Print
سارة عابدين

تمثيلات الوقت والحركة في الفنون البصرية المعاصرة

19 ديسمبر 2019
تشكيل
يرتبط الوقت والحركة في الفن ارتباطا وثيقا، وفهم كيفية استخدامهما لا يساعد فقط في خلق الفن، لكن في فهمه أيضا. الوقت يعني التغيير والحركة. والحركة تعني مرور الوقت سواء كان فعليا أو وهما، لذلك يعتبر الوقت والحركة عناصر أساسية في الفن بالرغم من أننا قد لا نكون على علم بهما.

قد يشمل العمل الفني الحركة الفعلية، أي أن العمل الفني نفسه يتحرك بطريقة ما، أو أنه يتضمن وهم الحركة. العمل الفني الذي يشمل حركة يسمى عملا فنيا حركيا، ويمكن أن يتحرك بعدة طرق، سواء خصائصه الطبيعية أو التأثيرات الخارجية، مثل تيارات الهواء، وقد يكون مدفوعا ميكانيكيا أو تقنيا، وقد يشمل العمل الفني الفنان أو العارض الذي يحركه.
بعكس المفهوم الكلاسيكي لفن التصوير الذي يمثل تجميد لحظة معينة من الزمن داخل اللوحة، أصبح تفكيك الحركة والزمن أحد أهم أفكار الحداثة وما بعدها في الفن التشكيلي، بداية من المدرسة الانطباعية، التي اهتم روادها مثل تيرنر بإظهار الحركة داخل اللوحة، عن طريق الإيقاع الحركي للون، أو في أكثر من لوحة متتالية مثل لوحات مونيه لكاتدرائية رودان، ولأكوام التبن، محاولا القبض على تأثير الوقت على الأشياء على مدار يوم كامل.
في الفن المعاصر أنتج بعض الفنانين أعمالا فنية تتغير بمرور الوقت. ولتجربة ذلك بشكل كامل يجب على المتفرج أن يعود في وقت لاحق ليعرف ما التغير الذي حدث، لأن الأمر مفاجئ تماما ولا يمكن التنبؤ به. يتحول العمل الفني إلى شكل جديد تماما وربما بمواد مختلفة، كدليل على التغيرات التي حدثت. وبالرغم من أن هذا النوع من الأعمال الفنية سريع الزوال، ولا يتبقى منه سوى مجموعة من الصور الفوتوغرافية، أو مشاهد في ذاكرة الجمهور، إلا أن هذه الأعمال بتغيراتها الفيزيائية تشرح الكثير عن مفهوم التغيير عبر الزمن.
في أحد الأعمال التي تتغير مع الوقت للفنانة الأميركية جانين أنتوني، قامت الفنانة بنحت 7 تماثيل نصفية لنفسها من الصابون، و7 أخرى من الشوكولاتة، ثم بدأت في لعق تماثيل الشوكولاته، وتحميم التماثيل المصنوعة من الصابون. وقالت عن هذه التجربة: من المثير أن أبدأ كل يوم في محو نفسي بنفسي.


المجاز الحركي للشكل الإنساني
تبنت الحركة المستقبلية في أوائل القرن العشرين مواضيع مثل السرعة والصناعة والسيارات والطائرات والمدن، وتبنت دائما أفكاراً تتعلق بتصوير إحساس التقدم إلى الأمام، أو التحرك باتجاه شيء ما.

من أعمال الفنان الإيطالي إمبرتو بوشيوني


















كان الفنان الإيطالي إمبرتو بوشيوني من أكثر من عملوا على هذه التجربة الفنية من خلال خامة البرونز صعبة التشكيل، وأنتج منها منحوتات شديدة الرهافة والتعبير عن الحركة. واعتمد بوشيوني على الأطوال المُبالغ فيها للخطوة، والشعور بالرياح القوية التي تهب وتأثيرها على ملابس التمثال، بالإضافة إلى التركيز الأمامي للرأس والنظرة إلى الأمام، التي تظهر بشكل ضمني، ما يدل على أن التمثال يتحرك باتجاه هدف مرئي موجود بالفعل.


حركة العنصر بخصائصه الطبيعية
في العمل الفني الذي يتحرك من خلال خصائصه الطبيعية المتأصلة أو تأثيراتها، لا يمكن التنبؤ أبدا بشكل الحركة، لأن العلاقات المكانية داخل العمل تتغير باستمرار مع إمكانيات لا حصر لها، وواحدة من جماليات هذه الأعمال الفنية هي عنصر المفاجأة والتغيير، بحيث يبدو الأمر كما لو أنه في كل مرة نرى عملا فنيا جديدا.
من أشهر الفنانين الذين استخدموا تطوير المنحوتات المتحركة الأميركي ألكسندر كالدر (1898- 1976).
عرف كالدر بتطويره للمنحوتات المتحركة والتي أطلق عليها اسم (mobiles) وهو اشتقاق من كلمة فرنسية تعني الحركة، وقد أطلقها الفنان مارسيل دوشامب على أعمال كالدر، التي يمكن لكل قسم فيها أن يلتف ويدور من تلقاء نفسه، اعتمادا على تيارات الهواء فقط.
كان كالدر يحمل دائما الأسلاك والكماشة معه حتى يتمكن من رسم مخطوطاته عن طريق السلك، وعرف هذا النوع من الرسم باسم "الرسم في الفضاء" لأنه يستخدم السلك لإنشاء رسوم في الهواء، وكان يرى أن كل عنصر قادر على التحرك ليكوّن علاقات مع حركة العناصر الأخرى، بحيث لا يمثل الأمر لحظة سريعة، ولكن يمثل رابطا ماديا يمكن مراقبته بين العناصر المختلفة في الحياة.



الحركة المدفوعة أو الميكانيكية

قد يكون هذا النوع من الحركة أكثر قابلية للتنبؤ، وأكثر محدودية من الحركة الطبيعية، وقد يكون مستمرا وبلا نهاية اعتمادا على تعقيد النظام الذي يحرك العمل الفني. هنا يمكن للفنان الكشف عن المحرك أو نظام الحركة، ويمكن أن يخفيه، الأمر يتوقف على رغبة الفنان الذي يتحكم بشكل الحركة، التي يمكن أن تكون بطيئة أو سريعة، آلية أو متدفقة. وليس هناك حد للاختيارات التي يقررها الفنان لشكل الحركة في كل عمل فني.

ريبيكا هورن (1944)
جربت الفنانة الألمانية ريبيكا هورن العديد من المفاهيم وأنواع الحركة في أعمالها طوال حياتها الفنية. في عملها الفني بعنوان "آلة الرسم" ثبتت هورن فوق الأرضية على جدار المعرض ثلاث فرشات للطلاء على شكل مروحة مثبتة على أذرع معدنية مرنة ترفرف ببطء، إلى أكواب مليئة بطلاء الأكريليك الأزرق والأخضر. بعد بضع ثوان من الانغماس، ترجع الفرشات إلى الخلف وهي ترش الطلاء على الحائط والسقف والأرضية، وعلى لوحات قماشية معروضة على الجدار. تستأنف الفرشات الدورة حتى تتم تغطية كل قطعة قماش بالطلاء.
عن طريق هذا العمل الميكانيكي الحركي تحاول هورن لفت نظر المشاهد إلى الانحراف المعاصر عن الطبيعة، حيث أن شلال اللون ليس حقيقيا، واليد التي رسمته ليست يد فنان، بل مجرد حركة ميكانيكية، ولا يمكن وجود أي أثر مادي للإنسان أو الطبيعة في العمل المنتج في النهاية.
تستخدم هورن التكنولوجيا البسيطة لصنع آلات تكرر الوقت بشكل يمكن أن يكون أبديا، وفي عالم تهدد فيه الأجهزة الذكية والآلات الإنسان، فإن آلات هورن ضعيفة وبسيطة ومتمحورة حول الإنسان.



الفنانة الأميركية المعاصرة مارسيا ليون
في عملها التركيبي "حقول القوى الحمراء" تحاول الفنانة المعاصرة مارسيا ليون جعل المشاهد جزءاً من العرض. العمل عبارة عن شاشتين مثبتتين لعرض بقع حمراء نابضة وكبيرة، تتغير حركتها وأشكالها، مع إسقاطات هائلة من البقع على الجدران المجاورة لمساحة العرض.
تحاول ليون في عرضها الفني استكشاف تأثير اللون الأحمر على المتفرج، وكيف يتواصل مع العمل، وهل تؤثر تلك القوى الحمراء المتحركة الكبيرة على المتفرج سلبا أم إيجابا، وما هو تأثير تجربة الفن حقا، أي أن يصبح المتفرج جزءاً من العرض الفني، وليس مجرد متلق سلبي للعمل. كلها تساؤلات يقدمها الفن المعاصر ولا يمكن أن تكون لها إجابة واحدة ثابتة، لكن إجابات مختلفة، حسب تلقي كل شخص للعمل الفني في نهاية الأمر، وهذه التعددية هي واحدة من أهم مميزات الفنون البصرية المعاصرة.