Print
أسعد عرابي

فاساري والفرق بين النقد والانتقاد

11 يونيو 2019
تشكيل
يعتبر جيورجيو فاساري أول ناقد في تاريخ الفن الأوروبي، فهو المولود في إيطاليا عام 1511م في أريزا، ومتوفى في فلورنسة عام 1574م، أي فترة "عصر النهضة" الإيطالي.
هو مصور ومعلم كبير خلّف 73 لوحة عملاقة ملحمية بمستوى أعمدة ذلك العصر، ونذر كتابته لشهادة معاصريه النوابغ خاصة مايكل آنجل ورفائيل وجيوتو وليوناردو دافينشي. هجر منطقته "توسكانيا" التي كان يعشقها، ليستقر في روما محترف معاصريه، وليؤلف أبرز كتاب نقدي (عام 1568م) عن سيرة "أبرز المصورين والنحاتين والمعماريين" في عصر النهضة. وهو سجل توثيقي دقيق حافل بالتفاصيل الفنية الرهيفة، والبالغة الصبوة الاحترافية. من الضروري بمكان قراءته وإطلاع زملاء الكتابة الفنية العرب خاصة عليه، مؤكداً أن تأسيس مبادرات النقد والتاريخ الفني يرجع فضله إلى فنان مصوّر يملك عدة الكتابة التوثيقية والمعرفة التشكيلية والممارسة، وليس شاعراً أو أديباً يصرف أوقات فراغه بالمديح والهجاء المزاجي لمقربيه من الفنانين أو المبعدين منهم الذين يخالفون أميته في مفاتيح الرسم والتلوين وسواهما، وهو ما اقترفه الكاتب الفرنسي إميل زولا الذي أخر بروايته التهكمية الانتقادية تذوق العبقري بول سيزان أربعة عقود.
لدينا من أمثاله الكثيرين، ويرسخ هذا الخلط الفنانين الذين يتقاعسون عن الكتابة، وتعاف أنفسهم ما هو منوط تكاسلاً بنقاد الأدب. يستقيلون بذلك من حقهم في تحليل وتقديم لوحتهم كمشروع فكري، وليس مجرد محسنات بديعية حسّية تقنية إرضائية خمولية تزيينية تدغدغ البصر وتستجدي مباركته. تقع أهمية هذا الكتاب إذاً في أنه لا يخلط بين النقد والانتقاد، لأن سوء الفهم يبتدئ من خطأ الترجمة الحرفية لمصطلح CRITIQUE عن اللاتينية، ومعناه الباطن والعميق يصبو إلى التحليل المنهجي أو الحدسي الممارس الخبير باللوحة، بعكس معناه المزاجي الظاهر والمسطّح أو التعسفي الناصح أو المربي أو المتعالي المجرح بهجائه لمعلمين كبار. وهو ما
يؤكده فاساري في سياق كتابه التأسيسي بما معناه أنه "من الواجب عدم التعثر في موقف الناصح أو المربي المستعلي والمنتقد لهؤلاء الفنانين، وإنما موقف الإجلال والاعتبار والاحترام، وشرح أسرار قدرات هؤلاء المعلمين والاعتراف بفضلهم وتفوق مواهبهم وأدائهم".

وصاية النقد الأدبي على الفن التشكيلي
عانى الفن الغربي مثلما نعاني اليوم من النقد الأدبي ما خلا بعض الأمثلة الوضاءة، مثل ملارميه، وخاصة أندريه بروتون، مؤسس التيار السوريالي، وكاتب بيانه. لنتصوره يطالب بطرد الفنان سلفادور دالي من المجموعة لاستغراقه في أدبية اللوحة، عوضاً عن البحث عن اللاوعي واللاشعور النوعي وأحلام اليقظة في المختبر البصري بمثاله النموذجي ماكس إرنست وغاباته الحلمية. تحفل بوابة أوائل القرن العشرين بهذه المتناقضات، ما بين وصاية الأدب على الفن التشكيلي أو قبول اختلافه النوعي، وبما أن الطرف الأول كان مسيطراً على الصحافة، فقد شهدنا فضائح اصطلاحية، كما هو مثال الناقد الأدبي الذي رمى أرهف الملونين الذين قادهم هنري ماتيس عام 1905م بأن النحات الكلاسيكي (في الصالون العام) بورديل مطوق بالوحوش. وقبل الجماعة عن طيب خاطر بذكاء بهذا المصطلح الانتقادي السلبي الجارح ليؤلفوا مجموعة "الوحشيين"، كان فيها أندريه ديران وفلامينك وجورج براك وغيرهم إلى جانب ماتيس، وخلفت بعد فترة جماعة الملونين الكبار ("الفارس الأزرق" في ألمانيا) من أمثال بول كلي وجوستاف مارك وماك الذين تبنوا تبشيرات روبير دولونوي وتجريده اللوني وذلك قبل التحول من الدائرة اللونية إلى المقام الموسيقي لدى كوبكا.
ثم هناك المسبّة الموازية لجورج سورا وبول سينياك وغروس بنعتهم بـ"التنقيطيين" بنوع من الاستهانة وسوء فهم الآلية العاطفية في مدرجاتهم اللونية "التزامنية". وهنا نتوقف عند الدفاع النقدي التنظيري الفعال لرأس المجموعة وهو الرحالة بول سينياك الذي أكره بقوته الفكرية

الصحافة على استبدال مصطلح التنقيطية بـ"التجزيئية"، المشروحة في كتابه الذي أعاد تأسيس منهج فاساري بعد أربعة قرون تبشيراً بمشارف الحداثة والمعاصرة في اللوحة وحق الفنان في شرح رؤيته. أما كتابه الانعطافي الشهير فقد شرح بلغة نقدية معاصرة التحول من الرومانسية إلى ما بعد الانطباعية عبوراً من الانطباعية والواقعية (أو الطبيعية ما بين كامي ميييه وجوستاف كوربيه)، أما العنوان فكان: "من دولاكروا إلى ما بعد الانطباعية". ولا يزال حتى اليوم تعاد طباعته وينفد كل مرة من المكتبات، ولا شك بأن ضرورة تدخل الفنانين أنفسهم في التنظير لتياراتهم الحداثية، رسخت كتابات الفنانين المحترفين، ابتداءً من المستقبلية في ميلانو إلى الدادائية في باريس وميونخ وصولاً إلى الواقعية الجديدة التي حمل لواءها الناقد بيير ريستاني مطوقاَ بكوكبة من الفنانين المتنورين البالغي الثقافة مثل كلاين، وذلك خلال ستينات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتبادل المعارض مع فناني مدرسة نيويورك، ثم تبادل الفكر التشكيلي: سيزار أصبح قريباً من البوب الأميركي وروشنبرغ أصبح قريباً من الواقعية الجديدة الفرنسية قبل أن يبشر بدادائية جديدة أو محدثة. وهو ما هيّأ لتنظيرات فناني ما بعد الحداثة وتملصهم من سطوة التنظير الأدبي في الفن، واستقلال حساسيتهم المفاهيمية عن سيميولوجية الكلمة.
يملك فاساري عبقرية نجوم عصره الذين خلدهم وحلّل مفاتيح مختبراتهم الاستثنائية، متعدد المواهب والميادين: مصوّر ونحات ومعماري، لم يحرجه أبداً أن يشرح بإسهاب وإطناب نص كتابه أسراره التقنية وخصائصه الفلسفية والمهنية التشكيلية، وخبرته في التشريح البشري ومنظور مساحات الظل والنور ضمن "سينوغرافية" مفاهيم عصر النهضة حول الفراغ الملحمي الخاص، غالباً بالسير الإنجيلية أو التوراتية. أثبت في كتابه الموسوعي هذا أن أهل الاختصاص أولى بأمور وأسرار وحكمة ميدان حرفتهم ومعارفهم العلمية، سواء الموروثة تقاليدها أم التي تعتمد على تمايز خصائص التأويل خاصة في المشاهد البانورامية وإضاءتها المسرحية.
إن الصراع المضمر بين وصاية النقد الأدبي والخصائص النوعية لكتابات الفنانين أثبت اليوم أن الفن التشكيلي أقرب إلى الموسيقى والفلسفة والفيزياء منه إلى الأدب بأنواعه السردية. وأصبح من المألوف والشرعي الحديث عن استقلال الأزرق بأنواعه (النيلي والبحري والبروسي والفيروزي والتركواز الخ) عن مدلولاته واعتباره هدفاً تجريدياً بحد ذاته لا علاقة له بلون السماء أو البحر أو عيني الفتاة الخ.  فعنصر الشجرة مثلاً في اللوحة يبتدئ من تجريدها الاستهلالي (لمسة الفرشاة الأولى) تتقارب بالتدريج من دلالتها التشخيصية مع المعالجة المتدرجة للتفاصيل. نسلك في الشعر عكس المنحى، نبتدئ من الدلالة القاموسية للشجرة المفضوحة في المعنى وتقترب من غيبوبة دلالتها مع تقدم "التيه الشعري". خطان (أو مساران) إبداعيان متعارضان، ولكنهما متوازيان، مهما امتدا لا يلتقيان. وهنا تكمن خصوبة أنواع الإبداع دون إحالة أحدهما إلى الآخر. ولهذا الموضوع شجون أخرى تفيض عن حدود البحث.
حذا ليوناردو حذو فاساري فأخذ يعتني بالكتابة العلمية مثل الميكانيك وسواها أمّا مايكل آنجل فقد توجّه لنظم الشعر. علينا بالاعتراف إذاً أن لكلّ قاعدة استثناء ورأس هذا الاستثناء العبقرية المزدوجة في الشعر والرسم لفيكتور هوجو، وبعض الزملاء الأدباء المرهفي الحساسية التشكيلية في كتاباتهم النقدية الفنية، ولكنّهم ندرة، أبلغ أمثلتهم الشاعر اللبناني عيسى مخلوف، وكاتب علم الجمال السوري محمود حوّا، والشاعر العرقي بلند الحيدري، والكاتب المغربي عمران المالح. وتشبه ندرتهم ندرة الشامة على الخد.