Print
جمال شحيّد

في "سبايا سنجار" لسليم بركات؛ خيال الرعب، واقعه أيضًا

6 يونيو 2017
عروض
يتقاطع الفن التشكيلي والفن الروائي في لوحة يمكن أن نسميها بـ"لوحة سبايا سنجار". ولتقريب هذا التقاطع عَنْونَ سليم بركات فصول روايته العشرة بأسماء لوحات معروفة في تاريخ الفن الأوروبي الحديث، وهي لوحة "الكابوس" لهنري فوسيلي، ولوحة "التنين الأحمر العظيم ووحش البحر" لوليام بليك، ولوحة "عقاب مارسياس" لتيسيانو، ولوحة "دانتي وفيرجيل في الجحيم" لوليام أدولف بوغورو، ولوحة "موت مارا" لادوار مونش، ولوحة "حديقة الملذات الأرضية" لإيرونيموس بوش، ولوحة "إغواء القديس أنطونيوس" لمتيّاس غرونفالد، ولوحة "جوديت تقطع رأس هولوفيرنز" لكارافاجيو، ولوحة "زحل يلتهم ابنه" لفرانشيسكو غويا، ولوحة "طوّافة قنديل البحر" لتيودور جيريكو. واللوحات العشر المذكورة هي لوحات ترسم العنف بأفظع حالاته وتتصادى مع متن الرواية، لا سيما أن بطلها (المتكلم بصيغة الأنا) هو فنان تشكيلي قد تتماهى شخصيته مع شخصية الكاتب.

ولمساعدة القارئ على متابعة الأحداث، يصدّر سليم بركات روايته [الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2016] بتعريف شخصيات الرواية وإعطاء لمحة عن معالمها. هناك خمس فتيات إيزيديات سبينَ وقُتلن، وخمسة أعضاء من داعش قتلهم التنظيم نفسه. وبعد الموت تسافر البرزخيات ويسافر البرزخيون إلى السويد لمقابلة الفنان سارات (سليم بركات على الأرجح) على أمل أن يخلّد ذكرهن وذكرهم في إحدى لوحاته. وسارات الكردي هو رسام سوري هاجر إلى السويد وسكن في منزل ريفي قرب بحيرة أودون الواقعة قرب ستوكهولم، ولكنه يرجئ الاستجابة لطلب السبايا والدواعش. ولا يغفل الروائي عن تحديد قرية السنجاريات، وهي "خانة صُور"، وعن ذكر "وادي لالش"، وهو مكان في كردستان بني فيه مرقد الشيخ عادي بن مسافر (شيخ الإيزيديين)، من دون أن ينسى "مصحف رَش"، وهو كتابهم المقدّس.

لقد سبق لسارات أن رسم عدة لوحات قاسية في عنفها عن الوضع في سورية: "أجساد ممزقة، شوارع ممزقة، أبنية ممزقة، حدائق ممزقة، قوافل بشر ممزقين بصرر على الأكتاف، منتهكين، يائسين". ولكنه لم يكن راضياً عن هذه اللوحات التي باعها مع ذلك. وأراد ذات يوم أن يرسم لوحة عن "سبي بابل" التوراتي الذي يذكّر بمهجّري بلدان المشرق، ولكنه أجّل رسمها.

وبينما كان يتنزّه في الغابة القريبة من بيته، إذا به يلتقي بفتاة تغطي رأسها بخمار أحمر: "أنا الميتة شاهيكا، وعمري 17 سنة". وسألته الفتاة: أليست هذه البحيرة هي بحيرة لالش؟ فصحح قائلاً لها: أنت في السويد أمام بحيرة أودن. فأردفت: "ألن ترسمني... ألن تبدأ لوحتك سبايا سنجار؟"، وتصور سارات عندئذ ديار الإيزيديين في جبل سنجار مع وادي لالش الذي "هيأه الله للشيخ عادي بن مسافر". وأضاف: "في آخر الألف السنين، بعد الطوفان، نزل طاووس مَلَك إلى الأرض. هبط في وادي لالش. ثبّت ولاية الأولياء، وإمامة الأئمة. نظّم الشرائع. رتّب الأمكنة تبويباً على مراتب قدسيتها التي لن تُنسَخ، أو تعطّل". ويُقسِم الإيزيديون بجبل سنجار الذي حطت عليه سفينة نوح، كما يقولون. و"طاووس ملك هو العمدة القطب، القَيْلُ في مراتب الملائكة الكروبين اليازات، دهاقنة السماء".

وتشرح شاهيكا لسارات كيف قُتلت، بعد أن هاجم الدواعش سنجار ونصبوا أعلامهم السوداء فوق مزارات المراقد الإيزيدية، وسبوا الإناث. يقول النص: "جرى تبويب السبايا على حروف الهجاء في الملذات، أي مقادير الأعمار، والأبكار، ولون الشعر والعيون، وكثافة اللحم وعجافته، ثم الحسن حاصلاً من ضرب أرقام اللهفة، في أجساد أبناء الخلافة، ضرباً حسابياً: كلما رغبت قلوب المحققين – ذوي اللحى المكرّمة عصفاً من الشعر على صدورهم – غلمةً في استعراض السبايا لتقدير أثمانهن هتفوا: 'زهق الباطل' . وأنشئ في بيت مال الخلافة فرع سمّي فرع السبي، وبيعت الإيزيديات في أسواق الأقاليم المطوقة بعمامة الخليفة". وفتحت أسواق سبايا الخلافة، لا سيما في مدينة الرقة، عاصمة السبي في سورية. وبيعت شاهيكا بـ400 دولار. ولمّا استعرت المجابهات بين جند الخلافة وعدد من الفصائل المناوئة لها، انسحب الدواعش، فهربت شاهيكا ولكن لغماً أرضياً انفجر تحت قدمها فتناثرت أشلاؤها: "هربتُ من أجناد الحوريات في الحسكة [الدواعش] فأوصلني لغم إلى بحيرة لالش". ويعلّق سارات على تداعيات السبي، يقول: "شعوب سبت شعوباً. شعوب سبت عمران شعوب؛ سبت الآثارَ النقوشَ، والرسومَ، والتماثيلَ، والأعمدة... شعوب سبت طُرز ثياب شعوب، وأساطيرها الشمسية والقمرية، وأقاصيصها في خرافات النشأة والخلق. شعوب سبت زينة نساء شعوب، ومهاراتهن في التبرج بالأصباغ، وترويض الوشوم. شعوب سبت أسرار شعوب في طبها وطهوها وتراكيب السموم والترياقات. شعوب سبت أديان شعوب فانتحلتها... شعوب سبت آلهة شعوب فغيرت أسماءها وطبائعها وأنسابها وغضبها ورضاها ووعيدها ووعودها ومقاييس فراديسها". وتذكّره هذه التداعيات بسبي بابل كما ورد في التوراة؛ ويضيف: "لكل تاريخ بابله، لكل شخص بابله. لكل أكذوبة بابلها... قطع رأسٍ في معارك بابل يشبه قطع رأس في سنجار اليوم".

ويلتقي سارات بشاب يقود ستة كلاب، واسمه عدنان أبو دحية الذي ينتظر دخول الجنة والذي هو مستعد، لإثبات إيمانه، أن ينهش كل بيت في الغرب بأسنانه. ولكنه أُعدم لأنه قال إنه مغرم بالخليفة البغدادي. فصلب عدنان على عمود إلى جوار اثنين أتّهما باللواط، في ساحة مدينة الرقة. لُفّ من وسطه بأسلاك شائكة، وأطلقت على قذاله طلقة خرجت من شفته العليا، بعد أن رأى طفلاً يلهو برأس مقطوع. ويقول عدنان لسارات إنه كان "انغماسياً" يضع حبوباً مخدّرة على لسانه قبل المعارك، وإذا به يرى "بوابات بمقابض ذهب. أزيز الطلقات نداء من حناجر الحور العين، ودوي القنابل تسبيح، وانهيار الأبنية كشفٌ عن مخبوء من عسل جارٍ جداولَ". ويطلب عدنان من سارات أن يرسمه على صخرة وقرب "خليفتنا، أدامه الله، على حصان". ويعترف عدنان أنه اشترى جارية إيزيدية بـ400 دولار، لأن الإيزيديين من عبدة الشيطان لا يصلّون ولا يذكرون الله". ويضيف "سنملأ جهنم بالرؤوس اللاهية عن ذكر الله".

وفي الفصل الثالث من الرواية تظهر نيناس (11 سنة) راعية الماعز الإيزيدية التي سبيت من سنجار وبيعت في ساحة مدرسة في الموصل لداعية من سكان أبو كمال كان يدرّب الأطفال على الجهاد. ويبيعها الداعية لقاضٍ داعشي عمره 56 سنة، وبعد أربعة أشهر من النكاح وضع وسادة على وجهها حتى اختنقت.

ويتصل خاتشيك الرسام الأرمني بصديقه سارات من فنلندا ليكلّمه عن متفرِّعات الجهاد: "جهاد الفروج. جهاد النكاح. جهاد الذبح. جهاد المواقع على الإنترنيت...". ووضعت في صناديق بريد السويديين صورة لسكين الذبح وعبارة تقول: "إما أن تُشهر السويد إسلامها أو انتظروا حمّام دم ستوكهولم". وقرب نفق صغير يلتقي سارات مجدداً بعدنان أبي دحية الذي يعرّفه بإحسان مجاهد، أحد دعاة الدولة الإسلامية. ويسأله سارات: "من أين أنت؟ - من أبو كمال، إحدى مدن الطاعة، أو الولاء للعلم الأسود". ويريد هذا الداعية تغيير اسم "بحيرة أودن" باسم حلال هو "بحيرة المؤمنين".

وتظهر في الفصل الخامس سبيّة إيزيدية أخرى هي آنيشا وعمرها 14 عاماً، وتطلب من سارات أن يقبّلها، فيتمنّعَ. لقد اشتراها بـ700 دولار شاشاني يتكلّم العربية الفصحى بحروف مرضوضة مكدومة؛ فظن أن أخاه يراود سبيته فقتله، فأفرغت زوجة القتيل 11 رصاصة في مالك آنيشا و9 رصاصات في آنيشا. وفي الفصل السادس يظهر عمروف الشيشاني فيعترض سارات قبل دخوله الحانة. ويروي علي قصته مع أخيه ويضيف: "قلوب المؤمنين تتفاهم بإشارات الأرقام الدهرية"، وهي مدة عمر آدم عليه السلام، ومدة إقامته في الجنة. سنة النبوة المحمدية. سنة الفتح الأول، مدة عمر حوت يونس عليه السلام. مدة عمر النبي الخضر. عمر البراق". وتتجارى مع هذا الاستيهام لوحة "المباهج الأرضية" للفنان الهولندي إيرونيموس بوش المؤلفة من ثلاث قطع: الجنة وتشتمل على خلق حواء وينبوع الحياة، وعلى النار. وفي الوسط قطعة تمثل مباهج الحياة وإغراءاتها وكوابيسها. ويفكّر سارات وهو يشرب البيرة في الحانة، في رسم القيصر فلاديمير بوتين "سليل راسبوتين الذي أذهل الشيوعيين عن تعاليم ماركس وانعطف بهم إلى الإيمان بتعاليم الجودو والكاراتيه. أذهلهم بحضوره سبّاحاً يذوب لينين حسداً منه على براعته. أذهلهم بتمارينه الرياضية، التي تَعرَق أفكارُ آباء الاشتراكية تقليداً لها، بمفعول رجعي، ثم تنهار مرهقة (...). نجح مسخ من تاريخ أفكار العبودية، مجنّد عند الـ ك.ج.ب. في إدهاش الشيوعي واليساري العربيين بأبوته".

ويروي الكاتب كيف طلب اللجوء إلى السويد وكيف نصحه أصدقاؤه الأرمن بانتحال شخصية أرمنية واسم أرمني "سايات" الذي حوّله هو إلى سارات. وكان يمارس رياضة الجري التي ذكّرته بتاريخ جسده المرتبك، يقول: "نكبر في الشرق الذي أنا منه، مرتبكين. نحن كائنات مرتبكة منذ الولادة، هَلَعاً من كل شيء. نوجد هناك مذنبين ذنوباً لا نعرفها. نولَد متّهمين على ما لا نقترفه: أحاسيسُ متَّهَمة، رغبات مذنبة". وأثناء جريه، كان يطلق أسماء الشيطان على جذوع الشجر، وهي: "شيطان، إبليس، ديابولو، أبادون، أبوليون، ملك بابل". وفجأة تظهر فتيات سنجار ومعهن فتاة جديدة هي السبيّة كيديما (13 سنة) التي اشتراها جند الخليفة وباعوها ثماني مرات خلال ثلاثة أشهر. آخر بَيع كان لرجل أسود عنّفها لأنها قالت له: "لماذا لم تشتر جارية سوداء من حيث جئتَ؟" فلقّمت مسدس الداعشي الأسود وجرحته في ساقه وأدارت فوهة المسدس إلى بطنها وأطلقت النار، وبعد ساعات توفيت في مستوصف المعسكر. وينتقل سارات من قصة كيديميا إلى قصة سورية، فيقول: "سورية رغبة لم تكتمل. وداعاً أيتها الرغبات المنتحرة. دولة في ثياب تنكرية. دولة انتهت كاسمها (...). بلد لم يولد، لم يكن بلداً قط... لقد عشتُ فيه شبحاً. هربتُ منه شبحاً. ثم – على نحو غامض – آمنت به بلداً. آمنت ببلد ميت، ولد ميتاً، وهو يجرني معه، منذ ولدتُ، إلى عقاب الوجود فيه... بيع بلدي كالفتيات الأربع مشين معي في بساتين التفاح".

وفي الفصل الثامن، تذكّر لوحةُ "جوديت تقطع رأس هولوفيرنز" للفنان الإيطالي كارافاجيو، بولع داعش في قطف الرؤوس. وهنا يستعرض سارات بعض الرؤوس المقطوعة: رأس الميدوزا ذات الضفائر الأفاعي، رأس يوحنا المعمدان [يحيى]، رأس الجبار المارد غوليات، رأس القائد الأشوري هولوفيرنز... ويصل عدد الدواعش الذين قابلوا سارات إلى أربعة، وآخرهم الحاج سعدون الذي اعتبر طائرتي 11 أيلول شهيدتين: "لو كان في وسعي أن أتوسط عند الله لتوسطتُ كي يُدخل الطائرتين إلى الجنة". ويُبرز سعدون حقده على أوروبا عندما يسأله سارات: "ما مهنتك يا سعدون؟ - تذكير أوروبا بأن الحرب معها لم تنتهِ... نقلنا الحرب إلى شوارعهم. أعدنا تصحيح الخلل". وعندما يسأله: "من أين أنت يا سعدون؟ - أنا من الإسلام. الإسلام بلدي، جنسيتي، عائلتي، بيتي". ويتطرق سعدون من ثم لبرنامج داعش التربوي: تنشئة التلميذ الصغير على احتقار الخوف، تدريب على القسوة والذبح، تنظيم مسابقة "الطفل السفّاح"... ويحلم سعدون بأن يجمع حكام العالم ويخرج "عليهم الخليفة حفظه الله على جواد أبيض يعظهم... سيصفعهم ويرغمهم إذلالاً على تقبيل ذيل عباءته".

وننتقل من ثم إلى لوحة "زحل يلتهم ابنه" للفنان الإسباني غويا الذي سبق له أن رسم 14 لوحة طافحة بالعنف والدم والخوف، كأن الفنان الذي أصيب بالصمم في السادسة والأربعين قد صبّ كل طاقاته ليحوّل الصراخ إلى ألوان وأنّات. في هذا الجو الكابوسي للرواية، يكتمل عدد سبايا سنجار مع وصول يادا المنحدرة أيضاً من قرية "خانه صُوْر". لقد اشتراها انتحاري داعشي ليبي وانتقل بها إلى عين عرب السورية، حيث قام بعملية تفجير تناثرت فيها يادا أشلاء، وفقد الليبي رجله اليمنى. ويستطرد سليم بركات ليحدثنا عن "مصحف رش" أو المصحف الأسود، وعن "كتاب الجلوة"، ويقول إن مؤلفَي هذين الكتابين هما شمّاسان كلدانيان.

إن لوحة تيودور جيريكو "طوّافة الميدوزا" (1819) التي تتصدر الفصل العاشر والأخير من الرواية، تمثّل قتالاً من أجل الزعامة ينتهي بغرق السفينة. بعد أن أمعن سارات النظر في ألبوم اللوحات الذي كان يتصفّحه يومياً، خرج من بيته فصادف الدواعش الأربعة وانضاف إليهم ذلك الشاب الليبي الانتحاري عبد الله الذي قدّم نفسه كزجّال يغني الراب، وقال: "ولدتُ في أوروبا. حملتُ الجهاد ضد أوروبا تحت جلدي... جهادي مضاعف". وروى لسارات كيف قتله داعش لأنه طالب بإنشاء "جمعية الرفق بالحوريات" في الجنة.

وذهب سارات ليتسوّق، فلحقه كلب كان يقوده أحد الدواعش الخمسة؛ ولما وصل إلى البيت انقضّ الكلب على مرسمه تحطيماً وتهشيماً وتكسيراً، ثم قفز من النافذة واختفى في البحيرة: "كان مشغلي مروَّعاً منتهكاً بالبطش الأعنف". ووسط هذا الحطام تظهر الإيزيديات الخمس. ويبدأ سارات يرسم على طبق من ورق؛ رسم سفينة وقال: "سأعود إلى سورية في هذه السفينة". وقادته الإيزيديات إلى البحيرة ومشى معهن فوق الماء، وفجأة انبثقت أنوار ساطعة "في كل مكان على سطح البحيرة، من أقصاها إلى أقصاها: خيام مضاءة لا تُحصر ولا تُحصى، على امتداد تعجز العيون عن بلوغ نهايته. مدٌّ من الخيام، سيل من الخيام. غَمر من الخيام متقابلة، بممرات مستقيمة بينها (...). لاجئون". الذهول الذي شهده العالم لتدفق اللاجئين السوريين هو ما رآه سارات في أفق بحيرة أودِن قرب ستوكهولم. والطريف في الأمر أن اللاجئين كانوا يرسمون خياماً. فهل أصبحت الخيمة رمزاً لسورية المفجوعة؟