Print
هاني حوراني

في وداع كمال بلاطة الذي "سكن اسمه"

27 أغسطس 2019
تشكيل
في الحالة العربية قلما صنعت الفنون التشكيلية نجوماً ثقافية، كما هيِ الحال مع الشعر والرواية، إلا أن الفنان الفلسطيني الراحل كمال بلاطة (1942-2019) كان من بين قلة من التشكيليين العرب الذين شكلوا حالة استثنائية من النجومية الثقافية، ليس فقط بفضل اللغة التشكيلية التي اجترحها، والتي مزجت ما بين الحروفية والحداثة الغربية، وصولاً إلى ما يشبه المعادل البصري للقصيدة الشعرية، وإنما أيضاً بفضل مساهماته التنظيرية والنقدية وترجماته وأعماله التصميمية الأخرى.
من الصحيح أن هوية كمال بلاطة تحددت كرسام، أو كفنان تشكيلي، بالمقام الأول، لكن تنوع انشغالاته الثقافية وسعة مساهماته النصية في مجالات الفن المعاصر والفنون الإسلامية والتأريخ البصري الفلسطيني، ومبادراته الأخرى في الترجمة المبكرة لشعراء كبار إلى الإنكليزية، مثل محمود درويش وأدونيس، وفي أعمال التصميم الطباعي لعدد كبير من الملصقات الفلسطينية وأغلفة الكتب والمجلات الثقافية جعلت منه شريكاً حاضراً في العديد من حقول الثقافة والفنون العربية.
كنت قد تعرفت في مطلع شبابي المبكر على كمال بلاطة، في بداية الستينات من القرن الماضي، حين تزاملنا في معرض فني مشترك مع آخرين، من بينهم منى السعودي، النحاتة الأردنية المعروفة. ورغم أني لا أذكر شيئاً عن أول مشاركتي في ذلك المعرض الذي نظمته جمعية الشابات المسيحية في مقرها، في عمان، إلا أني لم أنس مشاركة كمال بلاطة الشاب، الذي ربما لم يتعدى حينها سن العشرين عاماً، وكانت عبارة عن أعمال منفذة بالأحبار والألوان
المائية لمشاهد من أزقة القدس وحاراتها، مرسومة بأسلوب واقعي ويغلب عليها اللونان البني والترابي.
كانت تلك سمة أعمال كمال بلاطة الشاب، ربما تحت تأثير دراسته في السنوات الأولى من التحاقه بأكاديمية روما للفنون الجميلة (1961 / 1965)، حيث بدت كما لو أنها أقرب إلى التخطيطات الأكاديمية، قوية الخطوط ومتقشفة الألوان، بيد أنه لا أثر فيها لتدريبه على يد صانع الأيقونات المقدسي خليل الحلبي قبل ذلك التاريخ، إذ كان أميل ما يكون إلى رسم المشاهد الطبيعية والوجوه، من محيطه الخاص، منه إلى الرسم الأيقوني، رغم أن ذاكرة بلاطة البصرية ظلت حافلة بالصور الأيقونية من حياته المبكرة في القدس.
ليس هناك الكثير مما نعرفه عن الفنان المقدسي ونتاجه إبان دراسته في روما، ومن بعد التحاقه بمعهد متحف كوركوران للفنون في العاصمة الأميركية، واشنطن، حيث أمضى فيه ثلاثة سنوات دراسية (1968/ 1971). فمن بعض الأعمال المنشورة له، في تلك الحقبة، يبدو أنه تقلب ما بين عدة اتجاهات فنية مثل الانطباعية والتعبيرية. ونعلم أيضاً أن حرب حزيران/ يونيو 1967 داهمته وهو في زيارة لبيروت للاتفاق على إقامة معرض شخصي لأعماله في "جاليري واحد" ليوسف الخال، صاحب مجلة "شعر"، ومنذ ذلك الحين فشلت محاولاته للعودة إلى القدس، مسقط رأسه وموطن عائلته منذ مئات السنين، تحت تأثير قوانين الاحتلال الإسرائيلي.
وهكذا أمضى كمال بلاطة نصف قرن ونيف من حياته متقلباً ما بين عدة مغتربات، أطولها في الولايات المتحدة حيث أمضى نحو ربع قرن فيها (1968/ 1992)، ثم المغرب (1993/ 1996) وفرنسا (1997/ 2012)، وأخيراً ألمانيا (2013/ 2019).


هويته الفنية
تشكلت هوية كمال بلاطة الفنية خلال العقد الأول من إقامته في الولايات المتحدة، مع نضوج لوحته الحروفية، التي شغلت المرحلة الأطول والأهم في مسيرته الفنية. كانت حروفية كمال بلاطة نتاج مزجه البارع ما بين الخط الكوفي التقليدي (ولا سيما المعروف بالكوفي المربع، أو الكوفي الهندسي) وما بين الفن البصري المعروف باسم (Op Art) المتميز بالرتم أو التكرار للأشكال أو الرموز فيه، وبالألوان الصريحة. وقد أعطى هذا التوليف ما بين هذين الجذرين، المتباعدين زمنياً وثقافياً والمتقاربين بصرياً، لغة خاصة لحروفيات كمال بلاطة.
إن معرفة كمال بلاطة بالإرث الجمالي البيزنطي والإسلامي وذاكرته التي اختزنت الكثير من

معالم القدس القديمة، كما كان يراها من نافذة بيئته منذ طفولته، ودراسته المعمقة للخط العربي من ناحية، ومعايشته، في مغتربه الأميركي، أحدث صرعات الفنون البصرية، مثل الـ(Op art) والـ(Pop art)، من الناحية الثانية، قد مكنته من القيام بهذا التوليف البارع ما بين الخط الكوفي والفن البصري، لإنتاج لوحة حروفية حداثية.
من المعروف أن الخط الكوفي لم يكن فقط من أقدم الخطوط العربية، وإنما هو أيضاً من أجملها، حيث استخدم مبكراً في كتابة المصاحف وعناوين السور القرآنية، وفي تزيين واجهات المساجد، والمباني العامة منذ العصور الإسلامية المبكرة، وقد وجد ازدهاره الكبير في العصر العباسي. والواقع أن إتقان الخط الكوفي أقرب ما يكون إلى الفن منه إلى الحرفة، ويتطلب خيالاً وحلولاً جمالية مبتكرة في تحويل الكلام إلى لوحة خطية. وهذا ما برع فيه كمال بلاطة، هذا إلى جانب استعانته بثقافة واسعة لتضمين لوحاته الحروفية باقتباسات ذكية من الإرثين الديني والصوفي.
لم يستفد بلاطة وهو ينتج لوحته الحروفية، من مخرجات الفن البصري الأميركي على صعيد اللون والإيقاع أو الرتم فقط، وإنما وظف أيضاً التقنيات التي لجأ إليها العديد من فناني الـOp art والـPop art، بمن فيهم أندي وورهول Andy Warhol، ونعني بها تقنيات الطباعة على الحرير، التي سمحت له بإنتاج اللوحة الواحدة بعدة خيارات لونية مختلفة، وكذلك بعدد نسخ غير محدودة، حيث كانت توشح بترقيم متسلسل للنسخ المطبوعة، إلى جانب تاريخ إنتاجها والتوقيع الشخصي له قبل عرضها وتداولها.
طافت حروفيات كمال بلاطة، خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، أبرز مدن وعواصم العالم، مثل العاصمة الأميركية - واشنطن ونيويورك وباريس ولندن وأمستردام وموسكو وأوسلو وطوكيو، فضلاً عن العواصم العربية والخليجية، واقتنيت أعماله من قبل العديد من المتاحف والمجموعات الفنية عبر العالم.


مرحلة جديدة
خلال النصف الثاني من التسعينيات دخل كمال بلاطة مرحلة جديدة من رحلته الفنية، منتقلاً من الحروفية التي اشتهر بها إلى الانشغال بالمربع، لكن بعيداً عن "الكلام" الذي كان يشغل

مساحته من قبل. يقول بلاطة في هذا الصدد: "أضحت الهندسة مركزية في عملي منذ نهاية العقد الأول من إقامتي في الولايات المتحدة" حيث ارتكز عملي على شكل المربع"، ويضيف: "وفي غضون عقد من الزمن تبين لي أن الإيقاعات الخطية للكلمات الهندسية أخذت تتحداني وتطرح عليّ أسئلة في موضوع التساوق. أما الكلمات المرتكزة على المربع فقد أخذت تتلاشى نهائياً في عملي، ولم يصبح المربع ذاته موضوعاً مركزياً في عملي فحسب، بل بات أيضاً وسيلتي للبدء باستكشاف الإيهام بالتساوق". ويبدو أن رحلة بلاطة إلى قصر الحمراء، في غرناطة، قد أطلقت جماح تحوله نحو الاهتمام "بأكثر الأشكال الهندسية استقراراً"، وقد تتوجت دراسته وتخطيطاته التي بدأها في غرناطة بإنتاج أعماله التي حملت اسم "سُرة الأرض"، وعرضت في دارة الفنون في العاصمة الأردنية، عمان، عام 1996.
وإذ لا يتسع المجال هنا لسرد رحلة كمال بلاطة مع استكشاف المربع (انظر مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 96، خريف 2013، ص30-41)، فإن أهم معالم أعمال هذه المرحلة هو هيمنة تشكيلات مربعة على فضاء اللوحة، موشحة بغلالات من ألوان الأكريليك الشفاف، ما أحالها إلى ما يشبه اللوحات المائية. فهو يريدها "عذبة كمياه النبع، نيرة كالزجاج" كما كتب في مقالته المنوه إليها أعلاه.
مع دخوله في الألفية الثانية، وبشكل خاص خلال العقد الأخير، بدا وكأن كمال بلاطة أزاح عن كاهله هاجس المربع واحتمالاته التشكيلية وانتقل إلى فضاء أوسع من "التجريد الهندسي". فهو من ناحية حافظ على انشغاله القوي باللون، لكن بدلاً من التكوينات المربعة التي كانت تتقاطع وتتشاطر فضاء لوحته حلت محلها شرائح ومساحات طولية، أو عرضية متعددة الألوان، غالباً

متوهجة، نقية وشفافة.
ومع أن المعارض التي حملت أعمال مرحلته الأخيرة إلى العديد من العواصم العربية والأوروبية، اتسمت بأسماء إرثية، مثل "بلقيس" و"كان النور" وغيرهما، إلا أن السمة العامة لها هو تحررها شبه المطلق من الأحمال الثقافية و"الهوياتية" التي ميزت أعماله المبكرة وغالبية مسيرته الفنية. فهي "روحانية" و"متوسطية" الألوان، لكنها عالمية وتجريدية أكثر فأكثر.
وربما ينطبق على لوحة كمال بلاطة في مسارها المضني خلال السنوات الخمسين الأخيرة، ما ينطبق على الفنان نفسه، الذي وصف حاله بعد ابتعاده القسري عن وطنه وبلده، وتقلبه بين عدة منافي ومغتربات، بأنه بات "يسكن اسمه" بدلاً من أن يسكن بلده، كما اقتبس ذات مرة عن جون بيرس. فها هي لوحته أيضاً وقد بات وطنها النهائي الجمال والفضاء الإنساني.

* رسام وباحث في الفنون البصرية.