Print
باسم المرعبي

"حياة الكتابة": حين يبكي المؤلف وحيدًا

5 يوليه 2018
قراءات

ثمة من الكتب ما يمكن عدّه فاكهة. كتاب "حياة الكتابة" ـ مسكيلياني 2018، هو واحد من هذه الكتب. يتعرف القارئ، عبر ما ضمّ من شهادات متفرقة، على العوالم الداخلية لمجموعة من الكتاب ـ بينهم كاتبتان ـ وبدل سرد حيوات شخصيات متخيّلة، مثلما اعتادوا، يتصدون هنا للكتابة عن أنفسهم، كما ألمحت إلى ذلك المقدمة، فتحولوا بدورهم إلى  شخصيات روائية مرصودة في ألبوم يوميات وتجارب يجمع المتعة إلى الخبرة، عبر استعراض هواجس ومواقف وأفكار شتى، تتعلق بما هو خصوصي في حياة الكاتب أو تجربة الكتابة عمومًا، وللاثنين طعم السيرة الذاتية، حتى ليشعر قارئ الكتاب بالقرب من هؤلاء وهو يشاركهم طاولة الكتابة أو يشاركهم حركتهم وتنقلاتهم وكأن القارئ مدعو لرحلة بصحبتهم، بصرف النظر عما ما إذا كانت الرحلة مبهجة أم مشوبة بالحزن، لكن تبقى هي، على أية حال، إطلالة على ما يختلج في نفس الكاتب، بتفاوت درجات البوح التي كانوا عليها.

يقدّم مُعد ومترجم الكتاب عبد الله الزماي المقالات المتفرقة التي جمعها بتواضع حتى لكأنّه يبرر حتى كتابته مقدمة للكتاب، معللًا ذلك بدافع من واجب الشكر لكل من عاضده في إنجاز الكتاب، مراجعةً وتدقيقًا. يتعرف القارئ عبر الكتاب على سبعة كتّاب وكاتبتين من خلال شهاداتهم. وهم على التوالي: إدواردو غاليانو، إليف شافاك، أورهان باموك، إيزابيل الليندي، روبرتو بولانيو، كازو إيشيغورو، ماريو فارغاس يوسا، هاروكي موراكامي، يان مارتل.

غاليانو: الكتابة المنقِذة

يُستهل الكتاب بالأورغواياني إدواردو غاليانو، الراوية المشوّق كعادته، المترع خبرةً، متحدثًا عن تجربته ليس تلك المتعلقة بعملية الكتابة من الداخل أو تفاصيلها الحرَفية، بل عن أثَر هذه الكتابة بالمجمَل وانعكاساتها، كذلك لقاءاته بقرائه في أمسيات مكرسة له كما حدث في إسبانيا والمكسيك أو في لقاءات حرة مع العمال كما في بوليفيا، يمكن القول إن ما يحدث خلالها يجيء كردات فعل من قرائه وجمهوره في إطار شفاهيّ. إن بعض ما يخبرنا به غاليانو يمكن أن يثير القشعريرة، لا رعبًا، بل تفاعلًا وانبهارًا بما يمكن أن تجترحه الكتابة من معجزة، معجزة أن تهب حياةً إضافية. والحادثة التي تخبرنا بذلك تتعلق بأثر كتابه المعروف "كرة القدم بين الشمس والظل"، الذي كتبه من أجل "أن يفقد محبو القراءة خوفهم من كرة القدم وأن يفقد محبو كرة القدم خوفهم من القراءة. لم يخطر ببالي البتة شيء غير هذا"، يقول. بعد استهلاله هذا يسرد حادثة "فيكتور كوينتانا"، وهو أحد أعضاء البرلمان المكسيكي وقد تعرض للاختطاف على يد عصابة قتلة مأجورين بسبب كشفه عن قضايا فساد، فرُكلَ، مثل كرة، حتى مشارفة الموت، وقبل أن يجهز عليه خاطفوه بطلقة أخذوا يتحدثون في ما بينهم عن كرة القدم. يُخبر كوينتانا غاليانو بأنه ورغم وضعه الصعب أخذ يشاركهم الحديث ويروي لهم قصصًا من كتابه الآنف. يصل الكاتب إلى ذروة روايته عن هذه الحادثة بقوله: ومع كل حكاية من تلك الصفحات كانت ثمة دقائق تُضاف إلى حياته. مرّ الوقت والقصص تجيء وتمضي. وفي الأخير تركه القتلة، مضروبًا ومحطمًا لكنّه حي.

ليس ثمة أبلغ وأعظم أثرًا من أن تكون الكتابة سببًا للحياة. وما من شهادة أو وسام يمكن أن يحصل عليهما كاتب أرفع من شهادة الضحية الذي يسترد حياته وحريته بأثر من كلماته. إنها الكتابة المنقذة، المُنجية بالمعنى المباشر، وإلا ففعل القراءة في مجمله وفي سوّيته الجمالية هو فعلُ منقذ على الدوام. هذا هو الوصف الذي لا يمكن التفكير بسواه كما في حالة غاليانو. وهو بروايته للحادثة كأنه يريد تذكيرنا بالمهمة الشهرزادية المُنجية التي تنطوي عليها مهمة رواية القصص أو كتابتها.. وغاليانو قد التفت إلى ذلك في أكثر من مناسبة كما في كتابه "مرايا ـ ما يُشبه تاريخًا للعالم"، ترجمة صالح علماني. فهو يقول في "شذرته" المعنوَنة، أم رواة الحكايات: "من الخوف من الموت ولدت براعة القص". وفكتور كوينتانا الذي استعان بقصص غاليانو كان في موقفه ذاك نوعًا من شهرزاد، مكسيكيًا، هذه المرة. 

موقف آخر لا يقل حزنًا وعبرةً، يرويه غاليانو عن عمال المناجم في بوليفيا، أولئك الشباب الذين يتلفون رئاتهم وأعمارهم وهم يطاردون عروق القصدير في بطون الجبال، يقول إنه قد سهر معهم ذات أمسية حتى السحر يتبادل معهم الكلام والنكات والغناء وقبل أن تدوّي الصافرات وتدعوهم لبدء العمل طلب منه أحد العمال أن يحدثهم عن البحر، فصمتَ، حتى أصرّ بقية العمال على الطلب. يقول "كان التحدي الأصعب طوال حياتي القصصية، فبين عمال المناجم هؤلاء، ثمة من لا يعرف البحر مطلقًا. كان الموت في سن الشباب قدرهم ولم يكن لدي خيار سوى أن آخذهم إلى البحر، البحر البعيد جدًا وأن أجد الكلمات التي يمكن أن تبلّلهم حتى العظم". 

باموك: الرواية كالمتحف

في شهادته يستفيض الكاتب التركي أورهان باموك في الحديث عن بواعث كتابة روايته "متحف البراءة" وظروفها، هذه الرواية التي تتحدث عن علاقة حب محبطة بين شاب غني من إسطنبول وفتاة فقيرة، تنتهي بالعاشق، إلى جمع كل ما كانت حبيبته قد لمسته يومًا، كنوع من الدفاع عن هذا الحب والتشبث به، أو كنوع من سلوى، كما يعبّر الكاتب، لينتهي، أخيرًا، بعرض ـ آثار حبيبته ـ في متحفه الذي أنشأه لهذا الغرض "متحف البراءة".

حين بدأ باموك بمعالجة فكرة الرواية منتصف التسعينات كان يحلم بافتتاح المتحف ـ على صعيد الواقع ـ بالتزامن مع نشر الرواية، لتكون بمثابة "كتالوج" للمتحف، كما يذكر وهو بصدد الحديث عنها. إن فكرة المتحف سواء في الرواية أو على أرض الواقع تتصف بالفرادة، والمتحف في تجسده اللاحق غدا الأول من نوعه في العالم، لقيامه لدواعٍ روائية، وقد تمّ افتتاحه في إسطنبول سنة 2012. وانطلاقًا من هذه التجربة المشخّصة للحنين في أرفع صوره، كان المتحف استعادة لتاريخ حميم لما هو يومي، إذ أن مقتنيات المتحف ومعروضاته شملت أدوات الحياة اليومية للناس وشخصيات الرواية، وقد مثلت المقتنيات، زمنيًا، ما شاع في النصف الثاني من القرن العشرين، على الرغم من أنّ أحداث الرواية تقع في منتصف عقد السبعينات، حتى الثمانينات. إن فكرة باموك عن متاحف المستقبل جديرة بالانتباه فهو يقول "لا يجب أن تعنى المتاحف بعد الآن بالتاريخ على نطاق واسع ولا بملاحم الملوك والأبطال، أو بتشكيل الهويات الوطنية، بل يجب أن تركز على حيوات العامة وممتلكاتهم كما تفعل الروايات الحديثة". إضافة إلى ما تتصف به فكرة كهذه من جرأة في نبذ المنحى النمطي الذي اتخذته المتاحف المعتادة، فإنه يضيء، في الوقت نفسه، ببصيرة الكاتب المتمرّس على ما يجمع بين المتحف والرواية الحديثة من مشتركات، قاصدًا بذلك المتحف المنتمي للحياة لا متحف الأحجار الباردة. إن فكرة الكاتب عن المتحف "اليومي"، إن صحت التسمية، تذكّر برأي لآثاري لبناني متخصّص، لا يحضرني اسمه للأسف، طرحها في لقاء معه في التسعينات المنصرمة، في صحيفة السفير اللبنانية، يفيد بأن كلّ ما نتداوله اليوم من أشياء في حياتنا اليومية قابل لأن يكون آثارًا. وهذا عين ما فعله باموك فقد عمد إلى جمع مقتنيات متحفه الواقعي، لا الخيالي من أسواق العتيق ومحال الكتب القديمة وبيوت الأقرباء والأصدقاء، فترى في متحفه "علب الدواء القديمة ومنافض السجائر وصور المساجد المؤطرة وبطاقات الهوية وصور جوازات السفر". وتعزيزًا لفكرة تماهي المتحف والرواية التي يقول بها، يخلص إلى أن جمع القطع الفنية للمتحف لا يختلف كثيرًا عن جمع القصص والحقائق لتأليف رواية. هذا الاهتمام الذي يوليه باموك للذاكرة ليس بالغريب على ابن إسطنبول وهو ما يعرفه قارئه عنه، يقول حين كان يجول شوارع وأحياء إسطنبول رفقة المخرج السينمائي البريطاني "جرانت جي" أيام تصوير الأخير فيلمه "براءة الأشياء" عن المتحف، يقول عن مدينته كأنني اكتشفها للمرة الأولى ويتساءل، قائلًا، ما مدى جمال أي مدينة إذا لم يكن لنا فيها ذكريات؟ خالطًا الكلمة بالمكان، وكلاهما يؤدي الدور ذاته وهو ما تستند له هنا رؤيته ككاتب.

يان مارتل: بكاء المؤلف وحيدًا

من بين الشهادات المهمة التي ضمّها الكتاب، شهادات كل من روبرتو بولانيو، ماريو فارغاس يوسا، إيزابيل الليندي والكاتب الكندي الأقل شهرة بين جميع (مؤلفي) هذا الكتاب، يان مارتل، غير أن شهادته هي واحدة من بين الشهادات الأهم هنا، أما البقية فلم تكن تتمتع بما هو استثنائي أو مشوّق. ومن المصادفة الغريبة أن تتشابه شهادتا الكاتبين اليابانيين، كازو إيشيغورو وهاروكي موراكامي، في بعض أوجههما. أما أسوأ مادة فكانت للتركية إليف شافاك، ولا يعدو ما كتبته أكثر من مادة إنشاء متوسطة الجودة لتلميذة عادية.

يبدأ مارتل شهادته باعتقاده أن التأثر والإلهام والعمل الجاد هو المزيج الذي تتمخض عنه معظم الكتب. يكرّس الكاتب، هنا، موضوعه للحديث عن تجربة التحضير لكتابة روايته "حياة باي". فيصف سفره إلى الهند بحثًا عن الإلهام.. كان يبحث عن قصة، فقد كان بحاجة ماسة لها، كما يقول. بعد كتابين له يصفهما بالتافهين لم يبع كل منهما سوى ألف نسخة، كان حينها في عمر الثالثة والثلاثين، بلا وظيفة ولا عائلة، وحتى جائعًا، كما يكتب في مقدمة "حياة باي". يحدّث القارئ واصفًا جو الوحشة الذي أحاط به، أول وصوله الهند، وحيدًا، وهو في غرفته، ذات ليلة، في بومباي، حيث يقول، جلست على فراشي وبكيت كاتمًا صوتي لئلا يسمعه الجيران عبر الجدران الرقيقة، متسائلًا: إلى أين تمضي حياتي؟".

كأني بيان مارتل في موقفه هذا يمثل نموذج الكاتب في لحظته الأبدية، وهي لحظة متجددة على الدوام. ليس الفشل وحده ما يدفع إلى الوضع الذي وجد فيه مارتل نفسه فيه. فعند كلّ شروع في كتاب جديد يكاد يكون الكاتب، أي كاتب، ومهما كان النجاح والإنجاز الذي وراءه، شقيقًا لمارتل بالوحشة والسؤال: إلى أين تمضي حياتي؟ ويمكن أن نضيف سؤالًا آخر لا يقل وجوديةً، ماذا أُريد؟!

إيزابيل الليندي: مَدينة للجنرال بينوشيه!

الكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي الطالعة من الوجع والفقد، فهما أُستاذاها، حسب وصفها، فقد كانا وراء انطلاقتها ونجاحها، تشرح ذلك وهي بصدد الحديث كيف أنها أصبحت كاتبة. قبل عيد ميلادها الثالث خرج والدها لشراء علبة سجائر ولم يعد بعدها. وهو حدث روائي بامتياز، واصفة اختيار أمها، الرجل الخطأ، عند الزواج، فقد كان فاشلًا منذ البداية. افتقادها لوالدها مبكرًا جعل من ثيمة الأطفال الذين تخلى عنهم آباؤهم متكررة في كتاباتها. وهي تعتمد الذاكرة كمصدر أساس لكتاباتها، من هنا تؤكد أن كل كلمة في رواياتها كانت حقيقية. تعلّل فعل السرد لدى الكاتب، بأنه متأتٍ عن حاجة غير متحكّم بها إلى سرد القصة، ولا شيء أكثر من ذلك. وهو تشخيص دقيق وخبير، وهي التي بدأت حياتها كاتبة في سن الأربعين، قبل ذلك عملت في الصحافة وكتبت قصصًا للأطفال. وفي اعتراف لافت تقول إنه لولا انقلاب بينوشيه العسكري عام 1973 واضطرارها إلى مغادرة تشيلي، إلى فنزويلا، بعد عامين من ذلك، لما أصبحت الكاتبة التي هي عليها اليوم، ولبقيت كاتبة صحافية. فقد أعطاها الأدب صوتًا في المنفى وأنقذ ذكرياتها من النسيان ومكّنها من خلق عالمها الخاص.

فارغاس يوسا: رعب الطيران وعلاجه

أما الروائي البيروفي فارغاس يوسا فقد اختار الكتابة عن تجربة خوفه من ركوب الطائرة، ساردًا تجاربه في الرعب مع كل ركوب طائرة ومن ثمّ الوصفات التي نصحه بها أصدقاء له للتغلب على رعبه، وقد أثبتت جميعها فشلها عنده. في الأخير، وبعد سنوات من رحلات كثيرة وطويلة، يتوصل إلى الدواء الشافي من هذا الخوف، وهو القراءة. بالمصادفة اكتشف ذلك، كان في رحلة من بوينس آيرس إلى مدريد فاشترى من المطار رواية الكاتب الكوبي، أليخو كاربنتييه، التي لم يكن قد قرأها بعد، "مملكة هذا العالم"، فاستغرقته قراءة هذه الرواية، المكتوبة بطريقة رائعة، حسب وصفه، طوال الرحلة التي دامت نحو عشر ساعات، لتهديه إلى سلسلة قراءات رافقت رحلاته الجوية الكثيرة، ويقدّم في نهاية مقاله قائمة بالروايات والقصص المقترحة للتغلب على الخوف من الطيران، مستبعدًا المقالات والمسرحيات والقصائد، فهي غير فعالة في مثل هذه الحالة، حسب تجربته.

روبرتو بولانيو: المنفى هو مغادرة الطفولة

خاتمة هذه القراءة هو الشاعر والروائي التشيلي روبرتو بولانيو، الذي يقدم في شهادته أفكارًا عميقة حول المنفى. فالأدب، حسب مفهومه، "يحمل المنفى بداخله". ولا علاقة للمكان هنا بذلك، فعلاقة الأدب بالمنفى تبقى كطبيعة ملازمة للكاتب، بغضّ النظر عن البقعة التي يتواجد عليها أكانت وطنه أم خارجه. غير أن المنفى عمومًا هو حصيلة حقيقية مسلّم بها، وهي مغادرتنا الطفولة. من أفكاره الأخرى بهذا الصدد والتي لا يمكن إلا التوقف عندها قوله إنّ الكاتب يصبح ببساطة منفيًا عند خوضه في الأدب والقارئ كذلك، بمجرد فتح كتاب. على العموم لم تكن شهادة بولانيو عبارة عن أفكار مجردة، رغم أهمية هذه الأفكار وحيويتها بل تضمنت أيضًا سردًا لشيء من رحلة منفاه التي بدأت مبكرًا وقد كان في الخامسة عشرة من عمره حين غادر وطنه تشيلي إلى المكسيك، بحثًا عن الحرية والمستحيل كما مثلتهما له مدينة "مكسيكو سيتي"، وقتها. وقد عاد بعد خمس سنوات من ذلك ليكون رهن الاعتقال والتهديد بالموت طوال أشهر، إذ وقع انقلاب بينوشيه بعد أيام من وصوله هناك. بعد الإفراج عنه يغادر تشيلي إلى الأبد. وعلى الرغم من التعالي الذي يُبديه بولانيو على المكان بوصفه جغرافيا، وبالتالي الوطن وهو يخوض في أفكاره حول المنفى، إلا أن ذلك بدا كتعويض عن حقيقة خسرانه وطنه، سواء كان ذلك طوعًا أو كرهًا. فحقيقة مشاعره إزاء تشيلي تجسدها تلك الكلمات الحميمة التي قالها في منفاه الأول، المكسيك، وربما بقيت ملازمة له حتى رحيله: لم يُمح ظل وطني الأم البتة من قلبي، وفي أعماق قلبي الغبي استمرّ اليقين من أنّ قدري كان يقبع هناك.