Print
أسعد عرابي

كيف يترجم بول كلي اللامرئيّ إلى مرئيّ

14 أغسطس 2019
تشكيل
ماذا يستخرج الفنان من خزان ما يلتقطه بصره من العالم كل يوم؟ بول كلي يقترح في معارضه التعددية الراهنة أو المتعاقبة مع كل موسم، فيراودنا منهجه الرؤيوي كل مرة مع كلمته النبوئية: "تحويل اللامرئي إلى مرئي"!
أحب أن أتوقف هنا عند نصيحة الفنان بابلو بيكاسو: "أتمنى من زملائي المصورين أن يغمضوا أعينهم ويعصبوها بأيديهم قبل البدء في تحسس بداية اللوحة أو مداهمة فراغها العدمي".

***

منذ عدة سنوات قرر "متحف بول كلي" الذي يحمل اسمه في برن بسويسرا أن يلتزم بإقامة معرض خاص لأعماله كل عام، فأصبحت معارضه تتقاطر وتتوالى بكثافة استثنائية في المونوبولات المتحفية الأوروبية والأميركية، وقد ثبت من خلال هذه العروض أن أصالة هذه الفنان الاستثنائية جعلته متعدد الإبداع، كمصور وموسيقي أولاً، وممارس لشتى أنواع الفنون التشكيلية ثانياً، وبحيث لا يمكن استنفاد خصوبة تجاربه واكتشافاته الدؤوبة دون ملل أو كلل، فهي معارض مثيرة لا تقترف أي تكرار. هو ما وسمه النقد "بألغاز بول كلي"، فإذا ابتدأنا من معرض برلين عام 2008م ومعرض روما 2012م، وجدنا أن أبرز هذه الأحداث أقيم في متحف الموسيقى في باريس ما بين عامي 2011و2012 بعنوان تعددية الأنغام والألوان بمصطلح موسيقي مختزل هو: "البوليفوني" (تعرضنا له بالدراسة في حينه) ثم استمرت هذه الباقة عام 2014م في "تات غاليري" أبرز مواقع العرض في لندن في معرض استعادي هو الأكبر والأعم، يحيل عنوانه إلى تعريفه المختزل والشائع للفن بأنه: "تحويل اللامرئي إلى مرئي". كما تشمل حساسية معرضه الراهن في برن فكره الروحي التصوفي، من خلال تعدديته الأدائية أو التقنية، تتراوح بين اللوحات الزيتية على قماش واللوحات المائية على

الورق، ثم المحفورات الطباعية (على المعدن) وتصميم العرائس النحتية.
هو من مواليد ألمانيا عام 1879م ومتوفى في برن سويسرا عام 1940م عبوراً من استقراره لسنوات في ميونيخ لمتابعة دراسته التشكيلية والموسيقية، فقد تفتحت موهبته كعازف محترف على الكمان في أحضان عائلة موسيقية في منزل والديه، ثم أصبح ضمن فرقة الأوركسترا العامة في المدينة كما أسلفنا.
تمثّل سنوات إنتاجه الفني في محطة ميونيخ انعطافاً أسلوبياً وروحياً ملفتاً، وذلك جزئياً بسبب تحالف نشاطه مع توأمه الفكري واسيلي كاندينسكي الروسي المهاجر من الثورة البلشفية. أثمر لقاؤهما تأسيس أبرز جماعة في تاريخ الحداثة في ألمانيا عام 1911م، هي "جماعة الفارس الأزرق"، التي تعانق أيضاً فنانين رواد بمستوى جاولنسكي، وفرانز مارك، وفننغر. يطلب منهم المهندس غروبيوس مؤسس "مدرسة الباوهاوس" في وايمر عام 1920م الالتحاق بهيئة التدريس فيها، وكان بول كلي ألمعهم في تدريسه لمادة الزجاج المعشق بما تشتمل ذاكرتها من روحانية كنسية وإسلامية وحداثية. أما كاندينسكي (أول تجريدي) فكان يدرس مادة الفريسك (التصوير الجداري) مؤكداً على إحكام التكوينات التجريدية وعلاقة الفراغ بالامتلاء. وذلك إلى جانب مدرسين نوابغ مثل فننغر وشنايدر وايتين وموهولي ناجي، جمعت حصصهم وطرائق تعليمهم العملية والنظرية في مؤلف نادر وبالغ الفائدة التربوية، تكشف مثلاً واحدة من الدروس الفنية العملية لبول كلي توزيعه على الطلبة زهوراً برية ساطعة اللون، على كل واحد إعادة تنظيم ألوانها على شطرنج مرسوم على ورقة، وبحيث يراعي برهافة موسيقية توزيعها وفق قواعد الهارموني والتكامل والاشتقاق اللوني، هي المدرجات الموسيقية التي درج على العبور من نوطاتها في تكوين الأشكال للعبور إلى روحانية اللوحة.
يتجسّد أبرز تحالف فكري بين الاثنين بتزامن كتابيهما عام 1910م وتغذي هذا التحالف النقاشات الدؤوبة بين الاثنين. يستحق الكتابان التوقف، ويبدو أن كتاب كاندينسكي أوسع قراءة من نظيره لدى كلي، وذلك بسبب عنوانه المثير الذي يمثل فكرة الثاني: "ما هو روحاني في الفن، خاصة في التصوير المعاصر"، يؤكد في النص على أن أبرز ظواهر البعد الروحي هو اتصال النواظم الموسيقية بالسمعية. ثم إنه "سيأتي يوم قرب أم بعد ستتحول فيه اللوحة إلى نوطة (مثل الكتابة الموسيقية) قابلة للتأويل من قبل عدد كبير من المنفذين الفنانين"، وطبق هذه الفكرة عملياً فنان من الجيل الثاني للباوهاوس في بودابست وهو فازاريللي باعتماده على تنويط السبرنيتيك المعلوماتي وتنفيذه من قبل معاونيه. من الحكمة استدراك حقيقتين بخصوص كاندينسكي، أن زوجته ذات أصول من المناطق المسلمة وعازفة بيانو من الدرجة الأولى تتسم بحنين المقام الشرقي كما هي حساسية رحمانينوف وتشايكوفسكي، ولم يكن كاندينسكي بعيداً عن موروث الفن العربي، وانعكس في مجموعته المعروفة باسم "عربيات". واخترع في أواخر

بحوثه "الأورغ الملون".
أما كتاب كلي الأكثر تجريداً: "النقطة – الخط – الدائرة"، فقد تقصى عمودياً أبجدية الإشارات الشمولية المعندة على الاندثار منذ عصر الكهوف باعتبارها أصل الأبجديات الكتابية، ثم عن تواصل رسوم الأطفال حدسياً مع الإيقاع الكوني الشمولي العام.
تعيدنا ملاحظة بول كلي: "تحول اللامرئي إلى المرئي" إلى جدلية "البصر والبصيرة" لدى أبى حامد الغزالي. نحن نتوهم بأننا نرى ما نراه، ذلك أننا نرى "وهم" ما نراه. نرى ما نحب أن نراه أو ما يرتبط بديمومة الذاكرة أو الحدس واللاوعي الجمعي أو الفردي. والخوض بالتالي في تحليل الآلية الفيزيائية لفعل رأى ضرب من العبث، كمن يبحث عن البقاء في الفناء.
العين تبصر ثم تنبصر، فتتحول المشاهدة إلى تبصّر، ثم إلى رؤيا داخلية نشير إليها روحياً "بالبصيرة". أما فعل رأى فهو أخفت بصيرة من شاهد، لأن مجاز الصفة الثانية يتواصل مع معاني الشهادة والشهود. في حين أن فعل رأى يمثل حادثاً عابراً متحولاً في بعده الزماني، أما اقتناص هوية الزمان من خلال المقام اللوني الانطباعي فهو يقود إلى عطالة ديمومة وسرمدية الزمان وسيولته "البرغسونية" المتقلبة بطبعها في اتجاه واحد لا يقبل التراجع. لم يبق بالنسبة لنا ولبول كلي سوى امتحان عين الحداثة في فعل رأى، أقصد الفيزياء الحديثة، (ففعل رأى هنا لا يعني رأى) وإنما يعني استثمار النتائج السبرنية للمراصد الفلكية السيارة أو الثابتة. إن فعل رأى هنا يعني معلوماتياً استخدام الأجهزة الراصدة للكون، ثم الاستنباط الرقمي أو الجبري لما هي عليه حالات الوجود الفلكي العام.
أما بصيرة اللوحة فهي أقدر تحقيقاً على تجسيد ما لا يُرى وتحويله (وفق بول كلي) إلى فعل الرؤيا.