Print
أنور محمد

سامي عبد الحميد.. المسرح حصان الحريَّة

30 سبتمبر 2019
مسرح

الكاتب والممثِّل والناقد والمخرج المسرحي العراقي سامي عبد الحميد (1928- 2019) الذي فارقنا منذ أيام، والذي يُعتبر مع يوسف العاني وإبراهيم جلال أحد المؤسِّسين الكبار للمسرح العراقي، كان يحرص أنْ لا يكون أعمى بين مُبصرين، ولا أعورَ بين عميان. كان مُبصراً يرى بنور عقله، فتنبع التراجيديا عنده من روحه. لمَّا اشتغل "هاملت عربياً" فعل كما فعل جاسون فأعلن حقَّه، وليس كما فعل هاملت الذي استعان أو قَبِلَ بالأشباح تحفِّزه لينتقم من عمِّه قاتل أبيه وزوج أمِّه.
سامي عبد الحميد يحفر في الذات الإنسانية حفراً عميقاً حتى تفيق الوحوش النائمة فيها، فيكتب ويمثِّل ويخرج مسرحياته. هو يفرجينا هذه الوحوش وشهوتها الذئبية للدم. يُمثِّل، يُخرج بوعي روحي وشعور حدسي أثيري. في مسرحيته "غربة"، التي مثَّل دور شخصيتها الوحيدة كونها "مونودراما" عن فكرة حسن السوداني وإعداد جمال الشاطي وإخراج كريم خنجر وهو في الخامسة والثمانين من العمر، كان يرفض موت العقل، فنرى اندفاعاته تحاكم من باعَ العراقي والسوري و.. من باعَ فلسطين، وأم الدنيا، وهو يتجوَّلُ في البلدان لاجئاً كرقمٍ مُهان، مُداسٍ بالأقدام على الحدود، فنراه يهدر، يعصف للخروج من القفص العربي، من السجن العربي. فالمواطن عراقياً، جزائرياً، سورياً.. ليس جثَّةً أو جثَّةً فكرية. هذا المُهجَّر، المقلوع، المُجتَّث بأيدي الحكَّام والمرمي في البحار والقفار، ليس غير إنسان بسيط بفكرٍ طفولي، لكنَّه لمَّا وُلِدَ وُلِدَ وهو يخشى الموت. إن ثار أو تثوَّر أو رفضَ ولم يُذعن لأوامر راعي الدولة الأمنية فسيُقتل ويُسحل، فيدعونا لأن نُقايضَ الحياةَ بالموت.

هو في مسرحية "غربة" يريد أن يقتل الوحش، أن يقتل الموت، فتراه ممثلاً متحدِّثاً وفاعلاً، وبانفعالٍ ذي عنفوانٍ قوي يمثِّل ويلعب، يمثِّل ويشخِّص ويلعب، كأنَّه نواةٌ ناريةٌ لا تطفئها ظُلمةُ العَدَمْ. وجودٌ ضدَّ العذاب الأبدي. لماذا نلاقي حتفنا في الأوقات غير المناسبة، ولماذا يدفعوننا لنموت عنهم- لسنا ذئاباً ولا دببة، ولا شهوداً ولا ضحايا. سامي عبد الحميد وهو يحمل سنوات حياته الواحدة والتسعين في مسرحياته كما في مسرحية "غربة"، مسرحي جدلي نقدي يمتلكُ وعياً فلسفياً عقلانياً ليبرالياً هدفهُ فكُّ قيد العبودية عن الإنسان. سامي في مسرحه كاتباً وممثلاً ومُخرجاً يعرف أنَّ البطَّ يركض ويستمر في الركض بعد قطع رأسه. هو يمسك بهذه؛ بلحظة الركض، فالحياة الحقيقية هي ملاكمة، فعل ملاكمة- ولكنَّها على الخشبة ملاكمة مسرحية؛ بين أسود وأبيض، أحمر وأزرق، أعمى وأعور. سامي عبد الحميد ممثلٌ ومُخرجٌ تجتذبك شخصيته؛ تجريبي، كلاسيكي، واقعي، تعبيري، عقلاني، مجنون، زاهد، ثائر. ولكن مَنْ ذا الذي شال مشروع النهضة العربية وسرق فلسطين من بين (يدي الله) ووضعهما تحت (يدي الشيطان)؟؟. فتنهار الدولة العربية، تتفسَّخ حضارياً، تصير لا دولة. هذا السؤال يدور من مسرحية إلى مسرحية أكان ممثلاً أو مخرجاً لأنَّ عبد الحميد يرفض أن نعيش المأساة، ويرفض أن تستمر وبهذا العنف العاري والضاري. إنَّ ما نعيشه من حروب ومجاعات من الماء إلى الماء يشكِّلُ جوهر المأساة العربية في مسرح عبد الحميد، تراه وهو يمثِّل كأنَّه يطارد القاتل الذي يريق الدماء بهذا الجنون؛ في المطارات، في الموانئ البرية والبحرية، على الحواجز. هذا غير المعتقلات والزنازين. إنَّه يقشِّر جلد الخوف والغدر والنذالة لنصير أعمق وأقسى وأقوى. إنَّها مأساة الرعب التي يورثها الحاكم للحاكم والمُستعمِرُ للمُستعمِر في عملية تبادل أدوار. كفى ضحايا بشرية، كفى جنازات، فما يحدث لا يتفق وحقيقة الروح الإنسانية فليسَ كلُّ قتيلٍ مذنب؛ هذه ديدمونة، هذه جولييت، هذا روميو. إنَّها كائناتٌ مسرحية تمتلك صفاتٍ روحية سامية، واندفاعاتها وهي ذاهبة إلى حتفها تزيد من جمالها.
سامي عبد الحميد وفي هذا الزمن العربي يعرف أنَّ حرية الروح تصطدم بالديكتاتور الذي يوقف بأمرٍ منه كلَّ نشاطٍ عقلي. لذا تراه لا يكسر سيفه حتى لا يخون إحساسه الواقعي والتاريخي. ويشتغل، يصرُّ على الصدام الاجتماعي، فلا رقَّ ولا إقطاع ولا عبودية فالمسرح حصان الحريَّة. ومن يقرأ أفكاره المسرحية وهي تتجسَّد على المسرح سيرى أنَّها تعبِّر عن حدس الصيرورة والتكوُّن- ليست أفكاراً رعوية، لقد بقي سيِّد فكره، متمرداً جباراً ذا روحٍ نارية بركانية، ولكنَّه في المقابل كثيرُ التواضع، لا ينحني، صاحبُ قلبٍ شجاع باركته العبقرية. ولذا في نهاياته المسرحية تراه منسجماً مع تفكيره مهما كانت الشخصيات يائسة وبائسة، ويعبثُ في روحها الجلادُ، فهي لا تصلُ إلى الانهيار المأساوي- لا تسقط، وكما يختم مسرحية "غربة": أَعتَرِفُ، هَبْني اعترفتُ. هل تصلبونني كما صلبتم المسيح؟ أبداً لا أبوح بالسر، لا.. لن أبوحْ.

*ناقد سوري