Print
محمد م. الأرناؤوط

مروان كنفاني يبوح بما لديه لـ"الفلسطينيين فقط"

21 مايو 2017
عروض

يأتي كتاب مروان كنفاني "عن الفلسطينيين فقط: جدلية النجاح والفشل" بتجربة مغايرة عما تركه شقيقه غسان كنفاني قبل وفاته، إذ شقّ كل واحد من أبناء المحامي الفلسطيني محمد فايز كنفاني طريقا مختلفا عن الآخر. فبينما انشغل غسان في الصحافة والأدب وأبدع فيهما توجه مروان نحو دراسة القانون في القاهرة واشتغل في الجامعة العربية في دائرة الشؤون الفلسطينية أولا، ثم في بعثة الجامعة بالأمم المتحدة، إلى أن انعطف نحو السياسة الفلسطينية في 1986 بعمله مستشارا ومتحدثا باسم الرئيس ياسر عرفات ليشهد بذلك التطورات اللاحقة (إعلان الاستقلال في الجزائر، والغزو العراقي للكويت وما خلفه من عزلة لعرفات أودت به للوصول إلى أوسلو عام 1993 والدخول إلى غزة في 1994 إلخ). ومع هذه التطورات عاد مروان إلى فلسطين مع عرفات ليصبح عضوا في المجلس التشريعي الأول في 1996 ليعيد اكتشاف فلسطين والفلسطينيين من جديد في ظل الأوضاع الجديدة، وخاصة الخلاف المتنامي بين "فتح" و"حماس" الذي أدى في الواقع إلى انقسام جديد لما بقي من فلسطين.

يصل هذا الكتاب الصادر في القاهرة (المجمع الثقافي المصري 2017) إلى يدي في 13 نيسان/ أبريل 2017، في اليوم الذي جرت فيه الانتخابات البلدية في الضفة الغربية فقط مع رفض قطاع غزة لإجراء هذه الانتخابات، وهو ما يؤكد الصورة المتشائمة التي افتتح بها المؤلف كتابه: "لقد تكرّس الانفصال الجغرافي والسياسي والنفسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ولسوف يحتاج الأمر، بمرور الزمن، لمعجزة لإيجاد مجرد صيغة جديدة لعلاقة سلمية بين هذين الجزئين المتبقيين للفلسطينيين".

في هذا الكتاب لدينا مزيج من الذكريات عن الماضي (قبل وبعد النكبة)، والاعترافات بالإنجازات والإخفاقات (قبل وبعد أوسلو)، والاستشرافات للمستقبل الفلسطيني المعقد، وكلّ هذا في نوع من النقد الذاتي الذي يشمل انتقاد فصائل وأحزاب وقيادات الشعب الفلسطيني بسبب "إدمانهم على التمسك بالرأي والرغبة في الحكم وعدم الاعتراف بالآخر والتراشق بالاتهامات وأحيانا بالرصاص".

في القسم الأول ذكريات عن الوطن الجميل وتساؤلات مُرّة عما أوصل الفلسطينيين إلى خسارة وطنهم والتشرد في الدول المجاورة. في هذا السياق، ولأن الكتاب "عن الفلسطينيين فقط" نجد أن المؤلف لا يتوقف عند وعد بلفور (على الرغم من الذكرى المئوية له) لتحميله مسؤولية ما حلّ بالفلسطينيين بل يتوقف عند مسؤولية الفلسطينيين، وبالتحديد عند مسؤولية زعامتهم. فخلال 1918- 1948 مضت ثلاثون سنة "لم تستطع فيها القيادات الفلسطينية ولا الأحزاب والمنظمات إسقاط خلافاتهم ونزاعاتهم والاتفاق والتوحد وإقرار سبل مقاومة الخطر الداهم الذي يتربص بشعبهم".

ومع أن المؤلف يتحدث عن الانقسام الحاد بين الزعامات الفلسطينية عشية ثورة 1936، بين أنصار الحاج محمد أمين الحسيني الذي أصبح مفتي القدس في 1922 ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى (الذين أصبحوا يعرفون بـ "المجلسيين")، وبين "المعارضين" الذين يمثلون العائلات العريقة (النشاشيبي والخالدي إلخ) والأحزاب الجديدة الممثلة لها ("حزب الدفاع المدني" و "حزب الاستقلال" إلخ)، إلا أنه يشير من حين لآخر إلى الحسيني باعتباره "زعيم فلسطين المطلق" والتحاق والده بالحسيني حين لجأ إلى لبنان عام 1937 ولم يعد بعدها إلى القدس أبدا مع أنه بقي يحمل لقب "مفتي القدس".

وعلى الرغم من هذا الوصف (زعيم فلسطين المطلق) إلا أن المؤلف في حديثه "عن الفلسطينيين فقط" يكشف عن الصورة الحقيقية للحاج الحسيني التي تفسر بدورها ما حدث في 1948: "كان – رحمه الله – ميالا للعمل في دائرة مغلقة من المعاونين الخلص معظمهم من أقاربه ومن رؤساء العائلات والعشائر، متحسّسا من اجتذاب عناصر الشباب المثقف واتّباع أسس التنظيم الحزبي الفاعل والملتزم، غارقا في تحجيم منافسيه والقضاء عليهم، مفرط الشك، صاغيا للوشايات والاتهامات، ضنّينا في التعاون ومساعدة الأحزاب والفصائل الفلسطينية غير التابعة مباشرة لقيادته". ومن ناحية أخرى يأخذ المؤلف على الحاج الحسيني أنه "لم يستوعب أهمية وخطورة التطورات الجارية في النظام السياسي الدولي"، إذ إنه اختار الجانب الخاسر في الحرب العالمية الثانية (ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية) دون أن ينتزع منهما أي تأييد لاستقلال فلسطيني أو عربي، واكتفى برئاسة القيادة الجديدة للفلسطينيين التي اختارتها الجامعة العربية في 1946 (الهيئة العربية العليا) من الخارج متنقلا مابين بيروت ودمشق والقاهرة وغيرها في الوقت الذي كانت فيه القدس تستصرخ المساعدة. ومن هنا يسجل المؤلف بمرارة كيف أنه "حين تمهدت الأمور لحرب 1948 لم تكن هناك قيادة فلسطينية مركزية لإدارة مجريات تلك الحرب، كما لم تكن هناك بشكل عام قوى فلسطينية مدربة أو أسلحة حديثة وكافية".

في مثل هذا الوضع تشتت بعض الشعب الفلسطيني حتى قبل أن تدخل الجيوش العربية في 15 أيار لـ "تحرير فلسطين"، وهنا تبدأ ذكريات المؤلف المريرة عن سنوات اللجوء في لبنان ومعنى كلمة أو لعنة "لاجئ" التي فرّخت جيلا منفجرا ومستعدا لعمل أي شيء حتى تفجير نفسه لأجل ما حُرم منه. وفي هذا السياق يستذكر انضمام الجيل الشاب "المتفجر" إلى تنظيمات وأحزاب عربية أولا ثم إلى منظمات وجبهات فلسطينية خالصة رفعت شعار "تحرير فلسطين" و"العمل المسلح" إلخ.

ومع الانتقال إلى القاهرة للدراسة كانت هناك الكيانية الفلسطينية متمثلة في "حكومة عموم فلسطين" ورئيسها أحمد حلمي، الذي بقي يشغل مقعد فلسطين في الجامعة العربية حتى وفاته في 1963، واتحاد طلبة فلسطين الذي انطلق منه ياسر عرفات وأصحابه لتأسيس منظمة "فتح" في 1965، ثم عودة الانقسام الفلسطيني متمثلا هذه المرة بين يمين ووسط ويسار ومنحازا لهذا النظام العربي أو ذاك.

ولأن الكتاب "عن الفلسطينيين فقط" يقفز المؤلف عن فترة عمله الطويلة في مكتب الجامعة العربية بالأمم المتحدة، ليتحدث عن "الزعيم" الفلسطيني الجديد (ياسر عرفات) الذي أصبح المؤلف قريبا منه بحكم عمله مستشارا له منذ 1986. كانت تلك سنوات صعود وهبوط متتالية، من إعلان استقلال فلسطين بشموخ في الجزائر عام 1988 إلى الغزو العراقي للكويت وما أدى إليه من تآكل زعامة عرفات الذي لم يعد يجد غير اليمن بلدا يرحب به، وهو ما جعله يقبل من موقف ضعف بالتفاوض مع العدو (اسرائيل) والقبول باتفاق أوسلو عام 1993.

بعيدا عن الأوهام، يعترف المؤلف بأن ما تمّ التوصل إليه في أوسلو 1993 "لم يعطنا حقنا الشرعي، ولكنه أعطانا فقط حجمنا في ميزان القوة بيننا وبين اسرائيل وأتاح لنا أيضا فرصة العمل الجاد والهادف لتحقيق المزيد من الإنجازات في مسيرتنا لتحقيق المزيد من حقوقنا الشرعية". وهكذا بعد عودة عرفات إلى الداخل في 1994 بدأ العمل على توسيع أو تحويل "السلطة الوطنية الفلسطينية" إلى شبه دولة بإنشاء بنية تحتية ومؤسسات حكم ذاتي (رئاسة وحكومة ومجلس تشريعي إلخ). ولكن العقبة في هذه المرة، كما في المرات السابقة، لم تكن تتمثل في العدو (إسرائيل) فقط، بل في الذات الفلسطينية نتيجة للتراكمات الماضية والمستجدات الجديدة (بروز "حماس" وفوزها في انتخابات 1996 وما حمل ذلك من التباعد التدريجي بين الضفة وغزة).

في نقده الذاتي يكتشف المؤلف بعد عودته مع عرفات إلى غزة في 1994 ويكشف للقراء عن الصراع الجديد بين "المواطنين" و"الوافدين"، الذي انعكس على أجهزة السلطة الجديدة (جهاز المخابرات والأمن الوقائي بالذات) ووصل في بعض الأحيان إلى حد الاشتباك بالرصاص. ولكن العامل الأهم كان في الانقسام والصراع على السلطة (كما يسميه المؤلف) بين "فتح" و"حماس" الذي خلق تقسيما جديدا بالمعنى الجغرافي والنفسي والسياسي بين ما بقي من فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة).

في هذا السياق يعتبر المؤلف أن انتفاضة عام 2000، التي خطط لها عرفات حسب المؤلف لكي ينتزع المزيد لمشروع الدولة عبر التفاوض مع الإسرائيليين، قد أثارت تعاطف العالم مع الفلسطينيين ولكن "تسليح الانتفاضة والعمليات الاستشهادية هي الخطوة التي انتظرها قادة الحرب الإسرائيليون من أجل القضاء على الانتفاضة وعلى وحدة الأرض والشعب الفلسطيني وطمس آخر أمل للفلسطينيين في بناء دولتهم".

هذه النتيجة المريرة انعكست على استشراف المؤلف للمستقبل الفلسطيني، الذي حرص على أن يكون صادقا فيه أو صادما للقراء الفلسطينيين، لعل ذلك يحرك الفلسطينيين في الداخل لاثبات العكس. ومن هنا يعترف المؤلف في الخاتمة بأنه غادر "منذ سنوات طويلة أرض واحة الأمل الخضراء إلى صحراء اليأس الصفراء الواسعة" وأصبح يشك "في أننا كجيل وشعب سوف نتمكن من التغلب على العقبات التي وضعناها نحن بأيدينا على طريق تحرر واستقلال شعبنا". فالإنجاز الوحيد الذي يراه المؤلف يكمن في أن كلا من "فتح" و "حماس" نجحت في إحراز قوة كافية لكل منهما للسيطرة والحكم في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن المحافظة على ما تبقى من فلسطين "تحتاج إلى أكثر بكثير من قوتهما اليوم": "تحقيق وحدة الشعب والأرض الفلسطينية، الأمر الذي يبدو أن كليهما غير قادر أو ربما غير جاد أو غير راغب، معاذ الله، في التوصل إليه" (ص 271).

هذه النتيجة التي وصل إليها المؤلف في خاتمة الكتاب، الذي يتمنى ألا يقرأه سوى الفلسطينيين، بقي مترددا أن يقولها حوالي عشر سنوات، ولكن اقتراب الأجل للجيل الذي يمثله المؤلف دفع به في السطور الأخيرة للكتاب إلى أن "يبقّ البحصة" أو الحقيقة المُرّة التي تقول "إنه لم يحدث في تاريخ شعوب العالم أن انتصر شعب مقسّم" (ص 316).

*أكاديمي كوسوفي/ سوري