Print
حاتم الصكر

التشكيلي حيدر الياسري بين الكاركاتير والبورتريه: تعالقات الوصف والسرد

28 يناير 2018
تشكيل




لا تحيط كلمة كاريكاتير وحدها بوصف أعمال الفنان العراقي المغترب حيدر الياسري (1965-) ولا البورتريه أيضاً... ذلك أنه يقدم رؤية مزدوجة متلازمة تأخذ عناصرها من الفنين: الكاريكاتير والبورتريه معا. والياسري يستخدم لوصف أعماله مصطلح بورتكاتير الذي أجده نحتاً مصطلحياً موفقاً.

فالمتأمل في أعمال الياسري في معارضه ومواقع الفن التشكيلي العالمية يحس بأن ما يقدمه عبر ذلك المزج هو رؤية متكاملة لدور الكاريكاتير من جهة تركيزه على الملامح العامة، والنقاط التي تجذب المشاهد كمرتكزات للتعريف بالشخصية وسط حدث ما أو رؤية نقدية مباشرة. لكن ما يضيفه الياسري دوما للعمل الكاريكاتيري يقربه من البورتريت أو فن التصوير الشخصي الذي عرف في بداياته بالنقل الأيقوني للوجوه أو الصورة النصفية للشخصية، تماشياً مع النزعة الفوتغرافية واستمراراً للهدف الذي يرمي إليه الرسامون عند صنع نسخ نصفية أو وجوه لموديلاتهم والشخصيات المقصودة بالتصوير الزيتي أو التخطيط. هنا تتحدى الوجوه والشخصيات حرفة الفنان، وتباري مهاراته للمطابقة بين الشخص والشخصية المرسومة. هنا لا مكان للإجتهاد واختراع الرؤى وإسقاطها على المرسوم، فذلك يخل بتطابقها الذي يبغيه المتلقي والفنان معاً.

أما الطابع الإنتقادي للكاريكاتير وارتباطه بالسخرية فقد كان يحف بأوليات هذا الفن والجانب الصحافي من وظيفته على وجه الدقة. هكذا تولدت الصلة بين المتلقي والرسم الكاريكاتيري فهو يبحث عن نقاط النقد والتعديل أو التضخيم والمبالغة التي تحوّل الشكل المرسوم إلى مادة فكاهية ،قبل أن تتسع مهمة الكاريكاتير السردية فيغدو وسيلة لرسم المواقف المضحكة، مصحوباً بالكلام المكتوب لتعميق الهدف منه وهو ما شجعت الصحافة على شيوعه وانتشاره.

لكن الحداثة في الرسم لامست فني البورتريه والكاريكاتير معا. وتمثل تجربة حيدر الياسري واحدة من أكثر التجارب التشكيلية المعاصرة أهمية في هذا المجال.

يمكن لمتلقي رسوم الياسري البورتكاتيرية أن ينتبه أولاً إلى الدقة الأكاديمية في رسم الوجوه. ثم يظهر الجانب السردي عبر الامتلاء اللوني والحركي في اللوحة والاستعانة بالتفاصيل المدهشة التي تحتشد بها الأعمال.


صورة البياتي: ملائكته وشياطينه

ولنأخذ واحداً من أعمال الياسري التي نفذها في مرحلة تدوين سيرورة تشكيلية لأبرز الأدباء والكتاب والفنانين العرب. وهو رسم يمثل الشاعر العراقي الراحل عبدالوهاب البياتي. فقد لجأ الياسري أولاً إلى إظهار البراعة الأكاديمية في تقريب صورة البياتي للمتلقي. دقة في الخطوط والتعبيرات والمساحات المتاحة من الوجه لتثبيت صورة مطابقة للبياتي. لكن الحرية اللونية التي يعتمدها ستعطي للشخصية أبعاداً تقرب من الإنطباعية والإختفاء باللون. فثمة توافقات لونية مدهشة يمكن تلمسها لتشكيل الصورة المجملة والنهائية للبياتي. الخال على جهة الوجه اليمنى، ولون الشعر الأبيض علامة لكهولة البياتي، والغضون والخطوط التي يتركها الهرم على الوجه والجبين. أما العينان ففيهما إصرار وعناد ونطق متوثب وحنين حارق لمعانقة الحياة... كل ذلك أسقطه الياسري من قراءته للبياتي في سارق النار وأشعار لا تموت وأباريق مهشمة وسواها من دواينه. أما إذا اعتبرنا البورتريه هو الجانب الوصفي أو الشكلي للعمل، فإن الجانب السردي يبدو وكأنه منفصل عن الوصف. التفاصيل الجانبية التي تمثل الجزء السردي تحكي عن ديوان دال له هو من بداياته الثورية المجددة. أعني ديوانه(ملائكة وشياطين) فقد رسم الياسري ملاكاً بجناحين على الجانب الأيسر وشيطاناً بقرنين على الجهة اليمنى. وخفف من القوة الأكاديمية في رسمه فجعل الأشكال أقرب للنحافة والخطوط اللونية الخارجية. أما في الأسفل فثمة أقداح وقوارير مهشمة في إحالة مختزلة لديوانه (أباريق مهشمة)، وهو من بداياته أيضاً. لكن تمجيد الشخصية ووطنيتها وما عكسته في الشعر من مواقف وطنية وإنسانية رمز لها بالنخلتين خلف الشاعر وثور مجنح من حضارة آشور والعلم الوطني على الكتفين.


يبدو لنا من معاينة الشخصيات المرسومة أن الياسري يؤثث البورتريت والكاريكاتير بما يلم به عن منجز الشخصية أو ما عرف عنه. فجاءت صورة نزار قباني مثلاً محاطة برسم للمرأة التي كانت أبرز ثيمات شعره. كما أثبت الياسري رمزاً أو دلالة أخرى تتلخص في فهم نزار للشعر كرسم بالكلمات كما يقول في كتاباته النثرية. هكذا بدا نزار يرسم شعره بريشة في الجانب السردي من العمل، استكمالاً لما ثبت من صورته المرسومة في الجانب الوصفي.
هذا الانشطار إلى وصف وسرد يستوقف الناقد والمتلقي معاً. فالهدف الثقافي من العمل يتحقق عبرهذا الصنيع المزدوج استكمالاً لازدواجية البورتيريت والكاريكاتير.



في تفاصيل غنية كهذه سنجد استعانات ثقافية واضحة. في الرسم المتقن لبابلو بيكاسو يبدأ الجانب السردي بالخلفية التي نفذها الياسري وهي كِسَر و تفاصيل من الغورنيكا ملحمة بيكاسو الخالدة، والمقترنة بتاريخه التشكيلي في الذاكرة البشرية كارتباط المجزرة بتاريخ الشر والخراب الذي تولده الحروب.


شاربا دالي وخيالاته السوريالية

وفي رسم سلفادور دالي يتم وبقوة مدرسية يتميز بها الياسري إيضاح نزعته السوريالية وسلوكه المطابق لتفكيره وأسلوبه في الرسم. ففي الجانب الوصفي يبدو شاربا دالي المميزان ونظراته الغريبة وقامته الفارعة. فيما تتكرس في الجانب السردي تفاصيل من لوحاته الشهيرة وموتيفات من عالمه الخيالي الغريب، لاسيما لوحته إصرار الزمن ونسختها المعادة وانفجار الزمن وساعاته المتخيلة وغيرها من موتيفات وإشارات لدالي وخيالاته الجامحة.

لقد استوعب الياسري فكر دالي لكنه قدمه برؤية فنية لا تثقلها الفكرة بقدر حملها لها للتأثير في المتلقي، وتقديم مبالغة كاريكاتيرية، يعضدها البورتريت والتفاصيل التي تميز عمل الياسري واشتغالاته التشكيلية عامة.

في زاوية أخرى بعيدا عن الفنانين والأدباء يرسم الياسري صوراً لشخصيات مكافحة في تاريخ الإنسانية. كفاحها يرتبط بالحرية التي يمجدها في أعماله. الكاتبة والشاعرة الأميركية مايا أنجيلو داعية الحقوق المدنية، وقد برزت في وجهها دعة تناسب إنسانية أشعارها ومعاناتها التي عكستها في سلسلة مذكراتها أو سيرتها الذاتية، وابتسامة تكاد تردد ما قالته أنجيلو: الحب هو الذي يحررنا. وفي الجانب السردي تبدو وجوه لمعضدي فكرها كمارتن لوثر كنغ ومالكولم أكس، و إحالات لأعمال أنجيلو في الموسيقى والسينما والمسرح.

نساء حزينات
لا يقتصر عمل الياسري على البورتكاتير. إنه يقدم في موقع التشكيليين الأميركان ورسامي البورتريت نماذج من أعماله الفنية كسلسلة وجوه لنساء حزينات يعولن ويمزقن خدودهن المتغضنة، حزناً على أبناء أو أزواج تأخذهم منهن الحروب.. العويل الصامت يكاد أن يكون دوياً إذا ما تأملنا العمل طويلاً. وفي لوحة أخرى تحكي الغضون عن امرأة حاربت الزمن هذه المرة، وفقدت جمالها وصباها وركنت إلى شيخوخة حفرت أخاديد عميقة في وجهها بخطوط قاسية أسهم الإتقان المدرسي الفائق للياسري في تجسيدها وإبرازها وكأنها نحت ناتئ على أديم البشرة.
رجل مسن بزي الريف الجنوبي يجلس منكسراً بجانب صورة الفتاة الشهيرة بين العوام باسم ابنة المعيدي التي يقال إن أحد جنرالات الحرب تزوجها لفرط جمالها. وقد دخلت صورتها البيوت في الأرياف والمدن. يصنع الياسري بإعادة رسمها بجمالها وفتوتها تعارضاً مع صورة الشيخ الحزين الذي يرثي صامتا شبابه.

يقدم الفنان حيدر الياسري نموذجاً لإخلاص الفنان لأسلوبه رغم أنه يعيش في المهجر الأميركي منذ عقود، فهو لم يستجب لملصقات التحديث رغم اطلاعه على تاريخ الفن المعاصر ومنجزاته.
كما أنه وجد في صيغة المزاوجة بين البورتريت والكاريكاتير، وتحريرهما من مفهومهما التقليدي منهجاً يلبي ما في داخله من معاناة إنسانية واغتراب.

هكذا نجد الياسري يعتمد اللون وسيلة، لكن بغير انطباعية ساذجة ويلجأ للغرابة في التكوين والسرد، لكن دون ادعاءات سوريالية خادعة، ويهتم بالتفاصيل والموضوعات الحياتية، ولكن دون واقعية فجة أو مباشرة رغم الطابع الواقعي في لوحاته ومحاولة استيحاء موضوعات الحياة اليومية والجانب المأساوي منها، ممثلاً في الوجوه التي تحتشد فيها التعبيرات والتفاصيل المعضدة للغرض الإنساني للفن، والهدف من معالجة تلك الجوانب المؤثرة من المأساة العراقية الطويلة...