Print
مناهل السهوي

مصورون فلسطينيون بمرمى نار الاحتلال: مواجهة الصورة للرصاصة

4 سبتمبر 2019
فوتوغراف
لم يعد التصوير الفوتوغرافيّ فناً يوثّق اللحظة أو يُظهر جمالية خاصة للأماكن والأشخاص وحسب، فهو أيضاً حسب سوزان سونتاغ (طقس اجتماعي وحصانة ضد القلق وأداة للقوة). وتذهب سونتاغ أبعد من ذلك، فحين ينتابنا الخوف نطلق الرصاص، وحين ينتابنا الحنين نطلق الصورة! وربما هذه العبارة هي ميزان القوى الذي سنتحدث فيه اليوم في هذا التحقيق الأقرب إلى المحاولة التوثيقية.
يقاوم الاحتلال الإسرائيلي الوجود الفلسطيني بكلّ ما يمتلك من وسائل، وهو إذ يطلقُ الرصاص نحو الفلسطينيين فذلك بدافع الخوف من وجودهم بحد ذاته. في المقابل اختار الفلسطينيون المقاومة والبقاء بوسائل أقل وحشيّة، بوسائل الإنسان الذي لا يعرف سوى فلسطين أرضاً وسماء وبيتاً.
حمل بعض الفلسطينيين الكاميرا كسلاح له ذاكرةٌ طويلة من الحنين والتوق والتمسّك، موثقين ما يجري على أرضهم في محاولةٍ لكسرِ الحصار وإيصال أصوات أولئك الضعفاء. فإذا ما تواجد هذان السلاحان، سلاح الخوف وسلاح الحنين، أستكونُ المواجهة عادلة؟ قد لا تكون كذلك في 
معناها الواقعي وقد يبدو أن الكفّة لن تكون لصالح الكاميرا، لكن مهلاً! تُسْكِت الكاميرا أيضاً اللحظات، تُسْكِتُها على شكل صورةٍ تستمر، إذاً فعملُ الكاميرا هو المدى البعيد لا ذلك الذي ينتهي في لحظة إطلاق الرصاصة! وأكثر ما قد يخيف الاحتلال هو أن تستمر كلّ لحظات مقاومة الفلسطينيين له.
تعاني الصحافة الفلسطينية كلّ يوم من التضييق بكافة أشكاله وقد يكون المصورون الصحافيون وغيرهم من أكثر المستهدفين، فالصورة خطيرةٌ وفيها من الحقيقة ما يثير رعب الاحتلال، ولن تصدمنا قائمة الجرحى التي تطول من مصورين صحافيين بإصابات متعددةٍ ابتداءً من القنابل المسيلة للدموع وغاز الأعصاب حتى الموت، لكن أمن الصدفة أن تكون العديد من الإصابات في القدم وكأنَّ القناص الإسرائيلي لا يرى سوى تلك الأقدام؟ ألا يجعلنا ذلك نفكر أنّه يريد لهذه الأجساد أن تغدو عاجزة عن حمل الكاميرا! كذلك يعاني الجرحى من صعوبة الرعاية الصحية في كثير من الأحيان، فالمشافي ليست كافية دوماً لإجراء بعض الفحوصات والعمليات الخطيرة ليمارس الاحتلال تضييقاً إضافياً ويمنعهم من العلاج في القدس والخارج مما يتسبب في تدهور الكثير من الحالات.
قائمة الجرحى طويلةٌ جداً، وتسلط "ضفة ثالثة" هنا الضوء على بعض الإصابات التي حدثت خلال مسيرات العودة في قطاع غزة تحديداً:


يوسف الكرنز.. بُتِرَت قدمُه في يوم الأرض
إذا أردنا الحديث عن استهداف المصورين من قبل الاحتلال الإسرائيلي، لا بدّ من العودة إلى أوّل إصابة في مسيرات العودة والتي كانت من نصيب الشاب يوسف الكرنز من مخيم البريج في قطاع غزة.

درس يوسف الإعلام لكن حياته تغيرت بالكامل بتاريخ 30 آذار/مارس 2018. فخلال تغطية يوسف لمسيرات العودة على مسافة تُقدر بحوالي 800 متر استهدفه قنّاص الاحتلال الإسرائيلي برصاصتين متفجرتين، الأولى في قدمه اليسرى، والثانية في قدمه اليمنى بعد محاولة يوسف الاستناد عليها والنهوض. الشاب الذي أصيب في يوم الأرض، لم يعلم من حوله بإصابته إلّا حين بدأ بالصراخ مؤكداً أنه استُهْدِفَ بسلاح كاتم للصوت. للأسف لم تتم السيطرة على الإصابة من الدرجة الأولى ومكث يوسف أسبوعاً في العناية المركزة، خسر إثرها قدمه اليسرى.
يقيم يوسف اليوم في بيت لحم لتلقي العلاج، وكنتيجة لهذه الإصابة لم يتمكن من العودةِ إلى التصوير لكنّه توجه إلى الحياة بطريقةٍ أخرى متحديّاً الألم وخسارة قدمه فقام بمبادرة (تحدي الأبطال) حيث قام مع مجموعة من الفلسطينيين الجرحى بتحد رياضي بدني.


صافيناز اللوح.. تسع إصابات

من المصورين الذين أصيبوا أكثر من مرة الشابة صافيناز اللوح والتي أصيبت 9 مرات منذ بداية مسيرات العودة، كانت الإصابة الأولى في منطقة ملكة والثانية في منطقة أبو صفية شمال قطاع غزة حيث أصيبت بكسر في الكاحل الأيمن أمّا الإصابة الثالثة فكانت في منطقة زيكيم شمال قطاع غزة برصاص حيّ قطعَ الوتر في إصبع السبابة في اليد اليسرى، أما آخر الإصابات فكانت في مخيم البريج في الجمعة رقم 66 من المسيرات والتي أصيبت خلالها برصاصة مطاطية وقنبلة غاز في الظهر أدت إلى شعر في الكتف الأيمن.
كلّ الإصابات التي تعرضت لها صافيناز لم تمنعها من العودة مرة أخرى وتصوير المواجهات لأن مهمتها وحسب قولها هي نقل الحقيقة، ورغم معرفتها بخطورة الوضع ورغم كلّ إصاباتها السابقة تعود صافيناز إلى حمل الكاميرا مؤكدةً أنها لا تتعمد الاقتراب من الاحتلال الإسرائيلي لكنّه هو من يتعمد استهداف الصحافيين.



عطية درويش.. قنبلة غاز في الوجه
أصيب المصور عطية درويش يوم 14 كانون الأول/ديسمبر عام 2018 بقنبلة غاز بشكل مباشر في الوجه، شرق مدينة غزة، أجريت له عدة عمليات في العين وتدخل جراحي عاجل في الوجه والفك، بسبب تهشم محيط منطقة العين اليسرى، الأمر الذي أدى الى فقدان 80% من النظر في ذات العين، حسب تقييم الأطباء في مستشفيات قطاع غزة، وجمهورية مصر العربية، بعد رحلة علاج استمرت شهراً. يحتاج عطية اليوم إلى عمليات جراحية أخرى بسبب تفاقم وضعه الصحي عن السابق، فقد تبين أن مركز سمع الأذن اليسرى أصيب بتمزق نتيجة النزيف الذي حدث فيها.
لم يعد درويش إلى التصوير كما في السابق لكنه يذهب بين الحين والآخر لالتقاط الصور على شاطئ غزة متمسكاً بالتصوير كطريقة للتعبير عن الألم والفرح على حد سواء مواجهاً الاحتلال بعين واحدة.



إسراء العرعير.. طلق مطاطي في الركبة
منذ بداية دراستها في الجامعة صورت الشابة إسراء الأحداث في غزة، بدأت المشاركة في

تصوير مسيرات العودة وكسر الحصار وكانت كما معظم المصورين قد اتخذت كلّ إجراءات السلامة للمحافظة على سلامتها الشخصية، في المقابل كان الاحتلال الإسرائيلي يستخدم قنابلَ محرمةً دولياً. أصيبت في بداية المسيرات بغاز الأعصاب وتمكنت من تجاوز الإصابة لكن بتاريخ 8/6/2018 تم استهدافها مرة أخرى بقنابل الأعصاب رغم عدم تواجد أي متظاهرين من حولها أو أي مظاهر للعنف وأخذت هذه المرة فترة أطول لتخرج من هذه المعاناة، وفي يوم وعد بلفور كانت إسراء بعيدة عن الحدود حوالي 300 متر لكن الاحتلال استهدفها في ركبتها اليسرى، وتشكُّ إسراء في أن الاحتلال تعمد استهدافها في هذه المنطقة، وأوقفتها الإصابة عن كلّ شيء وبقيت لمدة شهرين غير قادرة على المشي، وبعد العلاج والعمليات الجراحية تمكنت من المشي لكن أثر الإصابة لا يزال موجوداً. تعاني إسراء منذ تسعة أشهر، وخاصة أنها لم تعتد البقاء دون عمل، كانت ترغب بتغطية الكثير من الأحداث لكنها اليوم غير قادرة على الوقوف على قدمها والتصوير وفي يوم "مليونية" العودة بعد عام على انطلاق المسيرات حاولت إسراء العودة كمراسل تحرير أو مصورة فهي لم ترد حصر عملها في التصوير وحسب، ولكن إسراء التي يعرفها الجميع ليست قادرة على العودة كما السابق بسبب إصابتها.



أدهم الحجار.. طلق ناري في المفصل
أصيب المصور أدهم الحجار خلال تغطيته للأحداث الدائرة على حدود قطاع غزة بتاريخ 6/4/2018 بطلق ناري في المفصل أدى إلى تفتت رأس عظمة القصبة والفخذ وقطع في الأوتار والأعصاب، أجريت له عملية لوصل الأوتار لكنها لم تتكلل بالنجاح.
يعاني أدهم من سقط بالقدم وبعد أحد عشر شهراً أجريت له عملية في جمهورية مصر لتركيب شريح بلاتين لربط عظمة الفخذ ببعضها لكنه ما زال عاجزاً عن الحركة إلا بمساعدة العكازين أو أحد الأشخاص، يعتمد أدهم على مساعدة العائلة والمقربين منه في حياته اليومية ولا يستطيع إنجاز بعض الأعمال دون مساعدتهم، بات هذا الأمر يزعج المصور الشاب مفكراً بالوقت الذي ستنتهي فيه هذه المعاناة ويعود إلى حياته الطبيعية دون مساعدة أحد. يعاني الشاب الفلسطيني من مخاوف من تقلص العضلات، أمّا كمصور فقد أثرت عليه الإصابة بشكل كبير منتظراً اليوم الذي يلقي به العكازات ويعود لالتقاط كاميرته والقيام بمهامه كمصور صحفي.



فادي ثابت.. شظايا في القدم
أطلق القنّاص الإسرائيلي النار باتجاه المصور فادي ثابت رغم ارتدائه الدرع الصحافيّ والخوذة، كان يقف بعيداً عن المواطنين في مكان شبه مخصص للصحافيين، على بعد 200 متر من السياج الحدودي.
في يوم 19/10/2018 وشرق مخيم البريج أصيب فادي في الساق اليسرى بطلق ناري متفجر من قناص إسرائيلي، خلّفت الإصابة ضرراً بالغاً في عظم الساق مما أدى إلى تركيب جهاز بلاتين خارجي لتثبيت العظم بسبب وجود كسور وتهتك بالعظام، وما زال جهاز تثبيت العظم حتى اليوم، وكذلك ما تزال هناك شظايا داخل القدم بالإضافة إلى قطع بعصب القدم، خلّف ذلك أضراراً جسدية بالعظام والأعصاب والأوتار والأنسجة  في القدم بالإضافة إلى الأضرار النفسية التي يعاني من جرائها من عزلة اجتماعية والابتعاد عن العمل والمجتمع أثناء فترة العلاج وقد يؤثر ذلك بشكل مباشر على عدم قدرته على العودة إلى العمل الصحافي.



ياسر قديح.. رصاصة في المعدة
في يوم نقل السفارة الأميركية إلى القدس 14 أيار/مايو 2018 نزف المصور ياسر قديح

نصف ساعة في المستشفى دون إسعافه بسبب كثرة الإصابات. الرصاصة التي دخلت المعدة وخرجت من الحوض تسببت بالكثير من الضرر وتقطيع في الأمعاء والأوردة، وبعد دخوله العمليات فقد ياسر الوعي ليستيقظ بعد يومين. تعرض في الفترة اللاحقة للكثير من العمليات، وقف إلى جانبه العديد من الصحافيين وأهل القدس التي نقل إليها لاحقاً لاستكمال العلاج، وعاد بعدها إلى غزة لكنه احتاج بعد ثلاثة أشهر إلى إجراء المزيد من العمليات التكميلية لكن الاحتلال منعه من الدخول أربع مرات فاضطر إلى إجراء عمليات خطيرة في غزة مما تسبب له بالكثير من المضاعفات. لا يزال ياسر يعاني من استهداف الاحتلال له ومن منعه إجراء باقي العمليات في القدس مكملاً رحلة علاجه الصعبة بين مصر وتركيا.
قلبت الإصابة حياة المصور الفلسطيني رأساً على عقب، بات يفعل كلّ شيء بصعوبة، مزاجه متقلّب على الدوام مع الكثير من التوتر والعصبية، إضافة إلى أنّه عاجز اليوم عن ممارسة مهنته في التصوير وهواياته، حاول العودة إلى التصوير لكن مضاعفات الإصابة منعته من ذلك وخصوصاً الألم في ظهره.

*****

في النهاية تطول القائمة يتبعها الكثير من المعتقلين والشهداء، منهم الشهيدان ياسر مرتجي وأحمد أبو حسين، اللذان استُهدفا خلال مسيرات العودة وفقدا حياتهما. وتترك الإصابات آلاماً ومعاناةً على المدى الطويل.. إنّه الثمن الباهظ للحياة وللمقاومة، حيث تغدو الصورة سلاحاً تترتب على التقاطها صعوبات كثيرة، صعوبات لا تردع الفلسطينيين عن حمل الكاميرا مرة تلو الأخرى في مواجهة للرصاصة.