Print
أسعد عرابي

المحترف التونسي والتنوير المتوسطي

2 نوفمبر 2019
تشكيل
أقيمت ابتداء من الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول الفائت «الندوة العالمية للفن التونسي» في جامعة تونس العاصمة. وشارك فيها خمسون باحثاً من شتى أنحاء العالم العربي والغربي (خاصة الفرنسي.. لم أتمكن من تلبية الدعوة لسبب صحي طارئ)، وسيصدر كتاب توثيقي استثنائي يحمل عنوان المؤتمر: «خصائص الحداثة في المحترف التونسي»، سيشارك في الكتاب ضعفا عدد الباحثين المدعوين. ويشرف الفنان والجامعي سامي بن عامر أستاذ التعليم العالي على تنسيق الندوة والكتاب.

اعتمدت في دراستي المشاركة المستفيضة على منهج «علم الجمال المقارن» الذي أسسه إتين سوريو، مطبقاً فلسفة هوسرل في «الفينومينولوجي» واتخذتُه عقيدة بحثية منذ عقدين، خاصة عند دراسة خصائص كل محترف عربي. هي التي تحصّن المنهج من مغبّة التعميم، لأنها تحكم مجهر التحليل على المقارنة بين الأجناس المتقاربة، فالمحترف التونسي: عربي تنويري نهضوي متوسطي فرانكفوني.

إذا بدأنا بصفته التنويرية نجده لا يقارن إلا بمهد النهضوية التي ابتدأت في مصر منذ حملة نابوليون بونابرت وعلى الأخص منذ بداية تسلم محمد علي واستثماره للمطابع التي خلفها جيشه بعد انسحابه، مما شجع الترجمة، ثم إرسال البعثات واستقبال الخبراء والمدرسين. ثم وفي عهد حفيده الخديوي إسماعيل افتتحت قناة السويس عام ١٨٦٩م فازداد التقارب بين مصر وأوروبا. يحضرني آخر مؤتمر عن الموسيقى العربية عام ١٩٣٢م، يدعو الملك فؤاد كبير المؤلفين بيلابارتوك على رأس قسم الاستماع، لينطلق الحوار بينه وبين السنباطي وزكريا أحمد وأم كلثوم، هو الذي قاد أعماله عند عودته تتجه إلى التوليف بين الموسيقى الشرقية الأفقية وديوان باخ (نظام الهارموني والكونتربوان). تأسس إذاً عصر النهضة العربية على الانفتاح دون حذر على الثقافة الغربية، وإعادة النظر في التراث بما يناسب مقتضيات العصر. انتقلت هذه الروح النهضوية إلى لبنان وتونس وتجسدت خاصة في مجال الفنون التشكيلية، حتى وجدنا «مدرسة تونس» توأماً متناظراً مع «مدرسة الإسكندرية» ما بين رباب النمر وسعيد العدوي مقابل علي بن سالم وأحمد الحجري. ثم ماذا بقي من ميراث أم كلثوم الموسيقي النهضوي اليوم سوى التونسيان المنشد لطفي بوشناق والباحث د. محمود قطاط؟ إذا كنا بخصوص تعداد نجوم الفكر النهضوي في تونس فلن نجد أشد تمثيلاً لها من الدكتور هشام جعيّط (يكتب بالفرنسية) خاصة في كتابه: «الكوفة: بناء مدينة إسلامية» «والفتنة الكبرى». مثال يحتذى في منهجه التاريخي الذي قاده إلى شجاعة استنتاجية على غرار نفيه لملحمية الفتوحات الإسلامية واعتبارها مجرد حروب ردة. نعثر على موازيه التشكيلي: نجيب بلخوجة الذي يؤول المدينة الإسلامية الجعيطية باسترجاع المقصوصات الكرتونية المنمنمة بتدرجاتها التنظيمية اللونية المتواصلة مع مدرجات مقام «السماعي» الصوفي.


المتوسطية والذاكرة الألفية
تجتمع مدرسة تونس مع مدرسة الإسكندرية على الصفة المتوسطية، ليس فقط لوحدة شروطها الجغرافية فقط، وإنما وهو جوهر موضوعنا لأسباب ذوقية ترتبط بتوهّج الألوان الساطعة أو النورانية. ألوان أرصفة المرجان البحري بأزرقها النيلي، وتتحد مدرسة تونس مع ذاكرتها الألفية الفينيقية مع متوسطية جبيل وأوغاريت. أسس هنبعل قرطاجة قبل برشلونة وقبل أن يتجه إلى روما وخلفت الحضارة الفينيقية زجاجيات حلزونية مدهشة مشتقة من اسم أرجوان الفينيق الناري المطفأ في صقيع التركواز والمتوسط، نعثر في ذاكرة هذه الذائقة الحرفية على فنون النار والنور: من زجاجيات إلى سيراميك إلى فوانيس مشكاة «الكاليودوسكوب» بمراياها المتعاكسة الألوان، وكذلك الزيلليج المزجّج.

نعثر في خضم شموس المتوسط على نفس طرز المراكب وصباغاتها الفردوسية أو الملتهبة بنفس الحساسية البصرية الصوتية، الصباغية الإنشادية. دون أن نتجاوز الذائقة الحداثية الفرنسية خاصة تجريدها الغنائي ما بين فينيقية محاربي قويدر التريكي والمجهرية الخلوية لرفيق الكامل، تقع شمولية «باليتا» «مدرسة تونس» بين موروث فينيقيا وموروث الفرانكفونية المنحازة إلى غنائية «مدرسة باريس» المتناسلة عن رفيف الألوان الانطباعية. عليّ أن استدرك ذاكرتي الشائخة وذلك بالعودة إلى الصفة النهضوية للمحترف التونسي، فقد استغرقنا جانبه الحداثي وفاتنا الذاكراتي الموروث. وذلك بالنسبة إلى استمرارية صناعة فنون تقاليد الحرفيات الإسلامية. نعثر في تجارب مدرسة تونس على استدعاءات خجولة لفن رسوم المخطوطات (المنمنمات) مقارنة بصراحة تقاليدها لدى شقيقاتها دول المغرب العربي (خاصة الجزائري محمد راسم قفزاً حتى عراقية جواد سليم). لكن الموروث الأخصب ثبوتية هو الفن الشعبي بجدّته الشطحية المتناسلة عن الأول، على غرار باية محي الدين (الجزائر) وسلادي (المغرب) وعبد العزيز القرجي (تونس) والتيناوي (دمشق) ورسول (مصر) بما فيه التصوير على الزجاج من الخلف ومقصوصات عرائس خيال الظل وسواها. ثم التحول إلى الإشارات المتراكمة بأبجديتها ذات الزمن النسبي ما بين عبد الرزاق الساحلي (تونس) والداوستاشي (الإسكندرية). فإذا ما عرجنا على هاجس المفردة التشكيلية لدى كل من الهاني والفخفاخ وسمير تريكي وجدناها حالة جوهرية لهذه الإشارات، قابلة للانتظام الجبري والبرمجة الشطرنجية بحيث ترفع الحدود بين التجريد والتشخيص. وهي أهم خصائص المحترف التونسي.

***
تتمثل «الفرانكفونية» التشكيلية من خلال تبادل الإقامة بين رواد تونس وبعض من الفنانين الفرنسيين (مثل كاستيلي) بالتبادل بين باريس وتونس، فأبرزهم أحمد الحجري يقيم في باريس منذ عقود ومنذ أن اعترف به جان دوبوفي كممثل مركزي «للفن البكر». ثم إن قويدر التريكي درس الحفر والطباعة في «البوزار» على يد المعلم لاغرانج وهو الذي اختاره عام ١٩٧٨م لمعرض شخصي في متحف الفن المعاصر لمركز بومبيدو، فكان أول فنان عربي يعرض فيه. علينا أن ننتظر أكثر من عقد حتى نشهد معرض منى حاطوم تعرض الثانية في نفس المركز. أما رفيق الكامل فقد درس في معهد الفنون الزخرفية العليا في باريس. وحقق شبكة من العلاقات والعروض في صالات العاصمة الفرنسية. كذلك كانت دراسة أغلب فناني مدرسة تونس بمن فيهم الساحلي. أما مريم بودرباله فكانت مقيمة في باريس وعرضت في معهد العالم العربي. هم الذين أعرفهم من رواد ينتمون إلى جيلي أما العديد من الذين جايلو بودربلا (مولودون بعد عام ١٩٦٠م) لم أتعرف عليهم في تونس أو باريس، لذلك اقتصرت في الدراسة على هؤلاء:

الخمسة الكبار
١- أحمد الحجري: من مواليد عام ١٩٤٨م، استرجعته تونس بفضل كتاب نقدي نادر عن مسيرته أنجزه الشاعر التعددي على لواتي النموذج الإبداعي لتقاليد النهضة العربية المتوسطية التنويرية. والفنان عصامي علم نفسه بنفسه وقد لاقت عوالمه العائلية الحميمية شهرة في الأوساط الفنية الفرنسية. تبدو شخوصه الحميمية عائمة في فراغ متحرر من الجاذبية الأرضية. يقع أحكام تكويناته من خلال خصائص تعددية مواقع النظر وتعددية مصادر الضوء. ثنائية الأبعاد من خلال التصوير دون ظل أو نور. هو النموذج المثالي في المغرب العربي لتناسل الفن الشعبي من الموروث التنزيهي النخبوي للمنمنمات وخيال الظل كما أسلفنا.

أحمد الحجري.. تبدو شخوصه الحميمية عائمة في فراغ متحرر من الجاذبية الأرضية




















٢- قويدر التريكي: من مواليد ١٩٤٩م يستعير في لوحاته (خاصة الورقية) قياسا مقاربا لرسوم المخطوطات (المنمنمات). ابتدأ تجريده بمجهريات قريبة من الفرنسي ميشو، ثم وبتأثير منهج الحجري الحدسي والكامن بصوره في اللاشعور الجمعي، ينبش مشاهد فينيقية حميمية، مصوراً بديناميكية احتشادية مائلة تدافع المحاربين أو البشر أو الطيور، مستثمراً خبرته الاختصاصية في الحفر والطباعة. ثم نجده يهجر محترفه الباريسي خاضعاً لنكوص فعال في العودة إلى الزراعة في حقل والده في تونس.

قويدر التريكي.. يستعير في لوحاته (خاصة الورقية) قياسا مقاربا لرسوم المخطوطات (المنمنمات) 



















٣- رفيق الكامل: من مواليد عام ١٩٤٤م، هو التجريدي الأول بلوحاته المجهرية العملاقة، تعتمد فناءاته اللونية الملغزة على تحولات لانهائية لمفردة تشكيلية فراكتالية خلوية أشد بلاغة من أعمال «فيالا» وجماعة «السطح والأساس» في ثورة ١٩٦٨م. لا يفرق بين التجريد والتشخيص شبه الاستشراقي الحميم، تجذبه من خلاله مغناطيسية المكان المشرقي بعمائره وأبدية مناخاته العريقة.

 رفيق الكامل..  التجريدي الأول بلوحاته المجهرية العملاقة


















٤- عبد الرزاق الساحلي: من مواليد ١٩٤١م في «حمامات» التي عاد إليها بعد إنهاء دراسته وبقي محترفه فيها، ينهل من الإشارات المعمرة فينيقياً ومتوسطياً، وذلك إثر إقامته المديدة في فرنسا ما بين عامي ١٩٧٠و١٩٨٧م. تقدمه الفيلسوفة المبدعة رشيدة تريكي في معرض مشترك في معهد العالم العربي عام ١٩٩٥م وذلك من خلال نص علم جمال بليغ، ينقب عن المعاني الدلالية والمجازية في أوقيانوس إشاراته، هي التي تمثل أبجديته الشمولية.

٥- مريم بودربالا: من مواليد ١٩٦٠م تونس، ومقيمة في باريس بشكل دائم. تقع تعدديتها الأسلوبية في برزخ متوسط بين الرواد الأربعة والجيل الشاب التالي (مواليد ما بعد السبعين)، عرضت على رأسهم في معهد العالم العربي في تظاهرة بعنوان: «انعتاق» عام ٢٠١٢م فكانت أنضجهم، خاصة وأن ماضيها يحمل انعطافات تستثمر فيها موروث خيال الظل والسير الشعبية. تظل مثل أبناء جيلها منحازة إلى الحداثة المتحررة من ربقة التراث وأصفاد الاستشراق والتجريد الغنائي، تنطلق مثلهم في بحوث مستقبلية تتجاوز حدود ما سبق من تاريخ التيارات المعروفة. قد تكون «دادائية» محلية شمولية جديدة قرينة موسيقى الراب والهيب هوب.
لا شك في أن كوكبة المحترف التونسي بشتى أطيافها وأجيالها تقع بين قطبي جذب: الذاكرة النهضوية المحلية والصبوة الشمولية التي تتجاوز خارطة المتوسط.