Print
ميسون شقير

"انسيرياتيد" فيلم الصرخة السورية الطازجة

4 يونيو 2018
سينما


يقول المخرج والشاعر "كريمستاني"، الذي يلقب بذئب الشعر والسينما ويعد أول شاعر بصري على خريطة العالم: "من أجل الوصول/ إلى الجنة/ يتحتم العبور/ من طريق الجحيم".
 
هذا ما حاوله المخرج النرويجي فليب ليون، حين أخرج أهم عمل سينمائي حتى الآن يتناول الكارثة الإنسانية السورية بمنتهى الواقعية والنبض وحقق تصوراً سينمائياً، غير مألوف، ويردفه بصوت بصري قوي للعالم وبرؤية خاصة.

"انسيرياتيد" أو السوريون المحاصرون، الفيلم الحاصل على تسع جوائز سينمائية عالمية، عُرض في تظاهرة سينما الواقع في مدريد، ثم عُرض مرة ثانية ضمن دعوة وجّهها البيت العربي في مدريد للمخرج شخصيا، الذي أدار بعد الفيلم حوارا تبنى فيه المخرج الثورة السورية كنتيجة قائمة مهما تأخر زمنها، ودافع بشراسة عن حق هذا الشعب في الحياة، وعن حقه في ثورته، وعن البعد الحضاري والمدني الذي كان يحمله هذا الشعب ردا على التساؤلات التي طرحها الحضور؛ إذ تبنى بعضها فكرة شيطنة الثورة، وتحويلها إلى مجرد إرهاب سلفي، وتجهيل الشعب السوري وتحويله إلى مجرد قطيع يقاد من عقول عمياء، لكن البعد الإنساني الطافح الذي يقدمه العمل، والشخصيات الحقيقية الطاعنة بخوفها ورعبها وفي نفس الوقت بعمق وعيها بحبها للحياة، هو ما جعل فيلم "انسرياتيد" أو "في سوريا المحاصرة"، أو "السوريون المحاصرون"، أن يقدم الصرخة السورية طازجة وحقيقية، وأن يأتي بمنجز بصري حسّي سمعي قادر على ترك شحنة من الأثر العميق غير المفتعل وغير المزود به، وقادرة على إعادة السؤال الأخير إلى أوله: "كيف يمكن لنا أن ننجو في هذه المحرقة نحن وإنسانيتنا معا؟ كيف يمكن للسوري أن يواجه الموت المتربص به عند كل مفصل من مفاصل الزمان والمكان اللذين يحيطان به؟ وكيف يمكن لأم أن تنقذ ما تبقى لها من رائحة شراشف بيتها ومن أولادها، مع البقاء في حالة توازن ورضى عن نفسها؟ وكيف يمكن لشعب حلم فقط بغد أفضل أن يتحول إلى ملحمة تراجيدية إنسانية لمجرد القدرة على الاستمرار في العيش ليوم جديد؟".

لم ينشغل الفيلم بالتسميات، لكنك تعرف من الدقائق الأولى أن الفيلم كله يدور حول تفاصيل حياة عائلة سورية من الطبقة الاجتماعية الوسطى في بيت في ضواحي دمشق/ النفس العام للعائلة؟ هو ضد القمع العنيف الذي واجه فيه النظام السوري شعبه، والأحداث توصل إليك العهر الأمني والرعب المخابراتي من دون أن تسمي، الصورة تتكلم وتقول، الحدث المشغول على تفاصيله هو الذي يصرخ/ اغتصاب لزائرة في البيت مع طفلها الرضيع/ اغتصاب متتال من رجال الأمن، وكل واحد يحمل الطفل ريثما يكمل آخر عملية اغتصابه للجارة الصبية الأم التي تعج بالأنوثة، ولكن الذروة الحقيقية والأهم التي تأسر المشاهد في كل مكان بالعالم، هي ذلك الصراع الذي عاشه باقي أفراد الأسرة بأن تتدخل لتحمي الجارة من عملية الاغتصاب، التدخل الذي يعني أن تفقد حياتك، أو أن تكون مكانها، وعدم التدخل الذي يعني أنك فقدت نفسك للأبد.

التفاصيل التي صنعت العمل هي تفاصيل بسيطة ليوم من أيام عائلة حاصرتها الحرب داخل جدران بيتها الوحيد الذي بقي مسكونا في تلك البناية، الأم التي أدت دورها الممثلة والمخرجة الفلسطينية هيام عباس، هي محور الأزمة الحقيقي بكل قدراتها التعبيرية القادمة من معاناة شعب كامل جرب الحرب الأولى والثانية والثالثة، وهي التي قال عنها المخرج: "هيام عباس هي العين السورية في الإخراج، هي المؤسسة لطعم الحياة الدمشقية لأسرة علمانية تعيش فيها، وذلك من حيث الديكور، الشراشف، الستائر، النظافة، المكتبة، الناقلة لتفاصيل الخوف وأهوال العالم الذي يحيط بهذه الشقة من دون أن تخرج الكاميرا لحظة خارج الشقة".

المخرج أيضا في حواره قال: "لقد عملت لمدة ستة أشهر متواصلة مع الكادر المؤلف من اثنين وأربعين سورياً وسورية، وأدركت إلى أي عمق حضاري وفكري ومدني يعود هذا الشعب، وكم من القدرة على صناعة الحياة يمتلك، وكيف استطاعوا أن يصنعوا معي فيلمهم، وأن يعلموني الكثير".

الفيلم يترك لك الباب مواربا على كل النهايات المحتملة، الجار الذي خرج ليجلب الحليب والحفاضات لرضيعه والذي أصابته رصاصة قناص، نكتشف أنه لم يزل حيا، نزف طويلا، فاقدا للوعي، الجارة المغتصبة تستحم بعد اغتصابها، وتعرف أن كل ماء العالم لن ينظف روحها بعد الآن، ولا تعرف مشاعرها تجاه جيرانها الذين سمعوها تغتصب ولم يتدخلوا، تحمل ابنها الرضيع وتتمسك به كأنه آخر ما تبقى وتوغل فقط في أن يرضع قليلا.

الجد الكهل يدخن وينتظر الأذان، ويقول جملة تختصر الحقيقة "العالم برا ما عاد يسوى فرنك"، الشابة تسرق العشق مع حبيبها من قلب الموت، الأم ترفض أن تترك بيتها، شخصيتها، حياتها، وطنها، وبعفوية أنثى تبني وغريزة أم تحمي وتعرف، تناضل للحياة والبقاء بعكس مفهوم الهروب السريع، تتمسك هيام عباس الفلسطينية ببيتها هذا كأنها تتمسك بماضيها، وحضارتها، وكرامتها، كأنها تتمسك بحقها الوحيد الذي تدركه، بيتها، الذي لم ولن يكون يوما مجرد جدران من الإسمنت المسلح، وأبواب من الخشب، بيتها الذي هو ضحكات أبنائها، صرخاتهم الأولى للحياة، رائحة جمعتهم على مائدة الطعام، طعم الحب مع زوجها في غرفتها، أحلام كبيرة وصغيرة شكلت سقفه، كيف لها أن تقبل بالرحيل.

ينتهي العمل والأم تحاول للمرة الألف الاتصال بزوجها، ويأتيها بعض من صوت متقطع كما هي الحياة هناك، لتعيد لك الأم ما قاله يوما برتولت بريخت: "عند كل صباح، لكي أكسب قوتي، أذهب إلى السوق، حيث تباع الأكاذيب، وأنا حافل بأمل/ أصطف بين البائعين".