا يدري إن كان أحد قد جاء ولم ينتبه هو؟!

 

لعب وتجريب

ومن باب التجريب، يذهب عبده إلى الموسيقى والإيقاعات العروضية، فيكتب قصيدة "موسيقى"، بكلماتها القليلة، فهي تقع في سبع كلمات، منها تكرار لأربع مفردات "روحٌ ريحٌ راحٌ ريحٌ.... راح تُهرقُ روحًا.. روحًا.."، على وزن "فِعْلُن/ فِعْلُن الخ"، هذا الإيقاع القريب من إيقاعات الدراويش، ينكسر في موقعَين، يكسره الشاعر في "ريحٌ تهبّ روحًا راحًا"، وفي "روحٌ ترفّ ريحًا راحًا". وهي ليست من باب اقتحام الإيقاعات الخليليّة، بل ربّما طقس لعبٍ على الحروف وما يمكن تشكيله منها.

أخيرًا، ورغم أننا لم نقدّم سوى النزر اليسير من هذه العوالم، لا يكفي للكشف عنها، فإننا حيال قصيدة نثر تنجح في الوصول إلى حالة راقية من النقاء والصفاء، وشعرية عالية لغةً وبلاغةً وإيقاعات تعوّض غياب الإيقاع الوزني، وتبتعد عن الأفكار والعبارات الجاهزة، لتصوغ مفرداتها وعبارتَها في صور ولوحات طازجة.