Print
صهيب عبد الرحمن

لا تقولي إنكِ خائفة.. بيوغرافيا الوَجع

10 أبريل 2017
عروض

تستكشف رواية "لا تقولي إنكِ خائفة" للإيطالي جوزيه كوتيسلا قصة واحدة من آلاف قصص الشباب الصومالي الذين يلقون حتفهم في عرض البحار، في محاولة لعبوره إلى الضفة الأخرى حيث حياة "الفردوس الأوروبي". إن بنادق الحرب الأهلية خفّت أصواتها، من دون أن يتوقف الموت الصومالي بذلك. يذكر الكاتب أنه في أثناء اشتغاله على روايته "المستقبل العظيم" تعرّف على قصة سامية عمر، بطلة رواية "لا تقولي إنكِ خائفة" عندما كانت إحدى القنوات الإخبارية تقدّم تقريراً عن حكايتها وغرقها في المياه الإيطالية، حين كانت في قارب تهريب من ليبيا، ومن ثمّ يقول إن قصتها ألهمته وجعلته يفكر بعمل روائي حولها، وذهب للقاء عائلتها للتعرّف على تفاصيل تاريخها، وكتب هذه الرواية على لسانها.

تحدّثنا الرواية عن فتاة صغيرة موهوبة بالسباق، وتحلم بأن تكون بطلة سباق عالمية. الحوار قليل بين شخوص الرواية، بل العمل برمّته أشبه بالبيوغرافيا الشخصية، وما سنلاحظه منذ بداية الصفحات الأولى من الرواية، هو الحضور الطاغي لثقافة الكاتب الإيطالية في شخوص الرواية، والد سامية (يوسف عمر) ووالد صديقها علي (ياسين أحمد) صديقان، إذ عملَ أبواهما معاً في فترة الاستعمار الإيطالي، وسيظهران في صفحات العمل وهما يستخدمان تعبيرات وأمثالاً شبعيبة ايطالية، وهي تعبيرات شديدة البساطة و"العاديّة". منها على سبيل المثال: "ساعد نفسك كي يساعدك الله" و"العالم قرية صغيرة"،"نحن جميعاً أبناء وطن واحد"، أمثال يصوّرها الكاتب على أنها أمثال إيطالية تعلّمها الجيل السابق الذي "خدم" المستعمر الإيطالي ومن ثمّ قام بنقلها وتعلميها لأبنائه، وفي المرة الوحيدة التي يستخدم فيها السارد مثلاً شعبيّاً صومالياً يظهر في الترجمة العربية غير مفهوم، في موقف لا يخلو من دلالة "إن الصومالي محكوم بالخرس" حتى عمّا يهمّه.

 بطل عالمي

على طول العمل، يُظهر السارد تلك العلاقة الخلاصية التي يمثلها محمد فارح لسامية، فهو بطلها المفضّل، العدّاء الذي كان قد غادر الصومال عندما كان في سنها تقريباً، بحثاً عن ملاذ في إنكلترا، حيث قاده مدرب متميّز إلى أن يكون بطلا عالميا. يقول السارد على لسان سامية: "غالبا ما كانت تصل إلينا أنباء انتصاراته وموهبته، كل مرة، كنت أستمع فيها إلى الراديو في مقهى تاجيري، أو إلى شخص ما يتحدث عن فارح، كان ينتابني شعور يجلعني أحلم أن أصبح مثله". لكن، ماذا لو لم يكن هناك راديو كي تستمع إليه سامية، أو بتعبير أكثر إيضاحاً، ما مدى تأثير سهولة ترابط أطراف العالم وتقنيات الإعلام الحديث، وخصوصاً شبكات التواصل الاجتماعي في هذه الأيام، على تحريك الهجرات الجماعية نحو الجنوب. إن فارح الذي جعل سامية تفكّر بلحاقه بعد سماع خبره في الراديو، ينشط اليوم في سناب شات وانستاغرام لايف، بل يظهر جيل كامل من الذين نجوا في الغرق عبر البحر في وسائل التواصل الاجتماعي، وينشرون صور سيلفي ملتقطة بشوراع نظيفة وبنايات عالية، يشاهد تلك الصور الشاب والشابة في مكان أشبه بالجحيم، في دول الجنوب الفاشلة. إن مسألة العبور إلى البحر تتحول إلى مسألة شجاعة وقرار في عصر الشبكيّة. إنه وجه آخر لمأساوية العالم المُعولم.

 مافيا البشر

عودة إلى أحداث الرواية، ينضمّ صديق سامية (علي) إلى صفوف الجهاديين (حركة الشباب)، وفيما بعد يكون قاتل والدها، "كان أبي هو الصومال، لكنه الآن قد مات، ذُبح على يد صديقي" تقول. وتعتزم الرحيل إلى أديس أبابا، لعلّها تعثر هناك على مدرب يحقّق لها حلمها.
الأشهر القليلة التي كانت في أديس أبابا، كانت فيها أجنبية، بلا مستندات، وبدون جواز سفر، لم يكن لديها أيّ شيء رسمي يثبت هويتها، تلك الأشهر توقد في داخلها الرغبة في الفرار للأبد، تتكون في داخلها رغبة في اللحاق بهودن - أختها التي هاجرت إلى فنلندا. كل ما يفصلها عن تحقيق حلمها بالعيش حياة أفضل هو البحر، عليها أن تعبر البحر مهما كلفها الثمن، تقول إنها ترغب بالرحيل "إلى مكان لا يكون وضعي فيه غير قانوني، مكان أتمكن فيه من القيام بكل شيء مثل أيّ شخص عادي، قبل كل شيء كنت أرغب في أن أشعر أنني فتاة طبيعة وعادية". في الوقت ذاته، إنها تعرف مخاطر السفر عبر البحر، لقد سمعت عن المراكب التي توقفت محركاتها في أعالي البحار، عن تلك التي غرقت بعيداً ومات من فيها، عن الاغتصاب الذي تتعرض له المهاجرات في طريق الصحراء الطويلة، عن مافيا تجار البشر في ليبيا، لكنها أيضا تعرف الكثيرين، من الذين نجحوا، والذين صمدوا في وجه هذه الأيام، وعاشوا لاحقاً في أوروبا، وأصبحوا فيها أبطالاً. العثور على مهرّبي البشر أمر سهل، يعرف مكانهم الصوماليون كافّة الذين يعيشون في أديس أبابا، تلجأ إليهم لدخول السودان ومن هناك، إلى ليبيا، ثم أخيرا إلى إيطاليا.

يصف السارد تفاصيل الرحلة في دقة متناهية، اثنان وسبعون شخصاً، يتكدّسون في داخل صندوق المفتوح لسيارة الدفع الرباعي، وهي تحمل معها حقيبة صغيرة وصورة بطلها محمد فارح "هناك للمرة الأولى نادونا، حيوانات، عندما تدخل إلى الصحراء تفقد إنسانتيك، كنت في السابق تهريب في أديس أبابا، لكني الآن أصبحت تهريباً يحتاج لمأوى، مهاجرة غير شرعية هشّة، يربطها بالحياة خيط رفيع للغاية".

الصمت والصلاة

يستمر السارد في وصف رحلة العذاب والمعاناة. وتصف الضرب الذي يهوي به المهرّبون على ظهورهم، "إن كنت لا تملك المال يوسعونك ضربا، إن لم تنفّذ الأوامر يوسعونك ضربا، إن تجرأت على الردّ يوسعونك ضربا، إن طلبت المزيد من المياه يوسعونك ضربا، لا يهم إن كنت امرأة، كنت راشداً، كنت طفلاً.. وسرعان ما يتعلم المرء أثناء "الرحلة" أن ينسى السبب الذي حمله إلى هناك، وأن يلجأ إلى الصمت والصلاة".
يصلون إلى شواطئ ليبيا، عدد كبير من الرجال والنساء والأطفال والرضّع وكبار السن، يقفون أمام البحر، "كنا نبدو وكأننا ظلال كثيرة مفعمة بالحماس، ليس هناك خوف في أعيننا، ونظراتنا مليئة بالخطط المستقبليّة، تنظر بالفعل إلى ما وراء البحر". يُأخذون بقارب متهالك وصدئ، ولا يمرّ وقت طويل إلا ويتعطّل في وسط البحر، يتقرّب إليهم قارب إيطالي آخر، يخبرهم أنهم عازمون على إرجاعهم إلى طرابلس، ومن ثم يبدأ المهاجرون بإلقاء أنفسهم في البحر، يبذلون قصارى جهدهم كي يصلوا إلى حبال القارب الإيطالي، تلقي سامية نفسها في البحر، وهي تسبح نحو الحبال تموت غرقاً.

لعلّ السارد أراد إرضاء قارئه بنهاية سعيدة، إذ يحرّف مسار أحداث سيرتها عند هذا الحدّ، يصوّر أن أحداً ما ينقذها ويوصلها القارب الإيطالي، تصل إلى لامبيدوزا إيطاليا، وتتلقّى علاجاً هناك، ومن هناك تأخذ طائرة إلى روما، ومن ثم إلى لندن، حيث ينتظرها محمد فارح ومدرّبها. وبعد أسابيع قليلة تتمكن بمعجزة من الفوز في أولمبياد لندن 2012.
والكاتب في إحدى مقابلاته يصرّح بأنه واجه حواجز ثقافية في بناء هذا العمل، ومع كون السرد أحاديّ المسار ويسير في تصاعد مستمر إلى النهاية، إلا أنه لا يخرج أمام القارئ بأيّ تصور عن طبيعة الشخصية الصومالية ولا عن الأوضاع السياسية والاجتماعية القائمة، إلا في المرات التي يستدعي الكاتب فيها قصة الإسلاميين "الذين يحوّلون الحياة إلى حجيم، ويمنعون تنقل النساء بدون ارتداء البرقع"، وهو لا ريب استدعاء للإثارة فحسب، أكثر من ذلك، يقع السارد في أخطاء من قبيل أنه ينقل على لسان سامية، "أن قبيلة دارود يكرهها الأصوليون الإسلاميون بشكل كبير وخاص، فهي قبيلة من الزنوج، بينما قبيلة الأبجال تتمتع بلون بشرة فاتحة، وبملامح تقترب من الملاح العربية"، وبالتالي، فإن الإسلاميين حسب رؤيتهم العروبية يكنّون كرهاً لقبائل الزنوج. وهو تصوّر أقل ما يقال عنه إنه مُختلق.

 حسنات الاستعماريين

يذكرنا هذا العمل بأعمال الأفغانيين خالد حسيني وعتيق رحيمي اللذين كتبا عن معاناة مجتمعهما الأفغاني بكلمات من لحم ودم عن الحياة في ظل أتون حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، جماعات إسلامية تزيد الوضع جهنميّة بتصوراتها العنهجيّة عن الحكم والمجتمع والمرأة، لكن تبقى هذا الرواية مقدمة بعيون حفيد المستعمر، وليس أحد أبناء البلد، كما في حالة الأفغانيين. وهذا مثار ريبة وتوجّس، وهو توجّس ليس بالمجاني، أو المبني على موقف مسبّق بالضرورة فقط لأن الكاتب إيطالي، بل تظهر في هذا العمل، تلك الرؤية الغربية التي تختزل عذابات المجتمعات الأفريقية والإسلامية بأنها بسبب الجماعات الإسلامية، وتتجاهل في الآن السياسات الكولونيالية التي ولدت هذه الأوضاع، وتتجاهل كذلك سياسات الغرب الحالية حيال الدولة والهجرة في المجتمعات التي شهدت الانهيار.

إن مرمى هذا العمل من جانب آخر، هو أن يسمح بالتعرف على الأحداث والآلام والأقدار التي يتعرض لها جزء من هذا العالم، مع أن الكاتب لم يفلح في تجنّب حساسية أن يكون إيطالياً، مستعمِر الصومال السابق، لا أدل على ذلك من أن القارئ يلتقي مدينة مقديشو وهي تظهر خراباً عاماً، إلا من الشوارع وشبكة المجاري التي بناها المستعمر الإيطالي، في دلالة على أن الكاتب أراد أن يذكر الصوماليين بحسنات أجداده المستعمرين.