Print
صقر أبو فخر

عبد الكريم الخليل: أَشهيد هو أم عَميل؟

27 أكتوبر 2017
قراءات

ذهب المؤرخون العرب في الموقف من الدولة العثمانية، ولا سيما في طورها الأخير (عهد جمعية الاتحاد والترقي)، مذهبين: الأول، وهو ذو نزعة قومية، رأى في تلك الدولة الغاربة استعمارًا واحتلالًا، الأمر الذي يعني أن كل مَن تمرد على ذلك الاستعمار أو قاومه أو دعا إلى التحرر من سيطرته هو قومي عربي ورجل حرية. والثاني، وهو ذو نزعة إسلامية، رأى أن الدولة العثمانية ليست غريبة عن العرب، وأنها كانت دولة لجميع مواطنيها وأقوامها وأقلياتها، وبالتالي فإن كل مَن دعا إلى التحرر منها ومقاومتها هو عميل للاستعمار الأوروبي الذي ظهرت مخالبه لاحقًا في اتفاقية سايكس – بيكو (1916)، وفي مقررات مؤتمر سان ريمو (1920). وترتب على النزعتين اختلاف جوهري بين المؤرخين العرب على تصنيف الذين أعدمهم جمال باشا في بيروت ودمشق في عامي 1915 و1916، فاعتبرهم البعض عملاء إما للفرنسيين أو للانكليز، لأنهم تحالفوا مع دول الاستعمار على تقويض الدولة العثمانية وتمهيد السبل أمام الاحتلال الأجنبي. بينما وصفهم البعض الآخر بأنهم شهداء قضوا في سبيل تحرير سورية من الاحتلال التركي. غير أن كلا المذهبين، أو النزعتين، أجمعا على أن عبد الكريم الخليل كان شهيدًا حقًا، ولم يرتبط بأي مشروع استعماري، أو بأي دولة غربية. والأمر المؤكد هو أن عبد الكريم الخليل هو أحد الرواد الأوائل للحركة القومية العربية المعادية للاستعمار كائنًا ما كان شكل ذلك الاستعمار ومضمونه. واسم عبد الكريم الخليل يرد كثيرًا في الكتابات التاريخية التي تناولت بدايات الفكرة العربية في بلاد الشام، ويتردد أكثر في الروايات المتعددة عن شهداء 21/8/1915 الذين عُلقوا على مشانق بيروت. لكن، من الصعب أن نعثر على كتاب جامع يتناول المسيرة اللامعة لهذا المناضل ويفيه حقه بالفعل، إلى أن صدر هذا الكتاب الذي اشتغل عليه الأستاذ يوسف خازم بدأب النحلة وصبر النملة حتى جاء على هذا النحو من الدقة والإحاطة والشمول والتفصيل.

بين يدي الكتاب

كتاب يوسف خازم الموسوم بعنوان "عبد الكريم الخليل مشعل العرب الأول" (بيروت: دار الفارابي، 2017)، هو سيرة حياة عبد الكريم الخليل منذ مولده في برج البراجنة، القريبة من بيروت، في عام 1884، حتى إعدامه في بيروت عام 1915. ويوسف خازم في هذا الكتاب ليس صحافيًا كما عرفناه في جريدتي "السفير" و"الحياة"، وليس خبيرًا في التوثيق كما هو اختصاصه الأكاديمي، بل فوق ذلك كله باحث في التاريخ. وقد أنجدته خبراته التوثيقية وصلته بالشهيد عبد الكريم الخليل، في أن يأتي هذا الكاتب على ما هو عليه من دقة وموضوعية. فالشهيد هو عم والدة الكاتب، ووالدة الشهيد هي عمة جد الكاتب لأبيه، ولذلك انفرد يوسف خازم، في أثناء تأليفه هذا الكتاب، بالحصول على روايات شفهية مهمة سجلها لجده زين الخليل (شقيق الشهيد)، وروايات أخرى كانت تتردد بين أبناء العائلة، أمثال والدة الكاتب وأخواله وخالاته. وقد جال المؤلف بين الروايات الشفهية، وفتش عن الأوراق الشخصية المتناثرة هنا وهناك، وعاد إلى المراجع الكثيرة عن تلك الحقبة، لتأتي خلاصة ذلك التجوال في صورة كتاب مهم من جميع جوانبه: الدقة في المعلومات وفي تدوين مصادره، والإحاطة في البحث، والتوسع في الهوامش الإيضاحية، والعثور على معلومات جديدة تمامًا، علاوة على اللغة الروائية المحببة في طريقة سرده لسيرة عبد الكريم الخليل. فالكتاب إذًا هو سيرة شخص، وتأريخ لحقبة مهمة من تاريخ بلاد الشام معًا، وهو يتصدى بالبحث لظهور جمعية الاتحاد والترقي وحزب الحرية والائتلاف المعارض للاتحاد والترقي، وكذلك لحزب "تركيا الفتاة"، وهجرة اليهود إلى فلسطين في عهد السلطان عبد الحميد، وخلع عبد الحميد وحروب البلقان وسياسات التتريك وظهور النزعة القومية التركية (الطورانية)، ويُفرد فصلًا مطولًا عن المؤتمر العربي الأول في باريس الذي كلف عبد الكريم الخليل التفاوض مع الأتراك لتنتهي عملية التفاوض بتوقيع اتفاقية بين جمعية الاتحاد والترقي وممثلها طلعت بك، وزير الداخلية، والشبيبة العربية وممثلها عبد الكريم الخليل في تموز/ يوليو 1913.

يكشف الكتاب معلومات تنشر لأول مرة عن دور عبد الكريم الخليل في النهضة العربية وتأسيسه أول جمعية عربية سرية في اسطنبول عام 1905، وعن التجسس الصهيوني ومحاولات اختراق الصهيونيين لجمعية المنتدى العربي التي أسسها الشهيد عام 1910. ونعثر في الكتاب على الاسم الحقيقي لعبد الكريم الخليل وهو قاسم الخليل، وعلى تفصيل مشاكلة الاسمين وكيف جرت الوقائع ليصبح قاسم الخليل هو نفسه عبد الكريم الخليل. وفي الكتاب مراسلات للمؤرخ عجاج نويهض تتعلق بالشهيد، وهي تنشر لأول مرة، وعرض للمنتديات والجمعيات التي أسسها أو شارك في تأسيسها مثل جمعية الشبيبة العربية (1905)، وجمعية النهضة العربية (1906)، والجمعية القحطانية (1909)، وجمعية العهد (1913)، وهي كلها جمعيات سرية، فضلًا عن جمعية الإخاء العربي – العثماني (1908)، وجمعية المنتدى الأدبي (1910)، وهما علنيتان.

نحو المشنقة

كانت غاية عبد الكريم الخليل تأسيس دولة عربية منفصلة عن الدولة العثمانية، وبلغ ذروة سعيه إلى هذه الغاية بمحاولته إشعال ثورة في بلاد الشام ضد الأتراك في عام 1915، خصوصًا في جبل عامل وفلسطين. وانهمرت الوشايات ضده من شخصيات متعددة الغرضيات والمصالح، أمثال أسعد الشقيري (مفتي الجيش التركي الرابع ووالد أحمد الشقيري الذي أسس، في ما بعد، منظمة التحرير الفلسطينية)، وكامل الأسعد (الزعيم الأبرز في جبل عامل)، والأديب الصهيوني الروسي الأصل ألتر اسحق ليفين، الذي كان يوقع كتاباته باسم أساف هاليفي والذي وُجد مشنوقًا في عام 1933 ويُعتقد أنه انتحر في الذكرى العاشرة لوفاة ابنته. ويروي الكتاب، بإسهاب ممتع، حكاية اعتقال عبد الكريم الخليل وسوقه إلى محكمة الديوان العرفي في بلدة عاليه (من أعمال جبل لبنان)، ومحاكمته وأيامه الأخيرة قبيل إعدامه. ويوثق المؤلف شهادات عدد من الأشخاص الذين إما التقوه في السجن أو شاهدوا عملية إعدامه، ويسرد سِيَر جميع الذين أُعدموا في ساحة المرجة في دمشق وفي ساحة البرج في بيروت بين 1915 و1916. وقصارى القول في هذا الميدان إن الأتراك الذين أهالوا التراب على جسد عبد الكريم الخليل في عام 1915 عجزوا عن إهالة الركام على اسمه وتاريخه، وها هو يوسف خازم يعيد إحياء سيرة رجل صنع خلال 31 عامًا فقط من العيش ما عجزت عنه قبائل وسلالات ما برحت تحكم شعوبها باسم الدين وبالحديد والنار والأصفاد.