Print
أسعد عرابي

البعد الصوفي في منمنمات نشأت الزعبي: الحب ليس كلمة

12 مايو 2019
تشكيل
تجتمع حالياً على جدران صالة محترف النحات السوري مصطفى علي (دمشق القديمة) لوحات أكثر من عشرة فنانين معروفين وذلك احتفاءً بمسيرة المعلم الأصيل نشأت الزعبي، وهم: عبد الله مراد وعمران يونس وإدوار شهدا وفؤاد دحدوح وباسم دحدوح ونزار صابور وغسان نعنع وأسماء فيومي وإحسان عينتابي ومصطفى علي ويامن يوسف.
ابتدأ العرض منذ أواخر نيسان (أبريل) مشتملاً في أيام الافتتاح على حوار قاده الناقد المعروف سعد القاسم إثر عرض فيلم عن التطور الأسلوبي في مبدعات الزعبي، علماً بأن لوحته (المنجزة عام 1973م مجموعة خاصة)، تربعت جداراً مستقلاً عن المعرض. تتوّج التظاهرة عبارة اختارها الفنان: "الحب ليس كلمة".
يعود فضل هذه المبادرة الثانية (بعد الخاصة بالياس زيات) إلى الفنان نزار صابور، ومن المأمول أن يطبع بهذه المناسبة كتاب من تأليف الفنان.

                                       * * *

الفنان من مواليد حماة عام 1939م، ويعتبر العارضون من الجيل التالي على زيات والزعبي. احترف التصوير منذ ما قبل عام 1956م، تاريخ تأسيسه مع المرحوم علي صابوني واثنين آخرين "رابطة الحلقة الفنية"، أول جمعية تشكيلية في حماة. وهي التي قادته إلى المصادفة التي شكلت منعطفاً حاسماً في مستقبله الفني، فقد صادف أن كان وزير التربية المصري كمال الدين حسين عام 1958م قبيل الوحدة في زيارة للمدينة التي سمع عن تفوق جمالها على كامل المدن السورية، وبسبب شغفه بالفنون فقد زار "رابطة الحلقة الفنية" المذكورة وتصفح أعمال الزعبي فيها فأسرت قلبه، فوقع قراراً مباشراً بمنحة دراسية فنية في كلية فنون القاهرة (قسم التصوير)، وهكذا كان، فقد سافر فناننا بعد حصوله على شهادة الثانوية العامة عام 1959م إلى القاهرة، وانتسب إلى الكلية بعد تفوقه في امتحان القبول، وكذلك بعد وصوله إلى السنة الثانية فيها، حيث قرر العودة إلى كلية فنون دمشق ملتحقاً بالسنة الثانية (أي بعد خسارته عاماً كاملاً وخسارة زميله ممتاز البحرة سنتين)، أما نذير نبعة فقد أكمل دراسته فيها بعد أن تزوج من الفنانة المصرية شلبية إبراهيم. أما رابع المجموعة الياس زيات، وقد كان أكبرهم، فيمّم شطر بلغاريا ليكمل دراسته قبل عودته معيداً في كلية الفنون في دمشق.
ما هو السر في تفوّق مدرسة حماة الفنية في الستينات والسبعينات من الألفية الثانية؟ من هؤلاء توأم نشأت وهو المرحوم علي الصابوني ثم مصطفى نشار، وخزيمة علواني، يليهم الجيل التالي من أمثال المرحوم عبد اللطيف الصمودي، وإبراهيم جلل. أما ياسر حمّود فقد كان على متانته في الرسم يغرّد خارج السرب. قد يكون بعضاً من فضل سحر الحاضنة، مدينة أبي الفداء والعاصي والحمامات والقصور الزاهية، وكأنها محترف بالغ الرهافة والزهو الحضري، محفوفة بخرير ست عشرة ناعورة تذكر بعبقرية مهندس بلاد الشام الجزري (عالم الميكانيك ومؤسس معارفه). اختفت مخطوطته مع تصاويرها من مكتبة الظاهرية، هي التي لا تقدر بثمن مئة مخطوطة رسوم لماكيتات وتصاميم وروبوهات مبرمجة مفقودة جميعها (لم تبق إلا منسوخة تركية تذكر بها). ثم ما هو سر تفوق الزعبي على كوكبة هذه المدرسة، وتأثيره التربوي البليغ على الجيل التالي من أمثال مواهب زهير حضرموت وفايز عبد المولى وآخرين؟
مثلما ضاعت رسوم ميكانيك الجزري اختفت رسوم المخطوطات العربية الإسلامية ما بين القرن الثامن للميلاد وبداية الثالث عشر وبقيت العديد من نسخ المصاحف المزينة بالحليات التي تمثل تطور هذا الفن التشخيصي النخبوي، هو الذي يعتمد على "التنزيه" وليس "التشبيه". وهو ما يفسر اختفاء هذا الفن من شتى المتاحف العربية والتسابق على اقتنائها في أوروبا وأميركا. فمخطوطة محمود بن سعيد الواسطي محفوظة برسومها (مقامات الحريري) في
المكتبة الوطنية في باريس، وأغلب رسوم بهزاد أكمل الدين موجودة في المتروبوليتان، استرجعت الجمهورية الإسلامية واحدة منها- "سفرنامه"- مبادلة مع لوحة لدوكوونينغ الأميركي. وورثت "دار الكتاب" المصرية عن الثري عمر خليل مجموعته المحدودة من المنمنمات بما فيها واحدة من أشهر أعمال بهزاد: "يوسف وزليخة".
لا أعرف متى اكتشف الزعبي هذا الميراث النخبوي؟ ما هو أكيد أن تقاليده التي استهلم منها أسلوبه المتميز رسخها اطلاعه في مصر على هذه المجموعة النادرة أو على تأثيرها على العبقري النهضوي راغب عياد، واستمرار هذا الاستمداد مع تيار لاحق ترصعه أعمال سيد رسول، وعندما التحق بكلية فنون دمشق كان المحترف المختلط بين السنة الأولى والثانية يجمعني معه، شهدت تفوقه خلال سنوات الدراسة، كنت أسبق منه في اكتشاف هذا الكنز التصويري منذ فترة المراهقة في مكتبة جدتي المزينة بالرسوم (خاصة ألف ليلة وليلة وسيرة الرومي وغيرها)، كان إعجابي بتصويره كبيراً، ترسخ شغفنا المشترك دون مكاشفة مع أستاذ علم الجمال الحموي محمود حوا، الذي درس في باريس هذه المادة. كان شديد التأثير الثقافي والبصري علينا، وكان يعرض صور هذه المنمنمات ويقارنها بنظائرها لدى هنري ماتيس وبول كلي وعلاقتها بالنواظم الموسيقية للمقامات. وبما أنه كان يميل إلى تجديدات استرافنسكي فقد عرفنا على أعماله البارزة خاصة "تتويج الربيع"، ثم علاقته بمكتشف التجريد الكاندينسكي 1908م، وأن هناك روحانية في التصوير مستقلّة عن الروحانية الدينية، بنموذجها كتاب كاندينسكي: "ما هو روحاني في الفن المعاصر" (1920م).
ثم إن النشار (الزميل الأصغر للزعبي)، كان يصرح بانحيازه صراحة لفن المنمنمات، أما مشروع تخرجه فكان حول طائر العنقاء (السيمورغ) الصوفي الذي طبع مصوري القرنين الخامس عشر والسادس عشر في حواضر آسيا الوسطى بتأثير النقشبندية (وليس الصفوية) في آسيا الوسطى بما فيها إيران. تحول هذا الفنان إلى عرفانية الحرف والحروفية وتبلبلت سكته الأسلوبية بعكس الزعبي، هو الذي جمعتني معه محاسن الصدف مرة ثانية لسنوات تأسيس وعروض وحوارات "جماعة العشرة" التي تأسست في بداية السبعينات. وإذا كانت هناك مآخذ محقة حولها مثل غياب فاتح المدرس ومحمود حماد وانحياز الناقد طارق الشريف إلخ... فإن أهميتها تكمن في أنها كانت آخر التجمعات غير الرسمية. ويغلب على أسمائها الاحتراف الفني أكثر منه الالتزام السياسي.

النافذة التي تقود البصيرة إلى الداخل
دعونا نغوص في مناخات أشواقه الشطحية: فضاء معراجي مسكون بمجتمع الملائكة من غانيات مراهقته الحموية. عرائس رومانسية تخرج من ذاكرته وذاكرة المنمنمات، هي نفسها فتاة أحلامه بأوشحتها الملثمة بخفر وحياء ودلال وعذرية الشرق، يتسرب فردوس المكان (المعند على النسيان) إلى طوبوغرافية تكويناته، قبل أن تنجلي تفاصيله السردية ضمن مجاهدات من الحضور الدلالي ثم الرمزي، محافظاً على النسق الحلزوني في تداعيات صور الطفولة والمراهقة والشباب، يتخلق مسارها من الأرابسك والرقش المشخصن، وذلك ضمن تعبيرية بريئة ونخبوية في آن واحد، تستمد نسغها من باليتا قلبية وفق "حضرة" تلتقي فيها نواظم اللون مع موسيقى "أجراس" أشجار الجنة (وفق ما تسره حكمة الرومي). يفصل هذه التقاليد أبو حامد الغزالي في كتابه "البصر والبصيرة". وتشتعل ألوانه بحرائق الشمس المتوسطية كما تتحد فراشة (المثنوي) بلهيب الشمعة. لوحاته بدون حجوم ولا ظلال ولا مناظير ولا ثقالة أرضية، محرومة من شتى ضوابط التشبيه البصري لأن التنزيه البصري عقيدة راسخة نذر لها فرشاته منذ أن أمسكها لأول مرة.
تعتمد سكته الأسلوبية على بصمتها المتمايزة على منظور عين الطائر أو العنقاء المتمركز في قبة الفلك في السماء المعراجية السابعة، بحيث يكشف مسرودات العالم السفلي من علٍ، لذا تتقمص أشكاله تمورات تعددية مواقع النظر وفق مقام وحدة الوجود، تكشف المشربية والبركة والزيتونة من الأمام والخلف والجوانب لأن زمانها سرمدي وهي بالتالي عين الوجود.  فالمنظور في هذه الحالة مطلق لا يفرق بين القريب والبعد، مخالفاً "منظور ألبرتي" الأوروبي في "عصر النهضة" حيث تهرب الخطوط وتتلاقى عند خط الأفق، ومخالفاً عكسها المنظور العمودي الطاوي الصيني الياباني الذي تلتقي فيه الخطوط في الأمام، إذ ليس هناك أمام أو خلف لأن الأشكال تعوم في فلكها بمعزل عن الجاذبية الأرضية. ناهيك عن تغيير تراتبية النسب فالمرأة أكبر من البيت.
ترسخ اختيارات الألوان (بدرجاتها الرهيفة) هذا البعد الفضائي الروحي، والمعتمد كما أسلفت ليس فقط على تعددية نقاط النظر وإنما وهو الأهم تعددية مصادر الإضاءة خاصة وأن النسق

الموسيقي في رصف الألوان ينفي الفروق بين المناطق المظللة والمنارة. إن تواصل العلاقة بين النواظم اللونية والموسيقية يمثل ذروة "التنزيه" في البعد الروحي بحديه الظاهر والباطن.
لعلّه من المثير للإعجاب بموهبة فناننا أنه ورغم الطبيعة المركبة لمواصفات تكويناته من الناحية الميتافيزيقية فإن أداءه يتسم دوماً بالبساطة والعفوية والطزاجة وعدم التصحيح أو التعديل ما أمكنه، لأن اللوحة بالنسبة له تمثل مشروعاً فكرياً غبطوياً مرتبطاً بالتجربة الحدسية وليس مشروعاً تقنياً ترهقه المحسنات البديعية وإغراءات المهارة، هو ما يفسر بعده عن الأضواء بما يكتنف شخصيته من رصانة ومداراة وصمت وتواضع، ثم إن زمان الحضرة يفرض عليه إنهاء اللوحة في نفس الجلسة مهما طالت دون تأجيل أو انقطاع.
لا بد هنا من أن أعيد التذكير بعمق تأثير عالم الجمال محمود حوا في كلية الفنون. فقد كان من أقرب الطلبة إليه، نقل إلينا بدوره اهتمامه الخاص بالمستشرق الفرنسي لوي ماسينيون خاصة محاضراته في مركز البحوث الفرنسي للشرق الأوسط ببيروت عام 1936م، واكتشافه لحقيقة "النقابات الروحية"، ومراقبتها لتجويد الحرف والصناعات بما فيها صناعة الكتب، من تذهيبها إلى نسخها إلى تغليفها إلى تصاويرها وتوضيبها وصناعة الورق إلخ... وتعيين نقيبها.
من الضروري أخيراً استدراك اختياراته من مقامات اللون الصائت: يرصع (على هدى بهزاد) حرائق الشمس المتوسطية من أزرق التركواز إلى أزرق الفيروز إلى أصفر الجاد إلى أصفر الأهرة التي تصطبغ بها بيوتات مدينته الغناء، يزرع جواهرها على درجات قاتمة من البنيات، يستدعي دلالاته ورموزه من جعبة علاء الدين حماه ومن مرويات شهرزاد إلى شهريار، ابتداءً من أشجاره الوارفة ودوره التي يحف بها العاصي وتحف بأطرافه النواعير، ثم الأبواب والبوابات والنوافذ المفتوحة إلى الداخل مما يتيح فرصة الانتقال من سرد حكاية غرفة إلى أخرى حتى اللانهاية.