Print
أريج جمال

"الحديث عن الأشجار".. السينما السودانية تسخر من موتها!

2 ديسمبر 2019
سينما
تُخيّم الظلمة على معظم صور الفيلم التسجيلي السوداني "الحديث عن الأشجار" من إخراج صُهيب جاسم الباري، وإنتاج مشترك بين فرنسا والسودان وألمانيا وتشاد وقطر، والذي عُرض أخيراً ضمن فعاليات بانوراما الفيلم الأوروبي في دورتها الثانية عشرة التي أقيمت في القاهرة (الفترة من 6-16 نوفمبر/تشرين الثاني). تتحرك الكاميرا ببطء في هذه الظلمة، وفي أحيان كثيرة تُفضل السكون التام لتكشف لنا عالماً لا يخلو من البشر لكنه يبدو كصحراء موحشة على الرغم من ذلك.

يقرر أربعة مخرجين كبار من السودان هم إبراهيم شداد وسليمان إبراهيم ومنار الحلو والطيب المهدي أن يخوضوا رحلة لإعادة افتتاح دار عرض في مدينتهم "أم درمان"، فدور العرض مهجورة ومغلقة منذ زمن طويل، زمن يعود إلى العام 1989 عندما قاد الرئيس السابق عمر البشير انقلابه العسكري، وقرر أن يُحكم قبضته على البلاد، فأمر بإغلاق دور العرض والمسارح، وعرقلة الإنتاج الفني، ليختنق بذلك جيل من السينمائيين كانوا يحلمون ببدء مسيرتهم العملية بعد تجارب أولى في أفلام حصلت على جوائز مرموقة من أوروبا وروسيا.
ينتمي المخرجون الأربعة إلى ذلك الجيل، وعلى الرغم من ابتعادهم لسنوات عن صناعة السينما، إلا أنهم لم يفقدوا حماستهم لها، إنهم يعرفون وهم يخوضون هذه الرحلة مقدماً أن احتمال تحقق الأمل ضعيف، فالدولة آنذاك (تدور أحداث الفيلم في العام 2015) ما زالت تمارس تضييقاً مقصوداً على العروض الجماهيرية، لكن ما من سبيل إلا المحاولة، فشغفهم بالسينما ما زال حياً نابضاً يلتصق بجلودهم التي صارت اليوم متغضنة، ويركز الفيلم على هذه الرحلة، ويروي لنا من خلالها ما حدث قبل أعوام طويلة وما كان يجب أن يحدث.


الموت الطبيعي للسينما
منذ المشاهد الأولى للفيلم، تُذكر كلمة "موت" وترتبط في جملة مفيدة مع "السينما السودانية"، يذهب المخرجون لتسجيل حلقة إذاعية عن السينما، ويسألهم المذيع عن السبب وراء اختفاء صناعة السينما التي كانت واعدة جداً، وحققت حضوراً جيداً في المهرجانات الدولية فترة السبعينيات والثمانينيات، فيجيبهم إبراهيم شداد: "تقدر تقول إن السينما ماتت موت طبيعي، موت فجائي، وإن هناك من غدر بالبطل، واسأل نفسك أنت من الذي غدر بالبطل".


بشكل متواز تستعيد الكاميرا مشاهد من أفلام سودانية مهمة، ونفهم من ذلك أن الأبطال الأربعة يعيشون حالة من الرثاء المستمر لصناعة السينما المغدورة وكذلك لأنفسهم، وتتجوّل الكاميرا مع الأبطال بين الحواري والشوارع، باحثة مثلهم عن دار عرض يرضى أصحابها تأجيرها للمخرجين الذين سيتكفلون بإصلاحها وتجديدها على حسابهم الشخصي. ونشاهد أحدهم يتحدث تلفونياً مع المالكين، لكنه وقبل حتى أن يُتم شرح الأمر له، يتلقى رداً بالرفض، فلا أحد يريد اليوم وجعاَ للدماغ مع الدولة.
يواجه الأبطال هذا الرفض بالسخرية، جمعتهم صداقة متينة طوال أعوام، صداقة يُرينا الفيلم كيف تتحول هي نفسها إلى أداة مقاومة، وإلى حجر يتولى تحريك المياه في البُحيرة كلما ركدت.


السلطة جَنّدت حتى الفئران
في الأعوام التي تلت عودة الأبطال من الخارج، اعتقلتهم السلطة أكثر من مرة ومن لم يُعتقل عاش هذا الخوف من الاعتقال. يروي مثلاً إبراهيم شداد في مشاهد متفرقة من الفيلم كيف كان يتم تعذيبه في مكان يُحدده بالاسم ويذكره بالزمن، كان مطلوباً منهم هم الفنانون الحكاؤون ألا يتوقفوا عن الكلام جبراً. يقول شداد إن الثرثرة كانت الوسيلة الوحيدة لتفادي الصفعات، "لو سكت كنت تتعرض للصفع لازم تتكلم لأنهم ياخدوا منك الكلام". يقود شداد صديقه منار إلى أحد الحمامات المهجورة ويُعيد تمثيل مشهد تعذيبه عندما اضطر إلى الجلوس مقرفصاً بينما المياه تتساقط على رأسه قطرة قطرة في زمن بدا له كأعوام، وإذا كانت إعادة تمثيل المشهد تبدو قاسية علينا كمشاهدين، إلا أن الفيلم يدفعنا إلى التفكير في حاجة هؤلاء المخرجين إلى السينما بعد نهاية هذه التجارب، حاجتهم لأن يرووا ما جرى لهم كي يُشفوا منه، وهو ما لم يُتح لهم قطّ من قبل.
ليس التعذيب الجسدي هو الأذى الوحيد الذي واجهه الأصدقاء، لقد كان مطلوباً منهم أن يُبلغوا عن زملائهم ومعارفهم.. يقول شداد "كانوا يقولوا سليمان شيوعي وأنا أقول إحنا صحبة، أنا معرفش أنه شيوعي"، يضحك الأصدقاء ونضحك نحن في مشهد آخر عندما يتمدد إبراهيم على الأرض في مقر "جماعة الفيلم السوداني" وسط الظلام، ويبدأ في مخاطبة الصراصير والفئران هازئاَ "حتى أنتم جنّدوكم"، ثم يستعين الفيلم بمشاهد توثيقية لنساء تحملن السلاح وتذهبن إلى الحرب.
العنف كان البديل الوحيد للفن المكبوت، مكبرات الصوت انتقلت من السينما إلى الجوامع، والسلطة الدينية المطلقة كانت وسيلة أخرى لكتم الأنفاس.


الفيلم بعد آذان المغرب
تتحرك أحلام المخرجين الكبار ربما أسرع مما تتحرك أجسادهم الواهنة، لكنهم يصرون على القيام بأنفسهم بمهام تنظيف قاعة العرض المهجورة منذ سنوات واسمها للمفارقة "الثورة" تمهيداً لافتتاحها، أعمال شاقة تجعل شداد يعلق على تعبه "محتاجين جيل تاني من الرواد"، ولا ييأس الكبار فيرتبون عروضاً صغيرة لجمهور بسيط من أفلام شارلي شابلن، الأفلام التي ميزت أيضاً بدايات السينما العالمية.

بلا شك أصاب السينما السودانية تأخر كبير، والمأزق لم يعد فقط في قدرة المخرجين على صناعة فيلم جديد، إنهم يفهمون أن الجمهور هو السر، لا توجد سينما بدون جمهور. إننا نشعر أنهم يسعون إلى اختراع العجلة من البداية في السودان، لأن الجمهور العادي يفتقد ثقافة مشاهدة الأفلام في دور العرض، يجرون حوارات جانبية مع المراهقين المهووسين بكرة القدم، ولا يعرفون غيرها تسلية، يسألونهم: ما النوع الذي تفضلونه؟ يُفضل الشباب الأفلام الهندية أو أفلام الأكشن، ويشرح شاب أكبر سناً أنه لا يعرف معنى أن يشاهد فيلماً وسط متفرجين آخرين، أن يكون له حق تبادل التعليقات حول الفيلم أثناء المشاهدة، كما يحدث في مباريات كرة القدم.
حلّ الاهتمام بكرة القدم محل الكثير من الفنون، من بينها السينما بالطبع. وفي الوقت الذي يُخطط فيه الأصدقاء لعرضهم المنتظر يظهر سؤال جديد: في أي ساعة يبدأ عرض الفيلم؟ بعد آذان المغرب أم بعد آذان العشاء؟
لا يعتمد "الحديث عن الأشجار" على أي موسيقى تصويرية، ويكتفي المخرج صهيب الباري بتجميع أصوات الحياة اليومية بالميكرفونات، كأصوات السيارات في غدوها ورواحها وزماراتها، وصوت الصمت في الليل، وأصوات الحيوانات الأليفة، وطبعاَ أصوات الآذان وهو يرتفع من عدة مآذن متقاربة في وقت واحد بطريقة مثيرة للاهتمام.
يسأل شداد أصدقاءه "طيب لو عرضنا الفيلم وبدأت الصلاة وهناك بوسة في الفيلم ماذا نعمل؟"، ثم يقترح كحل أن يقف أحدهم خلف آلة العرض وأن يحجب بيده صورة الفيلم حتى ينتهي الآذان أو تنتهي البوسة، أيهما أقرب، وعلى الرغم من الضحك الذي أثارته تلك الكلمات بين جمهور البانوراما أثناء عرضه في سينما زاوية، إلا أن المعنى وصل كاملاً؛ للخطاب الديني يد في تكبيل الفنون والتنكيل بأهلها في العالم العربي كله، وليس فقط في السودان.



نبتة جديدة
في غضون انتظار موافقة الدولة على مسألة العروض الجماهيرية، يقرر الأصدقاء أن يزرعوا نبتة جديدة أمام مكتبهم في "جماعة الفيلم السوداني"، تيمناً بالمحاولة، ومع خبرتنا المتراكمة من أجواء الفيلم نفسه، يُحيلنا مشهد الزرع وإهالة التراب تلقائياً إلى صورة مقبضة نعرفها، وهي صورة الدفن، التي تؤكد من جديد على موت السينما كما قال الأبطال في بداية الفيلم.
لكن هل يمكن حقاً أن تموت السينما؟ الذبول، الاصفرار، والبطء هي أقوى الانطباعات التي يُسربها لنا فيلم صُهيب الباري، فهو يجعلنا نرى الحياة حصرياً بعيون أبطاله كبار السن المُرهقين والمهزومين بشكل ما، إلا أن المذهل بحق في هذا الفيلم، هو قدرته على تحويل فكرة "موت السينما" تلك نفسها إلى نوعٍ من السينما، كأن السينما قادرة على استخدام حتى احتمال موتها الخاص لصناعة فيلم مثير ومُقلق وجذاب.

أخذ المخرج الشاب صهيب الباري عنوان فيلمه من عبارة الكاتب بيرتولد بريخت الشهيرة "أي زمن هذا الذي يكاد يكون فيه الحديث عن الأشجار جريمة، لأنه يعني السكوت عن جرائم أشد قسوة". عرف المخرجون المغرمون بالسينما أن المأزق الذي كانت تمر به به البلاد أشد قسوة من ضياع السينما السودانية، ولهذا فضلوا الصمت أمام مشهد قتل أحلامهم، أما المفاجأة السعيدة فهو أن أحداً منهم بالتأكيد لم يكن يتوقع بعد مرور أربعة أعوام على تصوير الفيلم، أنه سيحلّ من جديد ذلك الزمن الذي سنتحدث فيه عن السينما السودانية وعن أفلامها، بعد قيام الثورة السودانية وإسقاط الرئيس السابق عن رأس السلطة في 11 نيسان/أبريل الماضي، نعم يحدونا أمل أن نشاهد المزيد من الأفلام من عينة "ستموت في العشرين" للمخرج أمجد أبو العُلا، ومن عينة هذا الفيلم للمخرج صُهيب الباري، وألا نتوقف أبداً عن الحديث عن الأفلام.
حصل الفيلم على عدة جوائز من مهرجانات سينمائية دولية، منها جائزة غلاسوته أوريجينال للفيلم التسجيلي المتميز بمهرجان برلين 2019، وجائزة النجمة الذهبية للفيلم التسجيلي في مهرجان الجونة السينمائي دورة هذا العام.