تعرفت لأول مرة على هذه العيون الملغزة وكأنها «أوتوبورتريه» لألم صامت بليغ الفصاحة والتعبير؛ ألم وجودي حميم تؤرقه مضاجع الآخر (على الأغلب ابنتها الملَاك ليلى) متوحّدة مع الوجع الآخر، مع منجل الموت الذي يحصد مئات الأطفال الدهشين في أوقيانوس صقيع البرد وجمر الهجير، يُبكيها دون عويل أو ندب أو حتى أدنى أنين، كل ما يجري من «قيامة شامية» حولها. تسليمها ليس قدرياً ببلاء الغيب، وإنما بإرادة «الشد على الجرح» بالتعبير الشامي، الصبر على دبابيس الحياة والنزوح والنفسي ومعاناة من يضرب في اللامكان الشاسع منتزعاً من دفء وحميمية أمه. إنه الرسوخ كجذع فولاذي في وجه عاصفة النزوح العائلية.
ينسحب خلف هذه الدموع المتحجرة شبح والدتها التي يوشك نور عينيها على الانطفاء. كابرت البكاء وتهدجه في حينها، ولكن بركان العيون العسلية تفجر من جديد في وجه ابنتها الملاك ليلى فكّرست كل ما تملكه من قوة ووهن لإنقاذ ماء عينيها. لا زالت نور تعيش هذه المحنة التي انسلت مثل الأفعى خلف ماضيها، وبقي الهاجس المقيت بعودة الثعبان هو سر عبادتها لنظارات ابنتها وحرصها على العناق المستديم لها.
المحاولات الاستباقية
لو عدنا إلى ماضي هذه النحاتة الشابة (من مواليد 1984م من مدينة حماه المعروفة بتفوق مصوريها) لعثرنا على عجائب قزمة من أعضاء مبتورة يرين عليها صمت الموت وبلاغة الاعتراض، تعتمد على النحت من الذاكرة وعلى المواد اللاصقة ثم تغليفها بقناع ملغز، حجاب قماشي شفاف أو برقع أو خمار وغيرها من الأقنعة القماشية التي لا تخفي مفاتن ما تخفيه.
تعرفتُ على عالمها أول مرة من مشاركتها في بينالي «جسد النحت» في مدينة يير قرب باريس عام 2016 بقطعة أثارت دهشة وإعجاب المشاهدين وهي عمل «رسالة من فيرجينيا وولف»: عبارة عن صندوق خشبي يعانق أعضاء مبتورة مخضّبة بالدماء، أيدٍ وأرجل ورؤوس تُذكّر ببقايا ما عرف في حينها «بالتعذيب حتى الموت»، يتجاوز تأثيرها فظائع التنكيل والتعذيب السادي المجاني أو العبثي لأن أغلب المقبوض عليهم أبرياء من كل ذنب، إنما هي آلية الظلم التي لا تفرق بين قلع أظافر الأطفال واغتصاب المراهقات الطاهرات وبتر أعضاء البالغات والبالغين. ويبدو أن الأحزان السورية تمر من أحزانها الداخلية، تنحت رأس والدتها الدامي من عذابات تراجع نور البصر وهي لعلّها بصيرة التراجيدية الشامية بقيامتها الأبدية في نفس الوقت. تتقارب هذه المنحوتة الشهيرة من طاولة تشريح طبية مقززة، وبحركات تنبض بالاحتضار المديد. أما قزمية الأشلاء فتوحي بقزمية مواطنها الصرصار الأعجف، وبالنتيجة فهذه الرؤوس المجزوزة من هيكلها أقرب إلى الأقنعة التي كانت تجوس بحكمة في مسرح «سوفوكليس» المجازي.
ترجع نخبوية حساسية نور النحتية أو مؤخراً «المفاهيمية» ثمرة يانعة لثقافتها الفلسفية، نتاج اختصاصها في علم الجمال، فمدوناتها ونصوصها لا تقل تأملاً وكافكاوية عن إلكترا. نحتها هو المستغرق في الانطوائية والعزلة، انعكاساً لبداهة: الإنسان يولد لوحده ويرسم لوحده ويموت لوحده. ولا يبقى خالداً إلا عزلة العمل الفني والمتاحف الصماء البكماء التي لا تعبأ بآلام صناع هذه الملحمة التي ندعوها بالفن التشكيلي.
بقي أن نذكر أن آخر مشاركاتها ستكون في معرض جماعي من تنظيم مؤسسة الأبواب المفتوحة بالتعاون مع الكوميسير إيلينا سوركينو في صالة «Premier regard» الباريسية، والذي يبتدأ من الرابع من شهر كانون الأول/ ديسمبر مستمرّاً حتى العشرين منه.