Print
حسام أبو حامد

متغيرات الصراع العثماني – الصفوي

26 ديسمبر 2018
قراءات
كانت منطقة شمال بلاد الشام ملتقى الطرق التجارية، لاسيما طريق الحرير، فنشأت علاقة جدلية بين اشتداد الصراع العثماني الصفوي على تلك المنطقة، وتطييف الصراع ومذهبته على شكل صراع سني – شيعي. وفي هذا السياق يمضي الباحث السوري محمد جمال باروت[1] في تفكيك الصراع السني - الشيعي باحثا في المتغيرات التي حكمت الصراع العثماني الصفوي وآثاره في شمال بلاد الشام،عموما، وفي الشيعية والجماعات الإسلامية غير السنية خصوصا، من حيث بقائها مهيمنة على شمال بلاد الشام، والمناطق الأناضولية المتاخمة له.

يركز البحث على تحليل نشوء البيئة المؤسسية القانونية الفقهية وتطورها، والمسؤولة عن إعادة انتاج عملية الأكثرية/ الأقلية الجماعاتية المذهبية أيديولوجيا، في ميدان العبادات والمعاملات، عبر تاريخ الصراع الطويل، في ضوء جدلية الدين والسياسة، في إيران الصفوية القاجارية، والدولة العثمانية.

يحاول البحث التاريخي الاجتماعي عند باروت أن يقدم، في سياق الدراسات العثمانية الأحدث لشمال بلاد الشام، معالجة جديدة على مستوى الفهم والبيانات التاريخية للوثائق العثمانية، التي ارتفعت وتائر الاطلاع عليها ودراستها باعتماد منهجيات اثبتت فعاليتها البحثية، تجمع بين التاريخ العام والإقليمي، وبين الماكروي والميكروي، مستثمرا تحليلات دراسات سابقة قدّمت نتائج وبيانات هامة على هذا الصعيد.

بدوره، يقدم باروت إضافات بحثية إلى تلك الدراسات التي أهملت المصادر العربية المنتجة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر خصوصا، كما يوسع من نطاقها حين أهملت تحليل آثار تطييف الصراع ومذهبته على منطقة شمال بلاد الشام، وأهميتها الاستراتيجية، بوصفها عقدة مرور طريق الحرير، ومحطة أساسية للطرق التجارية الكبرى، والتي ركزت على آثار التشيع والتسنن على الأناضول، بينما اكتفت بإشارات ثانوية إلى شمال بلاد الشام.

متغير مستقل أساس: الصراع السلطاني على طريق الحرير ومواردها

يذهب باروت إلى أن متغير الصراع  السلطاني على طريق الحرير، بوصفها تكثّف خط التجارة الآسيوية للوصول إلى المتوسط فأوروبا عبر الأراضي العثمانية، قد حكم سائر المتغيرات الأخرى في الصراع العثماني الصفوي الطويل المدى، والذي كان قائما بوضوح قبل نشوء السلطنة الصفوية، لكنه احتدم بشدة بعد نشوئها، وشكلت السيطرة على بلاد الشام محوره الأساسي باعتبارها منطقة استراتيجية كلّية لوصول طريق الحرير البرية إلى البحر المتوسط.

تمكن حسن بيك (السلطان أوزون حسن لاحقا) من حسم الصراع المستمر بين عشائر الآق قوينلو (السنية) والقرا قوينلو (الشيعية) التركمانية[2] للسيطرة على طريق الحرير (تبريز- ديار بكر) ومحمولاته من المنتجات الاسيوية الأخرى، وكذا الصراع الداخلي على سلطة الآق قوينلو في ديار بكر، ليقدم للسلطان المملوكي جقمق (1438-1453) مفاتيح المدينة تعبيرا عن طي صفحة العداء السابقة، لتعود الإمارة إلى السيادة المملوكية، وليبدأ معها فصل جديد في الصراع الآق قوينلي - القرا قوينلي بين تبريز وديار بكر من جهة، وبين الآق قوينلو والسلطان العثماني محمد الفاتح حول إمارة بني قرمان من جهة أخرى. ومنذ أن وصل الشيخ جنيد الأردبيلي (ت 1460م) إلى حلب قادما من أدربيل، بعد أن نفاه جهان شاه القرا قوينلو، سيغدو ذلك تحولا مفصليا تاريخيا في الصراع العثماني- الصفوي اللاحق.

يبين باروت أنه في النواحي الحضرية الشمالية، والشمالية الغربية لمدينة حلب (كلّس وإعزاز وجبل موسى)، ذات الثقل السكّاني من التركمان أشباه الرعاة، الباحثين عن الغزو والغنائم، وجد الشيخ جنيد بيئة إثنية أيديولوجية مواتية لإعادة بناء الدعوة الأردبيلية السنّية التقليدية في حركة أردبيلية جديدة، حملت اسم "القزلباشية" أو"الصفوية"، استندت في استيعابها الراديكالي على عقائد التدين الشعبي للعشائر التركمانية، التي تَمحور مَثلُهَا الأعلى حول الدمج بين الغازي (المجاهد)، والدرويش (العرفاني الصوفي) ذي المرجعية الشيعية، لتغدو الحركة في النصف الثاني من القرن الخامس مركز فضاء الحركات والاتجاهات الشيعية العرفانية الغالية، منذ تأسيس الشيخ جنيد الاندفاعات الكبرى في تاريخ الطريقة الصفوية (تمأسس تحولها مع ابنه الشيخ حيدر) لتنقسم الطرق والأخويات الجماعاتية بين الشيخ جنيد والسلطنة العثمانية. 

استغل حسن بيك السني الحنفي تحالفه البراغماتي مع الشيخ العلوي جنيد (الغالي) الطامح إلى السلطانية، بوصفه "نائبا للمهدي"، في السيطرة على الفضاء البشري التركماني الشيعي والسني، الممتد من تبريز ونواحيها حتى ديار بكر في أعالي الجزيرة الفراتية، بما يتطابق مع أحد أهم خطوط طريق الحرير. وبدعم الحركة الأردبيلية الجديدة تمكن أوزون حسن من القضاء على سلطة جهان شاه، وعائلة القرا قوينلو الشيعية الحاكمة بسرعة كبيرة، ناقلا عاصمته من ديار بكر الى تبريز، مسيطرا على طريق الحرير (تبريز- ديار بكر).

أما التاريخ الموضوعي الصراع التركماني الداخلي فيتمثل، حسب باروت، في السيطرة على طريق الحرير (تبريزـ ديار بكر) والتحكم في طريق ديار بكرـ بورصة، العاصمة الاقتصادية للسلطنة العثمانية، وأصبحت إمارة بني قرمان التابعة رسميا للمماليك، بعد سيطرة حسن بيك على سلطة الآق قوينلو، إمارة حاجزة بين العثمانيين والآق قوينلو، وموضوعا للصراع بين السلطنات الثلاث؛ الآق قوينلو والعثمانية والمملوكية.

استمر أوزون حسن بالتحالف مع الدعوة الأردبيلية ممثلة بالشيخ حيدر وارث قيادة الدعوة عن أبيه الشيخ جنيد (قبل أن يضطر حسن إلى تصفيته العام 1484م، خشية من تطلعاته السلطانية المغلفة بأيديولوجيا شيعية غالية وتعبوية "جهادية" وفق عقيدة "الغزو"). واعتمد حسن نوعا من الدمج بين السنية والشيعية، ودخل في صراع مباشر مع السلطان العثماني محمد الفاتح، الذي استولى على الإمارة القرمانية، متحالفا مع جمهورية البندقية بهدف حصر العثمانيين في منطقة البحر الأسود- مرمرة- إيجه – البحر المتوسط، في مقابل تحالف الفاتح مع الفلورنسيين.

أخيرا، سحقت مدافع الفاتح وبندقيته خيول أوزون، وأبادت قوته الرئيسية بعد معركة بابيرت 1483م، مما ارغم أوزون على الصلح، والانسحاب من تحالفه مع الغرب، والاعتراف بعثمانية طرابزون وقرمان. لكن بعد ثلاثة عقود، سينتقم القرمان بانضمامهم إلى المجموعة القيادية الأولى لحملة إسماعيل الصفوي في زحفها، وشكل قسم من القرمانيين قوام الجيش الصفوي اللاحق، وجهازه السياسي. أما مقتل الشيخ حيدر الأردبيلي فأدى إلى بروز التناقضات بين خلفاء أوزون حسن، وقادة القزلباشية المتحكمين في مفاصل سلطنته، والتي دب الصراع في بيتها الحاكم، مما سهل لإسماعيل بن حيدر بن جنيد (اسماعيل الصفوي) قطفها.

طرد الجهاز الصفوي الأردبيلي الجديد بقيادة الشاه إسماعيل الأول (حكم 1501-1524) خلفاء الدعوة السابقين الضعفاء من أمراء الآق قوينلو السنة رسميا من تبريز، منكلا بالآق قوينلو، ليقوم بتطييف سيطرته بتشييع مجاله البشري بالقوة حيثما أمكنه ذلك، فأرغم الأكثرية السنية في إيران على التشيع، وزرعت منذ تلك الحقبة فتاوى الصفويين التي تعتبر السنة "أنجاسا"، ورد السنة في مناطقهم بقتل كل من يشتبهون بتشيعه، سواء أكان قزلباشيا صفويا، أم لم يكن. وزرعت في تلك الحقبة فتاوى الطاجيك السنة باعتبار خراسان "دار حرب". سيطر الصفويون عل طريق الحرير البرية، واقترب الشاه من نهايتها في حلب وإنطالية، بعد سيطرته على ديار بكر.

التطييف: السنية في مواجهة الشيعية

مشددا على السنية في مواجهة الشيعية، اتخذ السلطان سليم الأول (حكم 1512 - 1520)، في إطار استراتيجية واضحة معدة مسبقا، قرارا بلجم التوسع الصفوي والقضاء على الدولة المملوكية. وكان عليه شرعنة قتال حاكم مسلم للزحف على الشاه إسماعيل، فاستند على فتويان صدرت الأولى باللغة التركية عن الشيخ حمزة سروغورز (ت 1512)، كان السلطان بايزيد الثاني (حكم 1481 - 1512) قد وظفها في صراعه ضد القزلباش، وسهّلت نفيهم إلى المورة، والثانية صدرت بالعربية، وهي فتوى ابن كمال باشا(1469-1534) بعنوان "رسالة في إكفار قزلباش". اشتملت الفتويان على تكفير القزلباش وردتهم، وأن قتالهم فرض عين على كل مسلم. وعلى عكس سياسة النفي ضد القزلباش، التي انتهجها السلطان بايزيد الثاني، اتبع السلطان سليم سياسة الإبادة.

وبحثا عن فتاوى تشرعن الحرب ضد دولة إسلامية تؤوي الخلافة، وتعتبر حامية الحرمين الشريفين والقدس، هي الدولة المملوكية، لجأ السلطان سليم إلى "شيخ الإسلام" زمبلي علي جمالي لاستصدار فتوى تتيح قتال من هم من أهل القبلة، بسبب مساعدتهم الملاحدة، أي الشيعة القزلباش، ليحصل على فتويان بهذا الصدد.

مثّل القرن الخامس عشر، وفق باروت، ومن زاوية التشديد على السنية في مواجهة الشيعية، تاريخ الصراع بين العثمانية والشيعية الغالية، التي أنشأت السلطنة العثمانية في سياقه منصب "شيخ الإسلام" مفتيا أكبرا، للاعتماد على قواه الفقهية الذاتية في الفتاوى، والاستغناء عن اللجوء إلى فتاوى الفقهاء المماليك في القاهرة، فارتفعت وتيرة تكوين المؤسسة الفقهية العثمانية منذ أربعينيات القرن الخامس عشر، وزيادة الاعتماد عليها، وصولا الى ذروة مأسسة التكوين في مرحلة السلطان سليمان القانوني (1520-1566).

كانت الحرب الفقهية التي شنها فقهاء "مشيخة الإسلام" العثمانية ضد القزلباشية والشيعية عموما، المنتشرة في حلب وشمال بلاد الشام، منذ العام 1510 تقريبا، تمهيدا أيديولوجيا لمحاولة السيطرة العثمانية على شمال بلاد الشام، التي تسببت في صراعات السلطنة مع المماليك طوال عهد بايزيد الثاني، ورافق تلك الحرب الفقهية التعبوية منذ العام 1510 حرب نبوءات[3] نشبت في مواجهتها حرب الرؤى العثمانية الصفوية، التي تستند مرجعيا، في الميتافيزيقا التاريخانية الإسلامية، إلى التاريخ بوصفه تجسيدا للقدر.

بعد معركة مرج دابق قرب حلب العام 1516 دخل السلطان سليم حلب دون مقاومة، واختار، ومن بعده من السلاطين العثمانيين، لقب "خادم الحرمين الشريفين"، بدلا من "حامي الحرمين" الذي حمله سلاطين المماليك، وتسلّم من اشراف مكة، الفزعين من الخطر البرتغالي، مفاتيح الكعبة[4]. بعد السيطرة على حلب، أصبحت اسواق الحرير الفارسي المفتوحة للأوروبيين في قبضة العثمانيين.

رغم امتلاك السلطان سليم سياسة شيعية، فإنه جمّد العمل بها بعد سيطرته على بلاد الشام، بموجب عهد الأمان، فتصرف مع شيعة الشام بوصفه إمبراطورا يستوعبهم، في مقابل الطاعة، ودفع الضرائب، لا سياسيا أيديولوجيا "سنوي" بحصر المعنى، ولم تعرف بلاد الشام، شمالا وجنوبا، الصورة الدموية للسلطان سليم الذي عرفته به الأناضول الشيعية. وعلى خلاف الشاه إسماعيل الذي فتك باليزيديين العام 1507 في كردستان، فإن السلطان سليم اعترف بدورهم تحت قيادة زعيمهم عز الدين في المناطق الكردية بحلب.

مأسسة السنّة "السنّية" والسنّة "الشيعية"

في إطار المنهج التاريخي الاجتماعي، يحاول باروت مقاربة سياقات المتغير التابع (الطائفي المذهبي)، وآثاره، وتحولات اشتغاله، وتطوراته المؤسسية، ومقاربة تلك التطورات بالمقابل الصفوي على مستوى بلاد الشام.

يبين أن السياسة العثمانية الشيعية الفعلية بدأت مع السلطان سليمان القانوني (1520-1566) لا مع والده سليم الأول. وارتبطت تلك السياسة بمأسسة المتغير التابع وتعزيز ديناميته المؤسسية الذاتية في المراقبة الاجتماعية، والضبط، والعقاب، والتنشئة الاجتماعية، محاولا اخضاع الفضاء المذهبي الإسلامي، المتنوع والمنقسم، لقانون شرعي مركزي في المعاملات والعبادات. وستزداد وتيرة هذه السياسة مع سعي الصفويين إلى السيطرة على المناطق ذات الخلفية القزلباشية والشيعية العلوية الغالية، وطموحات بعض الأمراء في الاستقلال عن العثمانيين.

ويذهب باروت أن النتاج الموضوعي للصراع العثماني الصفوي في القرن السادس عشر تمثّل خلال عهد السلطانين القانوني وطهماسب الأول (1524- 1576)، والتي ارتبطت بمرحلة تحويل الصفوية من الدعوة الى مؤسسية الدولة السلطانية، في مأسسة العلاقة بين الفقهاء والسلطة، على أساس معرفي أيديولوجي واحد من ناحية البنية.

كانت تلك الفترة، الطويلة نسبيا، هي فترة تأسيسية مؤسسية بالنسبة الى الدولة الصفوية تم فيها مأسسة المتغير التابع (الطائفي) بتكوين المؤسسة الفقهية الشيعية (الإمامية)، في مواجهة الغلو "القزلباشي" الصفوي الداخلي (الإمامي) إسيما، وتفويضها سياسات الشاه في المجال الاجتماعي- الديني، وكانت حقبة التأسيس التشريعي والقانوني الدائم للدولة العثمانية، إذا أعيد في الأخيرة بناء "مشيخة الإسلام" في مؤسسة فقهية مقننة، ومنظمة، حُددت قواعدها في مجال المعاملات والعبادات، وفق نظام عملي ستجري مركزته تدريجيا في ملتقى الأبحر[5]. تتولى تلك المؤسسة التنشئة الاجتماعية التي يعاد عبرها انتاج الثقافة الشرعية الشاملة للعبادات والمعاملات، وتُوجِد حلا لمشكلات الاجتماع، في ضوء قواعد نظامها القانوني الفقهي السنّي.

في مقابل إرساء المؤسسة الفقهية الحنفية العثمانية، سيشرع الصفويون منذ عهد الشاه إسماعيل في تكوين مؤسساتهم الفقهية الشيعية القائمة على السنّة "الشيعية" المقننة فقهيا، في مقابل العرفانية القزلباشية المتمركزة حول نور الدين الكركي وعلماء جبل عامل، وسط صراع بين علماء الشيعة، حول شرعية العلاقة مع السلطان في عصر الغيبة الكبرى، معبرا في ذلك عن مقتضيات الحاجة إلى الفقهاء في تنظيم التحول من الدعوة إلى الدولة. واستند إسماعيل الصفوي على كتاب قواعد الإسلام للحسن بن يوسف المظهر الحلّي (1250-1326)  ليتخذه أساسا لاعتماد الشيعية الإمامية مذهبا رسميا للسلطنة.

مع علماء جبل عامل، بدأ الشاه بإرساء السلطنة على أسس فقهية عملية، وتابع ابنه طهماسب، المزامن لعهد السلطان سليمان القانوني، سياسة أبيه بوتيرة متسارعة، بعد اخضاعه قبائل القزلباش، معتبرا الفقيه "نائبا للامام" ليميز خلافا لابيه بين السلطتين الدينية والزمنية وجعل السلطة السلطانية تابعة شرعيا لسلطة نائب الامام التي انتجها نور الدين الكركي (1466-1534) الذي شغل في عهد طهماسب منصب "صدر الصدور"، ولقبه الشاه بـ "خاتم المجتهدين" ومنحه سلطات مطلقة لإدارة العمل الحكومي في المجال الديني، فعمل الكركي على إرساء أسس تكييف التشيع القزلباشي العرفاني الغالي تدريجيا مع التشيع الإمامي "الشامي" التاريخي، ذي العقلية الفقهية.

كانت هذه السنّة "السنّية" العثمانية في مقابل السنّة "الشيعية" أو"الإمامية"، اللتان تشتركان بنيويا في قيامهما على مواجهة النزعات العرفانية (الغالية) الصفوية والعلوية أو القزلباشية، وتبنّت مراسم الشريعة الظاهرة بوساطة المؤسسة الفقهية "النظامية"، مع ارتباطهما وطيفيا بمأسسة العلاقة بين الفقيه والسلطان.

هذه المضاربة المحاكاتية بين الجانبين، حدثت من الصفويين بدرجة أساسية، انتهت هذه المزايدة إلى نفس الفضاء الابيستيمولوجي، شكلاها السني والشيعي ينتميان إلى الأشكال الأرثوذكسية "الصحيحة" للدين، إلا أن أساسها الموضوعي قائم في التعارض بين منطق الدولة ومنطق الدعوة صفويا، وبين المنطق القانوني الفقهي للدولة السلطانية العثمانية والمنطق العرفاني المتحلل من القوانين الشرعية للفرق القزلباشية أو العلوية عموما.

اتفاق أماسية: متغير وسيط جديد

ضبط اتفاق أماسية 1555م المتغير التابع (التطيفي) بمنطق المصالح المتبادلة بدل منطق الفتاوى، ووضع حدا لحروب ومعارك استمرت تسع سنوات[6].وبموجبه، اعترف السلطان العثماني بالشيعة (القزلباش) الصفويين مسلمين، وسمح لهم بالحج إلى مكة، بعد أن شيطنتهم فتاوى مشيخة الإسلام. وكانت من أبرز نتائجه على مستوى اشتغال المتغير المستقل وتحكمه بمجمل المتغيرات الأخرى، احتفاظ العثمانيين بتبريز، وكامل العراق العربي، ليصبح لهم موطئ قدم في مناطق إنتاج الحرير الإيراني، وتجارة المحيط الهندي، الأمر الذي هدّأ من وتيرة الصراع بين السلطتين حول طريق الحرير، وضعّف من حدته، ليتوسط متغير جديد بين المتغير المستقل (الصراع السلطاني على طريق الحرير ومواردها)، والمتغير التابع (تطييف هذا الصراع)، هو متغير "تعيين الحدود السياسية بين السلطتين" أو متغير "منطق الدولة الإقليمية"، الذي أضعف اشتغال المتغير التابع (التطييفي) في تأجيج الصراع، ليصبح محددا أساسيا من محددات تطور الصراع اللاحق، مكتسبا كما يبين باروت خصائص متغير مستقل.

بموت الشاه طهماسب العام 1576 دب صراع حاد بين الأمراء الصفويين على منصب الشاهنشاهية استغلته السلطنة العثمانية، المهزومة في معركة ليباتو البحرية 1571 مما اضطرها إلى الصلح مع أوروبا، للتوسع في أراضي الدولة الصفوية، وشرعنة حربها ما بين عامي 1576 و 1588م بفتوى "شيخ الإسلام" التي ركزت على "زندقة" الفرس، لكن عاملها المباشر ارتبط باشتغال المتغير المستقل (الصراع على طريق الحرير ومواردها)، حين هاجم إيرانيون قافلة حرية عثمانية، فسلبوها، وقتلوا وأسروا معظم تجارها، لتستهدف السلطنة العثمانية بحملتها تبريز أواخر 1577م، وتمكنت لاحقا من السيطرة عليها.

في تلك الفترة، حاول الشاه إسماعيل الثاني (1576- 1578) تنقية الشيعة الإمامية الصفوية من تقاليد السب والكراهية للسنة وتقريبها مما بات يعرف بـ "التسنن الإثنى عشري" السابق على الدولة الصفوية، الذي مهد للاعتراف الكامل بالتشيع الإمامي في إيران الصفوية، وذلك بهدف إيجاد حل للصراع الشيعي- القزلباشي، والشيعي- السني، في مملكته نفسها. لكن بعد أن اصطدمت محاولته إصباغ الصفة السنّية على سلطنته بالمؤسسة الفقهية الشيعية، تراجع عن خطواته، لينتهي الأمر بموته مسموما. لاحقا رسمت اتفاقية إسطنبول الأولى 1590م، بين السلطان العثماني مراد الثالث (حكم 1574-1595م) والشاه عباس الأول (استولى على الحكم 1588م)، عائدية مناطق غنجة وشيروان إلى العثمانيين، وقبول احترام إيران حرية المذاهب السنّية وتخليها عن سياسة سب الصحابة.

انقلب الشاه عباس على الاتفاق مستغلا تمرد الحركات الجلالية والانكشارية على السلطنة العثماني (حرب 1603ـ 1639)، ليطردهم من المناطق الأساسية المنتجة للحرير في أذربيجان وحاضرتها تبريز، التي شُيّعت بالقوة، وارتكب متعصبوها مجازر بحق العثمانيين طيلة عشرين عاما وصولا إلى إيروان. وبحلول 1607 كان الشاه قد سدّ جميع معابر التجارة العثمانية، ليصبح الخليج "بحيرة صفوية"، وسعى إلى إقناع الأوروبيين بتحويل تجارتهم إلى هرمز بدلا من حلب، مؤكدا شيعيته تجاه شيعة إيران، في خضم صراعه مع القزلباش، إحكاما لسيطرته على نطاقه البشري، بينما سعى للحصول على الموارد عبر سياسة تجارية براغماتية.

في العام 1638 تمكن السلطان مراد الرابع من السيطرة على بغداد، واستصدر فتوى من نوح افندي الحنفي ضد شيعة بغداد، فلم ترُضِ صيغة الأمان التي منحها السلطان المتعصبين من الطرفين، لتحدث مذبحة، ضمن مرحلة حرب الخمسة عشر عاما بين السلطنتين، والتي تزامنت مع حرب الثلاثين عاما (1618-1648) في وسط أوروبا. أما وجوه الشبه بين الحربين، كما يحددها باروت، فتمثلت في أن حربا سنية شيعية تقابل حربا كاثوليكية بروتستانتية، برزت فيهما أهمية الحدود التي بلورت مفهوم السيادة الإقليمية، حيث قابل تشكل الكنائس القومية في أوروبا تكريس سلطنتين ايديولوجيتين عقيديتين شاملتين بلور تطورهما المؤسساتي مؤسستين، عثمانية سنية، وصفوية شيعية، تُرَدّان من حيث الجوهر إلى سنّيتين: سنّية عثمانية، وسنّية إمامية، رغم انقسام المجال الفقهي الشيعي إلى إخباريين ومجتهدين أو أصوليين، وتَجمّد المجال الفقهي السنّي بفعل إغلاق باب الاجتهاد.

انتهت حرب الخمسة عشر عاما باتفاق زهاب (معاهدة قصر شيرين) التي رسّمت العام 1639 الحدود بين الدولتين، وفق مفهوم السيادة في مجال ترابي محدد. هنا، تحوّل المتغير الوسيط (نطاق الدولة)، الذي دخل في مجال جدل العلاقات بين المتغير المستقل والمتغيرات التابعة منذ اتفاقية أماسية 1555م، إلى متغير مستقل جديد، عمل إطار اشتغاله محرضا الطرفين الصفوي والعثماني على تطبيع العلاقات بينهما، بوصفهما دولتين اقليميتين، تستوحيان بعض محددات الدول الوستفالية (نسبة إلى اتفاق ويستفاليا)، لتنتعش علاقاتهما التجارية، ويستمر السلام بينهما حتى أواخر عهد الشاه حسين( 1694-1722).

تراجعت وتائر إصدار الفتاوى ضد الشيعية إبان السنوات العشر الأولى من حكم محمد الرابع (1648-1687)، لكن وتائر مأسسة المؤسسة الفقهية العثمانية، التي ظلت تعمل بقوة دينامياتها الذاتية، ارتفعت، ليتعزز دورها الأيديولوجي القانوني مع ترسيم السلطان محمد الرابع (ت 1693) "ملتقى الأبحر" مرجعا قانونيا رسميا لأول مرة في الدولة العثمانية، لتكتمل تقريبا المدونة

الفقهية الحنفية الرسمية للمؤسسة الفقهية العثمانية وتنغلق، لتتركز الجهود الفقهية اللاحقة على الشرح والإيضاح. وبعد أن كانت السلطتين العثمانية والصفوية تستحثان الفقه لشرعنة سياساتها، أصبح عنوان تاريخهما: "المحافظة الشديدة والركود".






انحطاط المتوسط: وفرص تسوية الصراع

توجهت تجارة أوروبا الغربية البحرية نحو الأميركيتين، وسواحل أفريقيا الغربية والشرقية، والهند، مما همّش العالم المتوسطي في التجارة العالمية، وأصبحت السلطنتين العثمانية والإيرانية دول هامشية منهكة بالنسبة للمركز الأوروبي الصاعد، ليحول بطرس الأكبر(1672- 1725)  الطريق البرية التجارية المارّة بالأراضي العثمانية، إلى بحر قزوين، بوصفه بداية الطريق نحو الهند، في إطار مشروعه السياسي التجاري الإمبراطوري.

مع "انحطاط المتوسط"، تحوّل متغير "نطاق الدولة" إلى متغير مستقل جديد قائم في ذاته في النصف الأول من القرن الثامن عشر، لا أثر جدي فيه لتجارة الحرير، فبرزت إمكانية تسوية الشكل المذهبي – الطائفي للصراع بين السلطتين، عبر مشروع تمثل في إعادة تعريف الشيعية الصفوية الإمامية بوصفها مذهبا جعفريا خامسا، مندرجا في منظومة المذاهب الفقهية الإسلامية السنّية الخمس المعترف بها من المؤسسة الفقهية العثمانية. وفي المفاوضات بين السلطنتين(1736-1746)، رهن نادر شاه الاعتراف بأي تقدم في المفاوضات بالاعتراف العثماني بالشيعة مذهبا فقهيا جعفريا إسلاميا خامسا.

في مقابل تقدم ملموس على مستوى قضايا "نطاق الدولة" أو المتغير المستقل الجديد، تعقّدت المفاوضات فيما يتعلق ببنود التسوية المذهبية- الدينية، إذ اصطدمت التسوية بقوة كل من المؤسستين الفقهيتين الصفوية الشيعية، والعثمانية السنّية، ليستمر المتغير الأيديولوجي التطييفي التابع، الذي اكتسب ديناميات ذاتية مؤسسية سابقة خلال سنوات الصراع الطويل، بالاشتغال والتأثير، مما تسبب في احباط مشروع التسوية التاريخية المذهبية السنية- الشيعية، بين المركزين السلطانيين للعالمين الإسلامي الإيراني، والعثماني، بين عامي 1736 و1748م.

يخلص باروت أن هم نتائج الصراع العثماني الصفوي على مستوى التركيبة الجماعاتية الصفوية، والعثمانية، تمثلت في تشييع السلطنة الصفوية رعاياها السنّة، الذين شكلوا أكثريتها البشرية، وفي تسنين السلطنة العثمانية الأغلبية الشيعية في بلاد الشام، حيث اشتعلت طوال سنوات الصراع دينامية تحويل الحرب "الخارجية" إلى حرب "داخلية" طردا مع الصراع على طريق الحرير البرية، إلى أن برزت متغيرات وسيطة مع بروز "منطق الدولة" في النظام العالمي، وهو ما عبر عنه بروز اشتغال المتغير الوسيط ممثلا في "نطاق الدولة" مع انحطاط المتوسط، لتصبح قضايا "متغير الدولة" المشفوعة بقضايا التطييف القسري والهيجيموني معا، هي الأساس.

توارت الاطماع الإيرانية والعثمانية بأراضي الطرف الاخر بعد أن فقدت منطقة شمال بلاد الشام أهميتها التجارية، بالنسبة إلى طريق الحرير البرية، وآخر من عبر عن تواري الأطماع الإيرانية كان نادر شاه. كان بالإمكان حل مسائل نطاق الدولة بينما برزت المشكلات في تذليل الطابع الأيديولوجي المذهبي التطييفي للصراع، فتحولت النتيجة إلى سبب أو تحول المتغير التابع إلى نوع من متغير مستقل، برز عمله وتأثيره في سنوات مشروع التسوية التاريخية الإيرانية العثمانية المهدورة زمن نادر شاه، إذ غدا المتغير المذهبي الديني عصيا على التسوية، لا بسبب التناقض المزعوم بين المذهب الفقهي الجعفري، والمذاهب الفقهية السنية الخمس، بل التناقض بين المؤسستين الفقهيتين –السياسيتين، فلم يعد المتغير المذهبي ـ الطائفي مجرد متغير تابع، بل صار متغيرا مستقلا داخليا، وعنصرا تكوينيا في التنشئة الاجتماعية.

الحضيض: الكائن الديني المزعوم

يقرأ باروت سيرورة تحويل "الأكثرية" الجماعاتية إلى أقلية في المجال البشري، لكل من السلطنتين في خلال الصراع الطويل المدى بينهما، بوصفها جزء من ظاهرة أشمل  في التاريخ العالمي للأزمنة الحديثة، التي شهدت فيه أوروبا حرب المائة عام، ثم حرب الثلاثين عاما، وتحولت فيه الأكثريات الجماعاتية في الدول الأوروبية الناشئة حديثا إلى "أقليات"، فكان تحويل الأكثرية الشيعية في شمال بلاد الشام، والأناضول، والجزيرة الفراتية العليا، إلى أقلية ما يضارعه في المجال البشري لتلك الدول، لكن تطور المدنية السياسية الحديثة للاجتماع الغربي حوّل تلك الدول قانونيا إلى دول لجميع مواطنيها، بينما خرجت السلطنتين العثمانية والصفوية من التاريخ الذي تطورت فيه أوروبا الغربية، وهُمّشتا في النظام التجاري العالمي الحديث، الذي احكمت الممالك الأوروبية السيطرة عليه، ليجري تلمس الاصطلاحات والسير فيها بوتيرة بطيئة، وسط مقاومة شديدة لها، حتى مرحلة التنظيمات العثمانية في القرن التاسع عشر، بضغط من الدول الأوروبية، لتشهد السلطنة أضخم عملية تحديث في تاريخها، امتد تأثيرها إلى الدول الإقليمية التي نشأت عن انهيارها في المشرق، بعد الحرب العالمية الأولى.

يؤكد باروت أنه لازالت الصراعات الجماعاتية الهوياتية المعاصرة في المشرق العربي تصاغ ويعاد تخيلها، وإنتاجها، بمصطلحات استمرارية الصراع المُتخيّلة بين العثمانيين والصفويين، ولازال الهوس الهوياتي الطائفي بالصراع السني- الشيعي يعيد تخيّل الصراعات الراهنة طائفيا بوساطة استعادة فتاوى تكفيرية، لم تكن إلا تسويغا للصراع، تحولت إلى فتاوى مطلقة فوق تاريخها الخاص الذي أنتجها، يستمر اشتغالها اليوم لتختزل الإنسان العربي المنتمي إلى السنّية أو الشيعية إلى كائن ديني مزعوم.

إننا، كما يضيف باروت، إزاء طوائف متخيّلة، بلغة عزمي بشارة، التي يتم إنتاجها، وتنوس بين انتمائها إلى زمنها الحاضر سوسيولوجيا، وبين انتماء وعيها بهويتها إلى زمنها المتخيّل، الذي تستمد منه انتقائيا عناصر تاريخها الطائفي وأساطيره، فتعيد تعريف ذاتها في رحى الطائفية المعاصرة.

 

 

 



[1] محمد جمال باروت، الصراع العثماني ـ الصفوي وآثاره في الشيعية في شمال بلاد الشام (بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)

[2] في هذا الصراع؛ برز جهان شاه زعيم القرا قوينلو، على نحو خاص، بنزعته الشيعية المتطرفة، ليوصف أحيانا بأنه مثّل سلفا للتشيع الفارسي، وأن دولته مثّلت السلف الحقيقي للصفويين. أما أوزون حسن، زعيم القرا قوينلو، فتبنى السنّية براغماتيا، وكانت أقرب إلى نوع ما كان يدعى في تاريخ التشيع الإيراني بـ "الفكر السني الإثنى عشري"

[3] مثلا، فيما بدا ردا على فتوى الشيخ سروغورز، ما أن نصّب إسماعيل نفسه شاها، اعتبره أنصاره تصديقا للنبوءات الأردبيلية الصفوية التي تترقب ظهور المهدي المنتظر، بظهور "شاه اسماعيل الصفوي".

[4] رغم أن السلطان سليم الأول لم يحج قط كما يبين باروت.

[5] أراد القانوني أن يفرض إسلاما فقهيا بدل الديانات الشعبية لتعزيز شرعية السلالة العثمانية الحاكمة لكن الطرق الصوفية الثيوعرفانية الباطنية المتجذرة في الروح الدينية الشعبية للتركمان، لم تتكيف مع المنطق التنظيماتي للدولة الذي عمل عليه القانوني، أما الولاء للصفوين فجعل منها دوما خزان حركات تمرد وعصيان، دفع ذلك السلطان إلى ضربها، وفرض الشريعة على المذهب الحنفي على العامة، باعتباره مذهبا مرجعيا وحيدا، واعتمد ملتقى الأبحر في فروع الحنفية للامام ابراهيم الحلبي (ت 1549) مرجعا للقضاء، وقانونا مدنيا للدولة، إلى جانب القانون السلطاني "قانون نامة"، الذي يضعه السلطان، محددا العقوبات التي يمكن أن يتخذها القاضي، والذي فرض غرامات مالية بديلا لتفيذ الحدود الشرعية.

[6] يراعي باروت أن أماسية تزامن مع اتفاق أوبسبورغ في العام نفسه، بين الأمراء الألمان. اعترف هذا الاتفاق الأوروبي بالحرية الدينية للدول (وليس للأفراد المواطنين)،على قاعدة "الناس على دين ملوكهم"، ليحق بموجبه للملوك والأمراء فرض مذهبهم على رعاياهم ممن ينتمون إلى المذاهب الأخرى.