Print
محمد م. الأرناؤوط

صورة الحكومة العربية 1918-1920 في الرواية:"كيف تقول وداعاً" نموذجاً

19 ديسمبر 2018
عروض
عشية الاحتفال بالذكرى المئوية لإعلان الأمير فيصل "الحكومة العربية" في دمشق في 5/10/1918 صدرت رواية محاسن مطر شبارو "كيف تقول وداعا" (بيروت، الدار العربية للعلوم 2017)، التي استندت إلى خلفية غنية من الأحداث المهمة في نهايات الدولة العثمانية وما آلت إليه بلاد الشام بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.

الاسم المركب للروائية (مطر شبارو) يمثل نتاج تاريخ عائلتين تعكسان حالة الدولة العثمانية وتنقّل الأفراد والجماعات من البلقان إلى بلاد الشام عبر الأناضول وبالعكس، وحتى إلى بلاد اليمن وأفغانستان، سواء بسبب الأحول السياسية أو بسبب التعيينات في الوظائف والنفي من مكان إلى آخر كنوع من العقاب الذي كان شائعا.

وفي موازاة هذا التاريخ للأحداث الممتد من 1860 في سالونيك إلى 1938 في دمشق (وحتى إلى 1978) لدينا مسار آخر مهم يتمثل في التاريخ الاجتماعي والثقافي، وبالتحديد في التعرف على تفاصيل المحيط الاجتماعي في كل بيئة تجري فيها الأحداث بما في ذلك من عادات وتقاليد ونظرة الوافد إلى ما هو موجود والمستجدات الثقافية بما في ذلك "التنظيمات العثمانية" التي حملت نفسا جديدا من الغرب تمثل أفكار المساواة وتعليم البنات وظهور المجلات والمسارح ودور السينما إلخ.

هذه الخلفية التاريخية المتنوعة والبيئة الثقافية التقليدية والمتجددة أفادت الروائية مطر شبارو في تتبع مسار عائلتها المشوق، وبالتحديد جدتها نعيمة التي ولدت في سالونيك حوالي العام 1860 وانتقلت إلى استانبول حيث تزوجت وأنجبت حكمت، بطلة الرواية، التي فرضت عليها الظروف الانتقال ما بين استانبول ودمشق إلى أن توفيت في دمشق في 1938. في دمشق قبيل وفاتها أنجبت ابنتها قدرية، التي سميت كذلك لأنها ولدت في ليلة القدر التي كان لها شأنها في الثقافة الشعبية، جدة الروائية التي تختزل الأحداث عنها بلقطة معبرة في 1978 حين ذهبت ابنتها ملك (والدة الروائية) لزيارة قبر والدتها حكمت لتكتشف أن القبر قد سُرق وبيع من قبل حارس المقبرة، وهي الظاهرة التي تضخمت في السنوات الأخيرة بسبب ارتفاع أثمان القبور إلى الملايين، لتواجه الواقع المرّ بكونها غدت دون أم.

ما بين المسارين التاريخي والاجتماعي/ الثقافي، تمثل الرواية حكاية الحفيدة التي اختزنت التراث المحكي في العائلة واعتمدت على قراءات واسعة لتتبع مصائر الأفراد والجماعات التي ينتمي إليها هؤلاء الأفراد عبر ثلاثة أجيال على الأقل (نعيمة وحكمت وقدرية) وذلك في بيئات اجتماعية وثقافية مختلفة كانت تتقارب وتتباعد أحيانا بحكم امتدادها في الخريطة الواسعة للدولة العثمانية قبل انهيارها وتمخضها عن كيانات عديدة.

من الأحداث المهمة في الرواية، التي تركت أثرا لا يمحى على الأفراد والجماعات سواء في بلاد الشام أو في الأناضول، نشوب الحرب العالمية الأولى وما ارتبط بها من شحّ المواد الغذائية وحتى الخبز وصولا إلى مجاعات في بعض المناطق. وفي هذا السياق، تبرز في الرواية أيضا مشاهد شنق القافلة الأولى من العروبيين في دمشق وبيروت خلال أيار/ مايو 1916، ثم توارد الأخبار عن الرصاصة التي أطلقها الشريف حسين بن علي على الثكنة العثمانية في مكة لإعلان "الثورة العربية" بمساعدة بريطانيا التي تتوجت بوصول الأمير فيصل إلى دمشق وإعلانه عن تأسيس "الحكومة العربية" في 5/10/1918.

 في تلك الأيام بالذات عادت حكمت من استانبول إلى دمشق حيث شعرت بأنها "تدخل مدينة لا تعرفها، فالجنود الانكليز متواجدون بكثرة في شارع جمال باشا ومعهم عساكر هنود بلفات حول رأسهم، كانت الأعلام التركية قد اختفت وارتفعت بدلا عنها أعلام جديدة لا تعرفها" (أعلام الحكومة الجديدة). وعندما تساءلت في وسط العائلة عن وجود الانكليز "هل أنتم راضون عن وجودهم بعد أن أخرجتم العثمانيين من الشام؟"، كان الجواب يعبّر عن عدم الرضى والاستياء وحتى عن الشكوك بتنفيذ بريطانيا لوعودها للشريف حسين.

ولكن مع ثبوت هذه الشكوك تحرص الروائية مطر شبارو على إبراز لقاء الأمير فيصل مع وجوه البلاد في النادي العربي بدمشق في يوم 6/8/1920 حيث تحدث "عن حق العرب بالاستقلال وطلب من المؤتمرين وضع دستور للبلاد"، وانتهى الاجتماع الذي دام يومين بإعلان القرار "على استقلال سورية الطبيعية بما فيها فلسطين" و"تقديم العرش للأمير فيصل على أن تُعلن البيعة يوم الثامن من آذار". وهنا تنتقل الرواية من السرد التاريخي إلى السرد الروائي لتصف اندفاع الناس إلى ساحة المرجة لرؤية البيعة للملك فيصل، بما في ذلك ذهاب جدتها قدرية مع بنات الحارة، وتترك لقدرية أن تصف المشهد: "يومها ذهبتُ أنا وبنات القصاب حسن لمشاهدة الملك فيصل. كان يضع كوفية وعقالا أسود على رأسه، وعباءة سوداء مطرزة بالقصب، وكان يقف على درج البلدية المؤلف من ست درجات رخامية".

في تلك الأيام كان زوج حكمت خليل الدمشقي يعتدّ بالوضع الجديد قائلا "نحن الآن نعيش في مملكة حرة مستقلة والبلاد تسير نحو الأحسن"، ولم يكن خليل لوحده من يعتقد ذلك في الرواية، بل إن الملك فيصل نفسه يظهر كذلك لأنه "كان قد صدّق أن الانكليز والفرنسيين قد ساعدوه بإخراج العثمانيين من بلاده لتكون بلادا حرة مستقلة". ومع "إصرار القوى الوطنية في دمشق على استقلال سوريا الطبيعية ورفض أي تدخل أجنبيي" اتخذت فرنسا قرارها بإعداد حملة عسكرية بقيادة الجنرال غورو "لبسط حكمها على سوريا مهما كلف الأمر".

 وفي هذه الأحوال تعكس الرواية هياج الناس في دمشق ومسارعتهم لحمل أي سلاح لمواجهة الجيش الفرنسي الذي كان يقترب من دمشق، وحرص وزير الحربية يوسف العظمة على توديع زوجته وابنته قبل أن يتوجه إلى ميسلون وهو عارف بنتيجة المعركة قائلا: "سأذهب إلى ملاقاتهم حتى لا يذكر التاريخ أن دمشق دخلها محتل ولم تقف في وجهه".

رواية محاسن مطر ليست أول رواية ولا آخر رواية في بلاد الشام تستعرض في السياق الروائي تجربة الحكومة العربية في بلاد الشام 1918-1920، ولكنها جاءت الآن عشية الاستعداد للاحتفال بالمئوية لتوفر مقاربة روائية تستحق أن تذكر مع غيرها في دراسة للمؤتمر الكبير الذي سيعقده المركز العربي للأبحاث في بيروت خلال ربيع 2019 عن مئوية الحكومة العربية في دمشق.

ولكن لا بد من القول هنا إن رواية مطر شبارو كأية رواية ليست مصدرا للتاريخ بطبيعة الحال، بل تستند إلى أرضية تاريخية لتتبع مصائر أبطالها. ولذلك يحدث أن تنقل رواية عن حدث تاريخي لا ينسجم بالضرورة مع المصادر التاريخية المعروفة لدينا. ومن ذلك ما ورد على لسان أحد الأشخاص عن قيام لورنس "بتخريب سكة القطار أثناء مسيره إلى دمشق، ثم استقبل الأمير فيصل الذي جاء بسيارة إلى الشام"، في حين أن المصادر توضح أن الأمير فيصل استقل القطار من درعا ونزل في آخر محطة (محطة القدم)، ومنها سار في موكب إلى قلب دمشق، أي أن سكة القطار من درعا إلى دمشق بقيت سليمة حتى نهاية الحرب.