Print
صقر أبو فخر

رياض الريس: عدّاء لا يخسر أشواطه

7 يونيو 2017
عروض

 

في عيده الثمانين أصدرت الكاتبة السورية سعاد جروس كتاباً أنيقاً وجميلاً بعنوان "رياض نجيب الريس: صحافي المسافات الطويلة" (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2017، 383 صفحة). وهذا الكتاب عبارة عن حوار طويل أجرته الكاتبة مع "آخر الخوارج" وفيه قطوف من الذاكرة، وعصارة التجربة، وخبرة الأيام، وحكمة العمر. ورياض نجيب الريس هو، بلا ريب، واحد من ألمع الصحافيين العرب حيث استهلكت الصحافة حقبة من عمره امتدت أكثر من خمسين عاماً متواصلة. ولعله أجرأ ناشر عربي أصرّ، بوعي كامل، على التوغل في أشواك المحرمات الدينية. وهو فوق ذلك كله كاتب امتلك أسلوباً نفّاذاً في الكتابة يخالف الأساليب الكتابية التي شاعت في لبنان، والتي كانت تتمحل المعاني وتحتال على الأفكار بلغة متلوية. ولم يكن رياض الريس مجرد صحافي يقتنص النمائم من هنا وهناك ويحوّلها إلى أخبار مثيرة على عادة المدرسة المصرية، إنما كان صاحب ثقافة شاملة في التاريخ والسياسة والدول والرجال والمجتمعات قلما توافرت لأقرانه من الصحافيين العرب.

ناصري وقومي عربي وليبرالي وديمقراطي معاد للعنصرية كيفما تجسدت وأينما تمثلت، وساخر من طراز محبب، وصادق وشجاع لا يبالي بالخسارة، وكل ما يتطلع إليه هو المغامرة والاقتحام الفكري لمعاقل التخلف في بلادنا العربية. وربما ما يؤلمه اليوم أنه عاصر صعود الصحافة اللبنانية وازدهارها (والعربية أيضاً)، ثم شهد بعينيه انحطاطها المروّع؛ فهو أحد صانعي مجد الصحافة العربية في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته وحتى انصرامه. وعندما بدأ عصر الأفول، وبعدما صار الانحطاط ثقافة، انزوى عن الكتابة بكبرياء ولا سيما حين تسيَّد حرفة الصحافة صحافيون يشبهون الكرة الطائرة التي تتنقل من يد إلى يد، أو مثل كرة الطاولة (البينغ بونغ) التي تنتقل من جانب الطاولة إلى الجانب المقابل بسرعة عجيبة وبحسب إرادة القاذف.

خَبِرَ السياسات العربية المتبدلة، خصوصاً في دول الخليج العربي، وبات خبيراً بدهاليزها وصانعيها، وكان شاهداً على التحولات الكبرى في المقلب الآخر من المشرق العربي؛ المقلب الذي يطل على المحيط الهندي ويحاذي طريق السندباد، من البصرة إلى عُمان فخليج البنغال، واكتشف أسرارًا كثيرة من تلك التحولات مثل انقلاب الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان على أخيه الشيخ شخبوط في عام 1966، وانقلاب السلطان قابوس على أبيه سعيد بن تيمور في مسقط في سنة 1970. والمشهود له أنه كان أول صحافي عربي يزور فيتنام في أيار/ مايو 1966، وصورته في فيتنام باللباس الكوري تُظهره كأنه قائد صيني أو كمبودي (انظر الصورة في كتابه "آخر الخوارج، ص 159). كما كان الصحافي العربي الوحيد الذي تمكن من الوصول إلى براغ بعد الاجتياح السوفييتي لتشيكو سلوفاكيا في آب/ أغسطس 1968، مثلما تمكن من التسلل إلى أثينا بعد يوم واحد من الانقلاب الذي نفذه الجنرالات في نيسان/أبريل 1967 ضد أندرياس باباندريو.

 

العشيقة السرية

يتساءل رياض نجيب الريس: "مَن هو هذا الوراق المؤلف؟ هل هو شاعر أم مفكر؟ أديب أم سياسي؟ هل هو سوري أم لبناني؟". ويجيب: "هو قطعاً صحافي ولا شيء آخر (...)، ونصف اللبنانيين يعتقدون أنه لبناني من دون أن يعترفوا بلبنانيته. ونصف السوريين يعرفون أنه سوري من دون أن يقروا بأهليته"، وهو على يقين بأنه طراز مثالي لمقولة "شعب واحد في بلدين" التي أطلقها والده نجيب الريس صاحب "القبس" الدمشقية قبل ثلاثة أرباع القرن. فلا سوريته خدمته، ولا لبنانيته شفعت له، وظلت عروبته مقياس هويته الوحيد (راجع: "آخر الخوارج"، بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2004، ص 367). ومع أن رياض الريس يصرّ على صفة الصحافي "ولا شيء آخر"، إلا أنني أكاد ألمسُ حنينه الدائم إلى الشعر، لكأن الأدب هو عشيقته السرية. إنه، كما يلوح لي، أديب مستور، أو شاعر غوّرت صروف الزمان فيه ومض القريض، مع أنه أصدر ديوان "موت الآخرين" في سنة 1962 الذي قدم له جبرا ابراهيم جبرا، ثم أصدر "الفترة الحرجة" في سنة 1966 وهي دراسة نقدية في أدب الستينيات من القرن العشرين، وأتبعه بديوان "البحث عن توفيق صايغ" في سنة 1975 الذي لم يُقيض له أن يصل إلى الناس جراء احتراقه. ولاحقاً، في سنة 1996، أصدر كتاباً بعنوان "ثلاثة شعراء وصحافي" عبارة عن مراسلاته مع جبرا ابراهيم جبرا (45 رسالة) وتوفيق صايغ (10 رسائل) ويوسف الخال (20 رسالة). وكان رياض الريس بدأ حياته الكتابية شاعراً، وبدأ حياته المهنية محرراً ثقافياً (آخر الخوارج، ص 305)، فكان يبعث برسائل ثقافية من أوروبا إلى مجلة "الأديب" منذ سنة 1956، وإلى مجلة شعر منذ سنة 1958، ثم عمل سكرتيراً لتحرير مجلة "حوار" إلى جانب توفيق صايغ. وفوق ذلك فاز بعدة جوائز في القصة والشعر منذ دراسته الثانوية، وانتخب رئيساً للنادي الثقافي العربي في مدرسة برمانا في سنة 1955، وترأس تحرير مجلة "الرواق" التي تصدرها مدرسة برمانا العالية. وفي ما بعد شغف بالمسرح، فترجم مسرحية "الزعيم الصغير وحربه ضد الخصيان" للمسرحي الايرلندي دايفيد هولويل. وهذه المسرحية عُرضت على مسرح بيروت في عين المريسة في أيار/مايو 1967 (إخراج شكيب خوري، وتمثيل روجيه عساف وإيلي قربان ومود عقل). ومع ذلك كله فقد انصرف إلى الصحافة بجماع عقله ومشاعره وكيانه وجسده.

 

بيروت مدفن الأحلام

تسرد سعاد جروس في ثنايا هذا الكتاب الجميل قطوفاً من سيرته المفعمة بالأحلام. ويمكن تكثيف جانب منها بالقول إن رياض الريس بدأ يحلم، وهو في دمشق، بإصدار صحيفة عربية حرة ومستقلة وجريئة. لكن بيروت دفنت هذا الحلم بعدما تحالفت الرقابات كلها عليه لتنهش مجلة "الناقد" ومجلة "النقاد" ومنشوراته الراقية. والرقابة، في جوهرها، إنما هي تحالف رجال الأمن مع رجال الدين. وهؤلاء تَسانَدوا ضده في حملة طراد هوجاء تجسدت في معمعة هاذية قادها التخلف الديني ضد التنوير. وفي بيروت، مدينة القنافذ المتجمعة والأحلام المجهضة، فُرض الحصار على مجلة "الناقد"، ومُنع تصديرها إلى العواصم العربية، ودهمت جهات أمنية مكاتب دار الريس ومستودعاتها في سنة 1995 بحثاً عن كتب الصادق النيهوم، وجرى التحقيق معه في شأن كتاب "الروض العاطر في نزهة الخاطر" للشيخ النفزاوي. ومن مساخر الأيام أن المحقق سأله عن اسم الكاتب، فأجابه رياض الريس، فتابع المحقق: وماذا يعمل؟ فقال له: قاضي الأنكحة في مدينة تونس. وما هو عنوانه؟ عند ذلك ضاق رياض الريس بهذا الغباء وأجاب: إنه متوفٍ منذ أكثر من كذا مئة سنة.

جاء رياض الريس إلى لبنان وله عشر سنوات، وتعلم فيه وتزوج أول مرة الكاتبة اللبنانية زينات نصار، ثم الصديقة فاطمة بيضون، وهي من عائلة لبنانية معروفة، وأصدر في بيروت مجلتين مهمتين. ومع ذلك برهنت تجربته صحة مقولة الشاعر  السوري الأب نقولا يواكيم التالية: "عاشرت اللبنانيين أكثر من أربعين عاماً، فلا صرت منهم ولا رحلت عنهم" (ص31). وكم واجه مواقف استنكارية، بل عنصرية، في مجرى حياته المهنية؛ فهو سوري مسلم أنكلوساكسوني الثقافة، عمل في جريدة "النهار" وهي جريدة لبنانية مسيحية صرفة، ومحرروها فرانكوفونيون، فكان الوحيد بينهم في موقع الاستغراب والتساؤل: ماذا يفعل هذا المسلم السوري في جريدة "النهار"؟ (ص 32). لذلك لم تستطع بيروت، على اتساع حبه لها، أن تطرد دمشق من ذاكرته (آخر الخوارج، ص 49). ولعل رياض الريس نفسه هو الخلاصة البهية المتألمة لمدينة عظيمة كدمشق المسوّرة اليوم بآلام أبنائها. أما الخلاصة فهي الحكمة التالية: لو تعلم السوريون من اللبنانيين أكثر (غير التجارة بالطبع، فهم أربابها، واللبنانيون صبيان تجارة مقارنة بأهل دمشق وحلب)، ولو أن اللبنانيين فهموا السوريين أكثر، لربما كانت أحلام رياض الريس ممكنة التحقق في بيروت. وقد كان نجيب الريس، والد رياض وصاحب نشيد "يا ظلام السجن خيم إننا نهوى الظلاما"، قد عرف بيروت وفهمها في العمق قبل سبع وثمانين سنة أكثر من كثيرين اليوم، فهو يقول عنها: "بيروت في الليل تبدأ حياتها المرحة الهانئة منذ الساعة السادسة بعد الظهر إلى الساعة الرابعة بعد منتصف الليل. أما في النهار، فالويل لبيروت من النهار؛ سوق تجارية مخيفة ليس  فيها غير حوادث الإفلاس المتتالية (...). هكذا يمضي النهار في بيروت: كلها إفلاسات ونكبات. وعندما تدق الساعة السابعة تشهد أسراب السيارات تدفع مقدماتها مؤخراتها. وإذا بهذا التاجر الذي أعلن توقفه عن الدفع في النهار لا يخجل أن ينتحي في الليل ناحية من قاعة المرقص وأمامه مائدة صُفّت فوقها أقداح الشمبانيا، وإلى يمينه بعض أصدقائه وندمائه، وإلى يساره الأرتيست المجرية أو الرومانية التي ينسى في جمال عنقها ونَعَسِ عينيها عشرات الكمبيالات التي رفض دفعها بوقاحة قائلاً لقواصي البنوك: أرسلوها إلى البروتستو أو إلى جهنم. هؤلاء تجد الواحد منهم لا يتجاوز رأسماله ألفي ليرة يملك سيارة وله خليلة يُسكنها بيتاً مفروشاً بفاخر الفرش، ويصطاف في عاليه أو صوفر (...)، ثم هو لا يخجل ان يتوقف عن دفع أموال الناس"  (جريدة "القبس"، دمشق، 16/5/1930). انها المركنتلية الفينيقية.

 

جريء ونبيل

يستشهد رياض نجيب الريس في غير كتاب بعبارة أنورين بيفان زعيم الجناح اليساري في حزب العمال البريطاني التالية: "جميع السير الذاتية أكاذيب". والحقيقة أن سيرة رياض الريس كما صاغها في كتابه "آخر الخوارج" هي من أمتع السير، وفيها جرأة على الذات وعلى الوقائع وعلى الآخرين في الوقت نفسه، وليست محشوة بالأكاذيب ولا سيما فضائح الصحافيين التي نعثر على كثير منها في كتاب ناصر الدين النشاشيبي الموسوم بعنوان "حضرات الزملاء المحترمين" (القدس: دار أخبار البلد، 1995)، وفي كتاب ابراهيم سلامة "غداً سندخل المدينة" (بيروت: أوروبا والشرق الأوسط للطباعة، 2008). وها هو رياض الريس يحاور سعاد جروس في "صحافي المسافات الطويلة" ويعيد صوغ كثير من الوقائع، ليصبح بين يدينا كتابان عنه يشكلان معاً سيرة ذاتية غنية وممتعة وجريئة وصادقة؛ إنها سيرة الشخص وسيرة الصحافة وسيرة جريدة "المنار" ومجلتي "الناقد" و "النقاد" ومكتبة الكشكول ودار رياض الريس للكتب والنشر، وهي في الوقت نفسه سيرة بعض جوانب الثقافة العربية، وسيرة صحافي راوغ الحكام وعاند السياسات طوال خمسين سنة متواصلة. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فها أنا أنقل عن كلوفيس مقصود أنه دعا أنورين بيفان إلى زيارة لبنان والاجتماع إلى كمال جنبلاط في بلدة المختارة، وهناك أُعد له استقبال شعبي حاشد، وكان مشايخ الدروز بلباسهم التقليدي (الشروال والعمامة) في مقدم المستقبلين كما جرت العادة. وبينما كان بيفان يسلم على هؤلاء، التفت إلى مقصود قائلاً: لم أكن أعرف أن لأعضاء حزبكم لباساً موحداً (كلوفيس مقصود، من زوايا الذاكرة، بيروت: الدار العربية للعلوم، 2014).

بعض الروايات الواردة في الحوار الذي صاغته سعاد جروس في "صحافي المسافات الطويلة" موجودة بحروفها في "آخر الخوارج" مثل قصة الإضراب في مدرسة برمانا الذي كان داني شمعون أحد قادته، وحكاية قراءة الإنجيل لدى آل الخازن في فاريا، وعلاقة رياض الريس بكامل مروة وسعيد فريحة وغسان تويني، وإصداره جريدة "المنار" التي صادف صدورها اختطاف طائرة اللوفتهانزا إلى مقديشو، ودور نهاد المشنوق في كشف أسماء فريق الاختطاف، وغير ذلك من الروايات الشائقة. وفي هذا الحوار نكتشف أن عبارة "شعب واحد في بلدين" التي تُنسب إلى الرئيس حافظ الأسد، إنما هي لنجيب الريس التي وردت في إحدى افتتاحيات جريدة "القبس" الدمشقية في أربعينيات القرن المنصرم. ونكتشف أيضاً، خلافاً للشائع، أن الرئيس حافظ الأسد قدم مبلغاً من المال لنبيل خوري لدعم مجلة "المستقبل" حين أشرفت على الإفلاس (ص 79). وفي هذا الميدان لم يتردد رياض الريس في كشف مصدره تمويل مجلة "النقاد" (ص 104)، وكان جريئاً في سرد لقاءاته حكاماً عرباً أمثال صدام حسين ومعمر القذافي والشيخ صباح الأحمد، أو متنفذين أمثال اللواء بهجت سليمان وآصف شوكت والشخصية الفكاهية مصطفى طلاس، أو برزان التكريتي، لأن مهنة الصحافة تقتضي ذلك، وهذه بديهة إلا لدى كثير من الكتاب والمثقفين والصحافيين الذين كانوا يداومون على عتبات الحكام، ويتوضؤون بماء وضوئهم، وحين سقط أولئك الحكام راحوا يتملصون من تاريخهم. أما علاقته بنبيل خوري فهي طراز نادر من الوفاء والحب والصداقة العميقة التي لا تُمحى، وأحسب أن رياض الريس يشبه، شبه العقاب للعقاب، نبيل خوري، فالاثنان أقبلا على الحياة بجميع جوانبها ومُتعها وآلامها، ونهلا منها، وأشعلا لفائفها من الجانبين، واحترقا في مهنة الصحافة بحثاً عن الحقائق وعن كل مستور.

* * *

 

دائما كنتُ معجباً بلغة رياض الريس المتوترة التي تعكس صدقه في التعبير عن مشاعره، وتتجلى في كتاباته الواخزة. ولعلني أتفهم عدم ورود اسم أدونيس إلا مرة في هذا الكتاب (ص 101). لكنني لا أعلم لماذا لم يرد اسم منير الريس، ولا حتى مرة واحدة في هذا الحوار، ولا حتى في كتابه "آخر الخوارج". والمأنوس أن منير الريس هو شقيق نجيب الريس، وصاحب جريدة "بردى" الدمشقية، ومؤلف كتاب "التاريخ الذهبي للثورات الوطنية في المشرق العربي". ونقرأ في بعض المصادر أن منير الريس ضرب حسين البرازي انتقاماً لأخيه نجيب بعد اعتداء أزلام البرازي عليه. لكن رياض الريس يقول في "آخر الخوارج" إن والده نجيب كان وحيداً لأبيه" (ص31). إذاً، من هو منير الريس حقاً؟ ليس مهماً هذا السؤال في أي حال، لكنه مجرد تساؤل خطر في بالي وأنا أطوي آخر صفحة من هذا الحوار الذي جعل عدد كتب أبو نجيب يبلغ سبعة وثلاثين كتاباً في السياسة والثقافة والأدب والتاريخ والرحلات، وفي ذلك مكانة سامقة ومجد سامٍ.