Print
محمد العناز

"ياااااهذا تكلم لأراك":الإقامة في الجمالي للسعي نحو إدراك الحقيقة

23 مارس 2018
عروض

تتحكم في هذه القراءة مسوغات عديدة. أولها هو إمكانات التأويل وسيرورته من داخل متاح هذا العمل الشعري المخاتل والمربك في الوقت نفسه؛ وثانيها، ضرورة تجديد منطلقات القراءة وممكناتها عن طريق بناء منطقة الاحتمال نكاية في الموت، ورغبة في بناء معرفية شعرية يتأسس عليه الوعي الجمالي الشعري في هذا العمل سواء أفي علاقته بسلطة الذاكرة أم بقراءة التاريخ الجماعي من منظور خاص يعمد فيه إلى تهديم اليقينيات والسرديات الكبرى المؤسسة للخرافة، ينتقل الشاعر صلاح بوسريف إلى البحث عن الخلاص، وبعد إفشال الخلاص بما هو تصور جماعي، يؤسس الشاعر لخلاص فردي يقوم على الانغماس في المياه الصوفية، بما تحمله من احتمالات تتواءم وطبيعة الرؤيا الشعرية، على هذا النحو يعيد الشاعر قراءة المتن الصوفي ويعيد بناء رمزية الأمكنة عبر تقنية التصادي وتفعيل خطابه بوساطة احتمالية العبارة، والتراوح ما بين الروحاني والمادي، والانتقال من الصوت الفردي إلى الصوت المركب.

يسعى الشاعر صلاح بوسريف إلى تشييد حوارية بينه وبين الآخر محددا طرفي الوجود الآخر بوصفه معادلا للعالم والأنا تعمد إلى الإفصاح عنه بوساطة الرؤيا". تتجاوز "يا هذا" صيغة النداء مع ما تتسم به من تمظهرات للتجريب على مستوى الألف الممتد بالزيادة، والرؤيا التي لا تتصل بطاقات الحواس فقط، بل تتحول إلى حد يحيل إلى اللوغوس مما يتيح تحقق الشرط الأنطلوجي بوصفه معبراً أساس بين الذات والآخر كأفق لتشكل الوجود؛ أي الكشف عن الدازاين بمرجعية مارتن هادغر في "الوجود والزمن". غير أن هذا العنوان لا يتصل بهذا الفهم وحسب، بل يمكن عده عتبة تحيل إلى ماهية القول الشعري؛ فالعمل الشعري يبنى وفق خاصيات الكل المتجانس والمتشاكل مع الرؤيا الشعرية ذات النفس الملحمي بطاقاتها الجمالية التي تقيم في تجربة الحدود بين ما هو شعري وسردي إلى درجة تتحول مع عوالم العمل الشعري النهري منطوقا للذات الإنسانية عبر فلسفة التصادي بين الأصوات ونحت الصوت الخاص بينها، وليس ذات الشاعر وحده، وهنا ينتقل الشاعر من منشد بالمعنى الهيدغيري إلى مفكر يتخذ من النص الشعري أداة لبلورة تفكير في تاريخ الإنسان وتشكله.

يتغيا هذا العمل الكشف عن حضور الإنسان في علاقته بعنصر الزمن بوصفه وعيا شعريا دقيقا قلّما نجده في تجارب شعرية عديدة تتأطر في خانة مؤجل "الشعر"، وبموجب هذا الفهم، ينتقل الشاعر من صفته الدالة عليه منذ أنطولوجية المعلقات إلى صفة دالة بوجوده؛ أي إننا بصدد الشاعر المفكر والحكيم. لنتأمل هذه الأسطر الشعرية: " لَمْ أَسْتَعِنْ بِكَ/ فَلَا تَسْتَعِنْ بِي/ السَّالِكُ، مَا إِنْ يَبْلُغ عَتَبَةَ البيتِ/ حَتَّى يَتَجَرَّدَ مِنْ نَفْسِهِ،/ وَيَغْتَسِلَ مِنَ الأَغْيَارِ" (ص164)؛ فالشاعر يقيم بين بين حدين: حد الأصوات المخاتلة التي تتردد في كهف ذاته، وحد صوته الذي يسمع بصيغة منتهى الأصوات الأخرى المتخيلة التي تحضر بوصفها أصواتا تربك الداخل وتتصادى معه لتتمظهر في تمثيلات خارجية عن طريق لغة صوفية تتجاوز فيها اللفظة نفسها نحو دلالات لا نهائية من التأويل؛ ومن ثمة، تصير تجربة الحدود داخل الأنا وحدها من تبني ذاتيها في التوسطات الرمزية بين الرؤيا الصوفية والرؤية البصرية بوساطة آليات الكتابة الشعرية التي تنزع نزوعا خاصا في هذا العمل الشعري بناء وتخييلا وتصورا. يشير الشاعر في مقطع معنون بـ"اِعْرِفْ نَفْسَكَ..": "- مَا أَحْوَجَ نَفْسِي إِلَى نَفْسِي/ فَمَا عَرَفْتُ نَفْسِي/ وَلاَ/ نَفْسِي/ دَلَّتْنِي عَلَى نَفْسِي/ حَيْرَتِي فِي جَلْوَتِي،/ فَلاَ/ أَنَا/ تَرَكْتُ دُنْيَايَ، وَلاَ/ أَنَا/ دَخَلْتُ فِي آخِرَتِي" (ص: 124). لذلك، تكشف أشكال التعبير عند صلاح بوسريف عن تنوع في مفاهيم النظر إلى الذات والعالم، وبخاصة الانفتاح على العوالم الصوفية ومعالمها بوصفها إمكانية استثنائية لتحقيق أمرين، أولها، يرتبط بالكشف عن قوة الموروث الصوفي في بعده الفكري والجمالي، وثانيها، تتصل بقدرة اللغة وهي تنفتح على المرجعية الصوفية في تشكيل ممكنات دلالية تنفلت من سلطة التداول لصالح طاقة تأويلية رحبة؛ وهذا لا يتأتى إلا بتوظيف واع للرمز الصوفي والحدس يمَكِّن الشاعر من إعادة اكتناه الذات والعالم ومعه الحياة. وبموجب هذا الفهم، تتحول القصيدة إلى شيفرة لغوية تحتاج لسنن جديدة من أجل تشكيل سياقات تشكل المعنى.

ومن ثم، يمتح العمل الشعري البوسريفي من قوة الرحلة ورمزيتها في علاقتها بمفهوم الكتابة انطلاقا من تصور تأويلي صرف يتصل بالإقامة داخل اللامفكر فيه وتجربة العبور التي عاشها الشاعر ما بين المحمدية والأناضول حيث يرقد عديد من المتصوفة الذين ذاع صيتهم في أرجاء المعمور؛ إن السفر بما هو غياب ذهني وروحي يذكرنا بما ورد عند ابن خلدون في مقدمته بقوله إن الصوفي قد يغيب في لحظات معينه عن شعوره بذاته، فيحس بأن العالم الخارجي لا حقيقة له بالقياس إلى الله. ولهذا، نلفي أن الشاعر صلاح بوسريف في سفره الصوفي هذا، كان برفقة الحلاج وابن عربي وشعراء الفرس: جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار. وكان الشاعر صلاح بوسريف ينصت لهؤلاء في سفره وكأن مولانا جلال الدين الرومي يقول له: "ليس لي سوى معبد واحد، مسجداً أو كنيسة أو بيت أصنام، ووجهك الكريم فيه غاية نعمتي.." (ديوان جلال الدين الرومي)، وفي الرحلة نفسها يقول ابن عربي :

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة         فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف             وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت           ركائبه فالدين ديني وإيماني"

يراهن الشاعر صلاح بوسريف عبر ثنايا هذا العمل الشعري على الأبعاد الإنسانية، وعلى قيم الحب والإخاء وكأنه كان ينصت لجلال الدين الرومي في قوله:

أيها المسلمون! ليت شعري ما التدبير؟ أنا لا أدري من أنا

فلا أنا نصراني ولا يهودي ولا زرادشتي ولا مسلم

ولا شرقي ولا غريي، ولا علوي ولا سفلي

ولا أنا من عناصر الطبيعة، ولا أنا من الفلك الدوار

ولا أنا  هندي ولا أنا صيني ولا بلغاري ولا من صقلية

ولا عراقي ولا من ارض خراسان

علامتي بلا علامة، مكاني بلا مكان

ولا أنا جسم ولا روح، فنفسي روح الأرواح

لما لفظت الإثنينية رأيت العالم واحداً

إني أرى واحداً وانشد واحداً واعلم واحداً واقرأ واحداً."

إن مكابدة السفر هي جزء من المكابدة الشعرية بوصفها طريقا يفضي نحو الحب الصوفي مما يعلل الوشائج القوية بين هذا العمل الشعري وتصاديه والمتخيل الصوفي لأعلام مثل السهروردي، وابن عربي، والحلاج وغيرهم؛ إذ عمد الشاعر إلى استدعاء أصواتهم لا من أجل تنويع جمالي، بل بهدف خلق وصال ذهني مع متخيلهم الإشراقي، وكأن الشاعر يحمل شعلتهم لتنير طريق المعنى؛ ذلك أن السفر الأنطلوجي لا يتحقق من دون لغة تحمل رمزيتها الخاصة في تفتيق قشرة المعنى ودفعها نحو مساحات لا نهائية من التأويل؛ لأن فتوحات الذات في العمل الشعري تسعى إلى الكشف عن تجليات الوجود وممكناته الذي يتحقق في منطقة الاحتمال بين الرؤيا والرؤية، وفي امتزاج الصوت بوصفه حاملا للذات وللعالم في تجاور مع إمكانات السفر في الما بين بين؛ ما بين المعيش والمقدس. أداته في ذلك التفكير في أسئلة الوجود عبر الشعر واختراقات سواء أكان ذلك على مستوى اللغة الساعية إلى الوصول إلى الباطن أم على مستوى مكابدات الغربة وما تحمله من إرباكات تهم أساس طبيعة الاختيار داخل السفر الذهني، أو المفردات التي يمكنها أن تتساوق والسياقات الشعرية. لذلك فالمرأة والخمرة والسّكر والعشق واللذة والحضرة الإلهية لا ترد بالمعنى الذي ورد لدى المتصوفة داخل هذا العمل الشعري، بل كجزء من رؤية شاملة تحمل في طياتها قلقا أنطلوجيا يتغيا إدراك الحقيقة.

إن الجلوس إلى موائد المتصوفة العرفانيين لم يكن الغرض منه الاحتفال بهم والتفنن ببريقهم، بقدر ما كان رغبة في بناء جسر يربط بين متخيلهم اللغوي، وممكنات المعنى الشعري بوصفها تجربة أنطلوجية تحاول أن تحقق التصوف كصفاء بلا كدر تماما كما فعل الشيخ الأكبر ابن عربي، وسلطان العاشقين عمر بن الفارض وغيرهم. وإذا كان هؤلاء قد لجأوا في التعبير عن أحوالهم إلى لغة ترميزية بغية الانصهار في بوثقة "وحدة الوجود" كما نجد ذلك عند ابن عربي وعند ابن سبعين، فإن الشاعر صلاح بوسريف لجأ إلى التعبير عن رؤياه انطلاقا من الحوارية المعلنة في العنوان ليس كعتبة بالمفهوم البارثي، ولكن بعدها ماهية دالة عليه بما تشكلت به ومن أجله.

راهن الشاعر عمله على توظيف الانزياح بقدرته على جعل الدلالة تقيم في احتمالية، وبخاصة على مستوى طرائق التركيب كما هو الأمر في " قطار عابر للماء"؛ إذ لا مكنه من جعلنا نتخيل مشهدية الرحلة في علاقتها بالصوت المركب ولا سيما مع صورة البيوت المعلقة في الفراغ، ومن التساؤل عن الماء الذي يحجب الماء، ومن التجوال في الطبيعة وتلمس مكوناتها. وارتباطا بهذا السفر في قطار بلا مكوناته لا نوافذ، ولا عربات، في سهوب الروم وبلاد الأناضول سيتمكن الشاعر من تحقيق العبور من العالم الخارجي على الذات، وترميم الخراب. كما زاوج الشاعر بين ضميري الذات الجماعية" نحن" وذاتية المتكلم بوصفها آلية لغوية تمكن الشاعر من العبور إلى الباطن حيث تنوجد الحقيقة في شكلها المكتمل؛ ولأن الحقيقة تتمظهر في التعددية واختلاف الأشكال كان اللجوء إلى التشكيل الشعري البصري المتنوع (الكاليغرافي) كأحد الممكنات الجمالية التي تتصل بأهوال السفر ورياح المسافات مما جعل العمل الشعري يتخذ أشكالا بصرية وجمالية متنوعة وكأنها مرآة للنفس كما ذهب إلى ذلك شمس التبريزي.

*ناقد مغربي