Print
صقر أبو فخر

محمود الناطور: ماذا جرى في العام 1969؟

25 مايو 2018
قراءات

غداة اتفاق أوسلو الذي جرى توقيعه في عام 1993، وغداة تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية في عام 1944، تزاحم كثير من أصحاب الرتب العسكرية على المناصب السياسية والإدارية الجديدة التي أنشأتها البدايات الأولى لظهور الكيان الفلسطيني الجديد، والسير نحو بناء الدولة الفلسطينية المستقلة. وفي سياق هذه العملية استولى كثيرون على ألقاب لم تكن مألوفة في المرحلة السابقة، فصار هناك "معالي الوزير" و"جناب الوكيل" و"حضرة المدير"  و"سعادة السفير" ... الخ. غير أن اللواء محمود الناطور (أبو الطيب) قائد القوة 17 ورفيق الشهيد أبو حسن سلامة، آثر أن ينصرف عما يضر الناس إلى ما ينفع الناس، واستقر رأيه على تأسيس مركز للدراسات والأبحاث في عمان تكون غايته جمع الوثائق الفلسطينية وحمايتها من الاندثار، خصوصاً بعدما شهد الجميع ما حل بمركز الأبحاث ومركز التخطيط ومؤسسة السينما وأرشيف الإذاعة الفلسطينية في بيروت في أثناء حرب 1982. ولأن أبو الطيب كان يحتفظ بكثير من الوثائق والمعلومات، والأسرار أيضاً، فقد تمكن، بعد جهد حثيث شارك فيه فريق من الباحثين  والموثقين، من إصدار مجموعة من الكتب اللافتة مثل: زلزال بيروت- القاطع الثالث (1983)؛ معركة الكرامة (2009)؛ فتح البداية: التأسيس والانشقاقات (2013)؛ حركة فتح بين المقاومة والاغتيالات (جزآن، 2014). وكان له، فوق ذلك، إسهام واضح في إصدار كتابين آخرين لفؤاد معمر هما: "الشهيد ناجي العلي" (2012) و"قوات الـ 17 وقائدها: سيرة ومسيرة" (2014). وفي سنة 2018 أصدر كتاباً جديداً بعنوان "حركة فتح والإنجازات الثورية في العام 1969".

يحتوي هذا الكتاب عرضاً تفصيلياً للحركة السياسية الفلسطينية في ذلك العام التأسيسي، وهو العام الذي أعقب معركة الكرامة والانطلاقة الثانية. ويرصد الكتاب الهيكلية الجديدة لقوات العاصفة آنذاك، وتشكيلات القطاعات العسكرية: قطاع جنوب الأردن بقيادة خليل الوزير (أبو جهاد)، والقطاع الأوسط بقيادة ممدوح صيدم (أبو صبري)، وقطاع الشمال بقيادة وليد أحمد نمر (أبو علي إياد)، وقطاع الجولان بقيادة كمال الشيخ ثم علاء حسني، والقطاع الغربي بقيادة أبو جهاد. ويستفيض الكتاب في الكلام على أبو علي إياد "عمروش فلسطين" (عمروش هو المناضل الجزائري الأبرز في الثورة الجزائرية)، ويعرض لسيرته الشخصية والعسكرية حتى استشهاده في شمال الأردن، وبالتحديد في أحراج عجلون في سنة 1971.

المحتوى الأساس لهذا الكتاب هو تفصيل الوقائع العسكرية التي حدثت في سنة 1969 كالعدوان على السلط والعمليات المشهورة مثل مطار قلنديا والحمة وحائط البراق والحزام الأخضر وحراب الفتح والعرقوب؛ تلك العمليات التي حولت المقاومة الفلسطينية من مجموعات عسكرية مقاتلة إلى حركة تحرر وطني. وعلاوة على ذلك، وفي سياقٍ موازٍ، لم يقتصر الكتاب على الجوانب العسكرية والسياسية لتلك المرحلة، بل أفرد فصولاً إضافية للحركة الثقافية الفلسطينية الموازية وشعرائها التعبويين أمثال صلاح الدين الحسيني (أبو الصادق) وسعيد المزين (أبو هشام) وابراهيم صالح (أبو عرب)، ثم انعطف إلى الكلام على الصحافة الفلسطينية في تلك الحقبة، وعلى الأفلام السينمائية الأولى، والفنون التشكيلية أيضاً.

* * *

تحت أنقاض المخيمات الفلسطينية في لبنان طُمرت تذكارات فريدة عن حياة الفلسطينيين في المنافي، وفُقدت محفوظات المؤسسات العلمية والثقافية التي أسسها الفلسطينيون مثل مركز الأبحاث ومركز التخطيط ومؤسسة السينما ومركز التوثيق ومركز الآثار وأرشيف الإذاعة ووكالة وفا، وضاعت الملصقات والبيانات السياسية وجزء كبير من الصحف والمجلات والنشرات واللوحات التشكيلية التي كانت جزءاً من حياة الفلسطينيين في لبنان. وأسوأ ما ابتُلي به تاريخ الفلسطينيين المعاصر هو ضياع كثير من وثائقهم. ومن البدهي أن كتابة التاريخ لا تستقيم، علمياً، من غير معرفة الوقائع معرفة صحيحة، ولا معرفة علمية من دون الوثائق الصحيحة. وهذا الكتاب، علاوة على الكتب الأخرى التي دأب محمود الناطور على إصدارها، أو التي ساهم في إصدارها، إنما تحاول أن تقاوم عمليات المحو والاندثار، وأن تحفظ جزءاً من الذاكرة الوطنية الفلسطينية، وهو أمر لا بد منه لإعادة تكوين الهوية الوطنية الموشومة دائماً بالنار والاندثار.