Print
ابتسام عازم

هيف كهرمان: المرأة، العراق أبدًا، وذاك الغزو الأميركي

8 ديسمبر 2017
تشكيل

ماذا يتبقى للاجئ/ة أو المهاجر/ة الذي يترك خلفه طفولته وحياته وبلده متجهاً إلى المجهول؟ حفنة من الذكريات، إن كان محظوظا ستكون جميلة، وحفنة أخرى من الأشياء الصغيرة التي يأخذها معه موهمًا نفسه أنها ستؤنسه إلى حين عودة. وكلما طالت تلك العودة وأصبح واضحًا أنها بعيدة، ولن تتحقق، يحكم قبضته على الذكريات والأشياء الصغيرة التي تعيده إلى الوطن المفقود. ولأنها تصبح مؤلمة كذلك فلا بد لها أن تترك أثرها على الجسد والذاكرة.

 

واحدة من تلك الأشياء الصغيرة هي "المهفّة" العراقية، وهي المروحة اليدوية التقليدية المصنوعة من الخوص (ورق النخيل)، التي وظفتها الفنانة العراقية هيف كهرمان (مواليد بغداد 1981) بشكل خلّاق للغاية، في معرض فردي لها في مدينة نيويورك يستمر حتى 20 ديسمبر/ كانون الأول في غاليري جاك شاينمان، ويحمل عنوان "إعادة نسج نقوش المهاجرين". (Re-Weaving Migrant Inscreptions).

 

تأخذ ابنة بغداد العادي واليومي - المهفة في هذه الحالة - لترسمه وتنسجه في مركز الذاكرة، التي لا تلبس فقط مجازيًا حاضر المهاجر أو اللاجئ، بل تتغلغل فعلياً إلى جسده المرسوم على اللوحة كما تخترق جسد اللوحة وتشرطه وتصبح جزءًا من نسيجه. هكذا نرى "المهفّة" تدخل في نسيج أكثر من 13 لوحة، وأجساد النساء العارية أو شبه عارية فيها، بل إنها تمزق جسد تلك اللوحات، حرفيًا، وبذلك جسد وذاكرة المهاجر المنهك ومعها تخترق أجساد تلك النساء بحيث تبدو في الكثير من الأحيان كأنها، أي المهفة وأجزاءها، جزء من ذلك الجسد بل إنها الجسد بأكمله في إحدى اللوحات. 

 



خرجت هيف كهرمان مع عائلتها من العراق عام 1991 إلى السويد، مرورًا بعدة دول، لتصبح لاجئة وهي في العاشرة من عمرها مع عائلتها التي استقرت هناك. درست في مدينة فلورنسا في إيطاليا، وكذلك في السويد الفن والتصميم الغرافيكي، قبل أن تستقر في مدينة لوس أنجليس الأميركية. تستلهم كهرمان أعمالها، التي لا تقتصر على الرسم بل كذلك النحت وكتابة النصوص للتمثيل (برفورمانس)، من ينابيع عديدة من بينها التجارب الشخصية والجمعية، كامرأة وعراقية ولاجئة ومهاجرة. يشكل الجسد، وكل ما يتعرض له من تجارب عنف وقهر وحب، مساحة ورمزا لأعمالها التي تغرف كذلك من أجناس ومدوّنة التراث العراقي والعربي والإسلامي الشرق أوسطي، كالمقامات أو المعمار. وتركت دراستها كمصممة غرافيك في إيطاليا أثرها كذلك، فتجدها تحاكي في أعمالها رسامي النهضة الأوروبيين، وخاصة الإيطاليين، كما تأثرت بتقنيات الفن الغرافيكي الياباني، خصوصًا ما يتعلق بتقنيات التكرار واللون والتوازن داخل اللوحة.

 

المعرض

التقيتُ هيف كهرمان في الغاليري قبل افتتاح معرضها بساعات. جلنا بين اللوحات حيث كان العمال يضعون اللمسات الأخيرة، وسألتها أي اللوحات من تلك المعروضة قريبة إلى قلبها ولماذا؟ ابتسمت وأخذتني إلى عدة لوحات من بينها لوحة بلا عنوان فيها ثلاث نساء تغطي أجسادهن البيضاء، بياضًا شفافًا، رسوم لبعض الأقمشة بألوان زاهية ويبدون وكأنهن منشغلات في أمر ما، من دون الالتفات إلى بعضهن بعضاً، وقالت وهي تقف أمام اللوحة وتنظر إليها وكأنها تكتشفها من جديد: "في أعمالي بهذا المعرض أشعر أنني تحررت بعض الشيء وتركت العنان للشخصيات فيها لتأخذني معها فكان الحوار أكثر انسيابية. هذه الحرية على الرغم من جمالها كانت مرعبة كذلك". ثم تشير إلى لوحة أخرى يغلب فيها الحس الجمعي على الفردي، وتؤكد أنها كانت تعمل عليها عندما أعلن الرئيسي الأميركي دونالد ترامب قراره بمنع دخول عرب ومسلمين من دول ذات أغلبية مسلمة إلى الولايات المتحدة وتأثرت بالموضوع. 






جسد اللوحات أو قماشتها من الكتان البلجيكي، الذي استوردته خصيصًا من بلجيكا، كما تشير في حديثنا ثم تلمس سطح إحدى اللوحات وتطلب مني أن أمرر يدي فوقها لتحسّس قماشتها وبشغف تبدأ شرح لعبتها مع القماش: "إذا نظرت إلى الخلفية فإن المثير في هذا النوع من قماش الكتان البلجيكي بأن لونه وكثافته تتغير بحسب السنة التي صنع فيها وحالة الطقس وكمية الماء والشمس التي تشربها... لكل قماشة حكاية... أليس هذا مدهشاً؟".

 

مياه ساكنة مياه عميقة

 

تحمل أعمال هيف كهرمان أكثر من مستوى، فهي خادعة ومغرية في البداية بألوانها وأجسادها ومحاكاتها فناني النهضة فتوهم المتأمل بسكون ضحل، لكن سرعان ما يكتشف أن مياهها الراكدة هي مياه عميقة جدًا. في بعض لوحاتها في هذا المعرض نجد مجسمات صغيرة لجنود أميركيين صُنعت من البلاستيك في الغالب واقتنتها هي لاستخدامها في العمل حيث طحنتها ووضعتها فوق القماشة واشتغلت عليها ثم أبعدتها بعدما تركت أثرها ونتوئاتها على  جسد/قماشة بعض اللوحات من دون أن يكون ذلك واضحًا لعين الزائر المتسرعة. وتشرح "لقد وجدت ذلك خلال بحثي، صفحات كاملة ولا نهائية على الإنترنت تدور حول مجسمات بلاستيكية لجنود أميركيين في حروب العراق وهم يقومون بشرائها، وبعدها تركيبها وصهرها وطليها بحيث تتطابق مع المعدات ولباسهم ومشاهد حروبهم عام 2003 في العراق ووجدت حتى بعضها عن حرب عام 1991. كان لا بدّ من أن تدخل تلك المجسمات بطريقة ما بتلك اللوحات وأن تخترق جسدها". 




 

في لوحة أخرى تأخذ هيف كهرمان مشهدًا من رسم في منشور يوزعه الجيش الأميركي على جنوده كجزء من التعليمات عند الوصول للعراق، كما توزع على العراقيين الذين لا يتقنون الإنكليزية، وفيها تعليمات بالرسوم عن كيفية الامتثال للأوامر أو التصرف. مثلاً رفع أيديهم أو فتح أفواههم للتفتيش. تجسد كهرمان المشهد بعمل لوحة تركز على رسم الفم واللسان المحشور خلف الأسنان للبحث تحته. هنا تخترق أشلاء المهفة ذلك الفم وتتداخل فيه. في تلك الصورة حتى واحد من أصغر الأعضاء لجسد العراقي، الفم، يصح عرضة للتفتيش والنبش داخله والتحرش. 

 


المهفّة والذاكرة 

 

على الرغم من استخدامها أحيانًا سعف نخيل مشابه ومصنع للذي تصنع منه المهفة العراقية التقليدية في لوحاتها، إلا أنها في الغالب قامت برسم لوحات وتلوينها على قماش الكتان البلجيكي ثم إرسالها إلى مختص يقوم بتشريطها كحبال رقيقة مستطيلة وطويلة يمكنها بعدها استخدامها داخل لوحاتها الأخرى المرسومة على نفس نوعية القماش وتقوم بشطب/ قص (اختراق جسد القماشة) مقاطع منها وتضع تلك الأشرطة، التي ترمز للمهفة العراقية وذاكرتها، داخلها. هذه العملية ليست سهلة تقنيًا وقد تعرض قماشة اللوحة للتلف وتقول في هذا السياق "ليس من السهل بتاتًا قطع تلك الخطوط أو الشطوب داخل اللوحة على قماش الكتان بعد رسمها وإدخال مادة إضافية إليها. قمت بالكثير من التجارب والتشاور مع عدة مختصين إلى أن وصلت إلى هنا حيث أردت أن اخترق وافتح القماشة بعد الرسم دون أن تتلف اللوحة أو تخرج خيوط متناثرة بسبب الشطب". 

 

وعن اختيار المهفة تقول "عندما غادرت بغداد مع والدتي وأختي قالت أمي إن علينا أن نضع كل ما سنحتاجه في حقيبة واحدة. المهفة كانت من الأشياء الصغيرة التي وضعتها هي. ثم تحولت من ضمن الأشياء التي وضعناها في ما كنّا نسميّه الركن العراقي داخل بيتنا. عندما تصبح لاجئًا في بلد غربي يصبح هذا الركن، العراقي في حالتي، مقدسًا لأن كل شيء من حولك غربي. أن تكون لاجئاً في السويد مختلف عن الولايات المتحدة ربما. في السويد من الناحية اللوجستية يتم الاعتناء بك بحيث توفر لك المساعدات والبيت، هو ما لا تحصل عليه في الولايات المتحدة. ولكن في المقابل وكأنه يتوقع منك أن تمسح ماضيك، وهذا ما شعرت به أنا بشكل شخصي، وأعتقد هذا ينطبق على أوروبا أكثر مما ينطبق على الولايات المتحدة لأسباب عديدة. لذلك تصبح هذه الزاوية العراقية مقدسة، إن صح التعبير". 



 

جسد الغريبة 

 

جسدت أعمال هيف كهرمان السابقة ثيمات مختلفة من بينها تنويعات على مقامات الحريري والمعمار البغدادي واللجوء وفقدان الوطن الأم واللغة والصوت كأداة تعذيب، كما كتبت نصوصًا عديدة استخدمت جزءا منها في عرض افتتاح معرضها النيويوركي، حيث قرأتها/عرضتها ممثلات في افتتاح المعرض. وتعطي تلك النصوص نظرة أعمق على أعمالها وتضعها في سياق أوسع. فعلى سبيل المثال تتعامل كهرمان مع ثيمة الصوت كأداة حرب وتعذيب استخدمها الأميركيون وغيرهم في الحروب. وصدرت دراسات عديدة عن الموضوع، تتناول كهرمان إحداها في واحد من نصوصها حيث يصف الكاتب كيف استخدمت إحدى الأمهات العراقيات، التي قابلها، جسدها لتغطية آذان اطفالها من أصوات المكبرات أو القنابل التي كانت تسقط على العراقيين في حرب 2003. بذلك يصبح جسد الأم الحاجز/ الحامي لأذني الطفل. تجسد كهرمان ذلك في لوحات سابقة لها بحيث استخدمت جزء من تقنيات عازل الصوت التي كانت تستخدم ووضعتها في أعمالها ومن هنا تبلورت لديها فكرة اختراق وتشريط جزء من سطح/ جسد لوحاتها التي طورتها في مجموعتها الحالية التي تتناول ثيمة المهفة.

 

 


أما مقامات الحريري فقد تناولتها كذلك في مجموعة من أعمالها المثيرة ولكن من منظور نسوي وقامت بتغيير استخدامها ومواضيعها  لتتناول الحياة اليومية  للعراقيين في يومنا هذا لكن، وعلى عكس المقامات التقليدية المكتوبة من وعن رجال، كانت النساء في مقامات/ لوحات هيف كهرمان هن الراويات وبطلات الحكايات. هذا وجسدت في مجموعة أعمالها التي تناولت عنوان "ورق"، وترمز إلى لعبة "الورق" أو "الشدة"، تاريخ العائلة وما مرت به طوال تلك السنوات. في واحد من نصوصها التي تصف تلك المجموعة الفنية المستوحاة من اللعبة تكتب "المهاجرون الذين يغادرون بلادهم يقامرون بحياتهم، كما في لعبة الورق. رحلتي إلى الغرب كانت مجموعة من الصدف، رزمة من الورق. وهنا كنت، واحدة منهم في السويد وعندما نظرت حولي (كطفلة) رأيت أبي الذي كان أستاذًا للسانيات في جامعة بغداد، الآن يكافح من أجل أن يجد عملاً كمدرس في السويد، لأن لا أحد سيوظف شخصًا غير سويدي لتدريس اللغة الإنكليزية". في إحدى اللوحات من تلك المجموعة تقطع الشخصية لسانها وهو ما يرمز عند كهرمان من جهة لفقدان التواصل مع اللغة الأم، أي العربية بهذه الحالة، ومن جهة أخرى الصراع الذي يعيشه اللاجئ/ المهاجر في تعلم اللغة الجديدة والضغط لموضعة نفسه في الفضاء الثقافي الجديد وانغماسه في اللغة الجديدة على حساب ثقافته الأم ولغته الأصلية.

 

 

أعمال هذه الفنانة العراقية لافتة ومسيرتها تظهر خطاً تصاعدياً من حيث النضج والتطور والشجاعة في الاشتباك مع ثيمات صعبة ولكنها ضرورية.